المقحمات لاشرك

الثلاثاء، 12 يناير 2021

3. الجزء الثالث من السيرة النبوية لابن كثير ج3.

    3.. الكتاب : السيرة النبوية
الجزء الثالث  الجزء الثالث من السيرة النبوية لابن كثير ج3.

ثم أخذ بيد على بن أبى طالب فقال: " هذا أخى ".
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين الذى ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلى بن أبى طالب أخوين.
وكان حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد، وجعفر بن أبى طالب ذو الجناحين ومعاذ بن جبل أخوين.
قال ابن هشام: كان جعفر يومئذ غائبا بأرض الحبشة.
قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر وخارجة بن زيد الخزرجي أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش أخوين، ويقال: بل كان الزبير وعبد الله بن مسعود أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر النجارى أخوين، وطلحة [ بن عبيد الله ] وكعب بن مالك أخوين، وسعيد بن زيد وأبى بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وأبو حذيفة ابن عتبة وعباد بن بشر أخوين، وعمار وحذيفة بن اليمان العبسى حليف عبد الاشهل أخوين.
ويقال: بل كان عمار وثابت بن قيس بن شماس أخوين.
قلت: وهذا السند من وجهين.
قال: وأبو ذر برير بن جنادة، والمنذر بن عمرو المعنق ليموت (1) أخوين، وحاطب بن أبى بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين، وسلمان وأبو الدرداء أخوين، وبلال وأبو رويحة عبدالله بن عبدالرحمن الخثعمي ثم أحد الفزع (2) أخوين.
__________
(1) هو المنذر بن عمرو بن خنيس، قتل يوم بئر معونة أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقال له: أعنق ليموت، أي سار مسرعا.
(2) ويروى القزع بالقاف.
(*)

قال: فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه.
رضى الله عنهم.
* * * قلت: وفى بعض ما ذكره نظر.
أما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى، فإن من العلماء من ينكر ذلك ويمنع صحته، ومستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لاجل ارتفاق بعضهم من بعض وليتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لاحد منهم، ولا مهاجري لمهاجري آخر، كما ذكره من مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة.
اللهم إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مصلحة على إلى غيره، فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من صغره في حياة أبيه أبى طالب، كما تقدم عن مجاهد وغيره.
وكذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار.
والله أعلم.
وهكذا ذكره لمؤاخاة جعفر ومعاذ بن جبل فيه نظر، كما أشار إليه عبدالملك بن هشام، فإن جعفر بن أبى طالب إنما قدم في فتح خيبر في أول سنة سبع كما سيأتي بيانه،
فكيف يؤاخى بينه وبين معاذ بن جبل أول مقدمه عليه السلام إلى المدينة ؟ اللهم إلا أن يقال إنه أرصد لاخوته إذا قدم حين يقدم.
وقوله: " وكان أبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين " يخالف ما رواه الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبى عبيدة بن الجراح وبين أبى طلحة.
وكذا وراه مسلم منفردا به، عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث به.

وهذا أصح مما ذكره ابن إسحاق من مؤاخاة أبى عبيدة وسعد بن معاذ.
والله أعلم.
* * * وقال البخاري: باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه.
وقال عبدالرحمن بن عوف: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينى وبين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة.
وقال أبو جحيفة: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء رضى الله عنهما.
حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن حميد، عن أنس، قال: قدم عبدالرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الانصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلنى على السوق.
فربح شيئا من أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم يا عبدالرحمن ؟ قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الانصار.
قال: " فما سقت فيها ؟ " قال: وزن نواة من
ذهب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أولم ولو بشاة ".
تفرد به من هذا الوجه.
وقد رواه أيضا في مواضع أخر، ومسلم من طرق عن حميد به.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت وحميد، عن أنس، أن عبدالرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد ابن الربيع الانصاري، فقال له سعد: أي أخى، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالى فخذه، وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها.

فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق.
فدلوه فذهب فاشترى وباع فربح فجاء بشئ من أقط وسمن.
ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ودع زعفران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مهيم ؟ " فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، قال: " ما أصدقتها ؟ " قال: وزن نواة من ذهب، قال " أولم ولو بشاة ".
قال عبدالرحمن: فلقد رأيتنى ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا وفضة.
وتعليق البخاري هذا الحديث عن عبدالرحمن بن عوف غريب، فإنه لا يعرف مسندا إلا عن أنس، اللهم إلا أن يكون أنس تلقاه عنه.
فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا حميد، عن أنس، قال: قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالاجر كله.
قال: " لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم ".
هذا حديث ثلاثى الاسناد على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب
الكتب الستة من هذا الوجه، وهو ثابت في الصحيح من [ غيره ].
وقال البخاري: أخبرنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الاعرج، عن أبى هريرة، قال: قالت الانصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.
قال: لا.
قالوا: أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة.
قالوا: سمعنا وأطعنا.
تفرد به.
وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للانصار " إن إخوانكم قد تركوا الاموال والاولاد وخرجوا إليكم " فقالوا: أموالنا بيننا

قطائع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو غير ذلك ؟ " قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: " هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم.
الثمر ".
قالوا نعم.
وقد ذكرنا ما ورد من الاحاديث والآثار في فضائل الانصار وحسن سجاياهم عند قوله تعالى: " والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم " الآية.
فصل في موت أبى أمامة أسعد بن زرارة ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، أحد النقباء الاثنى عشر ليلة العقبة على قومه بنى النجار، وقد شهد العقبات الثلاث، وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية في قول، وكان شابا، وهو أول من جمع بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم النبيت.
كما تقدم قال محمد بن إسحاق: وهلك في تلك الاشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة والمسجد يبنى، أخذته الذبحة أو الشهقة.
وقال ابن جرير في التاريخ: أخبرنا محمد بن عبدالاعلى، حدثنا يزيد بن زريع،
عن معمر، عن الزهري، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة في الشوكة.
رجاله ثقات.
قال ابن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: " بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب، يقولون: لو كان نبيا لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا "، وهذا يقتضى أنه أول من مات بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد زعم أبو الحسن بن الاثير في الغابة أنه مات في شوال بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أشهر.
فالله أعلم.
وذكر محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن بنى النجار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم لهم نقيبا بعد أبى أمامة أسعد بن زرارة فقال: " أنتم أخوالى وأنا بما فيكم وأنا نقيبكم " وكره أن يخص يها بعضهم دون بعض، فكان من فضل بنى النجار الذى يعتدون به على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم.
قال ابن الاثير: وهذا يرد قول أبى نعيم وابن منده في قولهما: إن أسعد بن زرارة كان نقيبا على بنى ساعدة، إنما كان على بنى النجار.
وصدق ابن الاثير فيما قال.
وقد قال أبو جعفر بن جرير في التاريخ: كان أول من توفى بعد مقدمه عليه الصلاة السلام المدينة من المسلمين، فيما ذكر، صاحب منزله كلثوم بن الهدم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرا حتى مات، ثم توفى بعده أسعد بن زرارة وكانت وفاته في سنة مقدمه
قبل أن يفرغ بناء المسجد، بالذبحة أو الشهقة.
قلت: وكلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف، بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس، الانصاري الاوسي، وهو من بنى عمرو بن عوف وكان شيخا كبيرا أسلم قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل بقباء نزل في منزل هذا في الليل،

وكان يتحدث بالنهار مع أصحابه في منزل سعد بن الربيع رضى الله عنهما إلى أن ارتحل إلى دار بنى النجار كما تقدم.
قال ابن الاثير: وقد قيل إنه أول من مات من المسلمين بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعده أسعد بن زرارة.
ذكره الطبري.
فصل في ميلاد عبدالله بن الزبير في شوال سنة الهجرة فكان أول مولود ولد في الاسلام من المهاجرين، كما أن النعمان بن بشير أول مولود ولد للانصار بعد الهجرة رضى الله عنهما.
وقد زعم بعضهم أن ابن الزبير ولد بعد الهجرة بعشرين شهرا.
قاله أبو الأسود.
ورواه الواقدي عن محمد بن يحيى بن سهل بن أبى حثمة عن أبيه، عن جده.
وزعموا أن النعمان ولد قبل الزبير بستة أشهر على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة.
والصحيح ما قدمنا.
فقال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء، أنها حملت بعبد الله بن الزبير، قالت: فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شئ
دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بتمرة، ثم دعا له وبرك عليه.
فكان أول مولود ولد في الاسلام.
تابعه خالد بن مخلد، عن على ابن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء أنها هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهى حبلى.

حدثنا قتيبة، عن أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أول مولود ولد في الاسلام عبدالله بن الزبير، أتوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم تمرة فلاكها ثم أدخلها في فيه، فأول ما دخل بطنه ريق النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا حجة على الواقدي وغيره، لانه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع عبدالله بن أريقط لما رجع إلى مكة زيد بن حارثة وأبا رافع ليأتوا بعياله وعيال أبى بكر، فقدموا بهم إثر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأسماء حامل متم، أي مقرب قد دنا وضعها لولدها، فلما ولدته كبر المسلمون تكبيرة عظيمة فرحا بمولده، لانه كان قد بلغهم عن اليهود أنهم سحروهم حتى لا يولد لهم بعد هجرتهم ولد، فأكذب الله اليهود فيما زعموا.
فصل وبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال من هذه السنة قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبدالله بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بى في شوال، فأى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده منى ؟ وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال.
ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن سفيان الثوري به.
وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سفيان الثوري.

فعلى هذا يكون دخوله بها عليه السلام بعد الهجرة بسبعة أشهر، أو ثمانية أشهر.
وقد حكى القولين ابن جرير، وقد تقدم في تزويجه عليه السلام بسودة كيفية تزويجه ودخوله بعائشة بعد ما قدموا المدينة، وأن دخوله بها كان بالسنح نهارا.
وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم، وفى دخوله عليه السلام بها في شوال رد لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين خشية المفارقة بين الزوجين، وهذا ليس بشئ لما قالته عائشة رادة على من توهمه من الناس في ذلك الوقت: تزوجني في شوال، وبنى بى في شوال، أي دخل بى في شوال، فأى نسائه كان أحظى عنده منى ؟ فدل هذا على أنها فهمت منه عليه السلام أنها أحب نسائه إليه، وهذا الفهم منها صحيح لما دل على ذلك من الدلائل الواضحة، ولو لم يكن إلا الحديث الثابت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص: قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال: " عائشة " قلت: من الرجال ؟ قال: " أبوها ".
فصل قال ابن جرير: وفى هذه السنة، يعنى السنة الاولى من الهجرة، زيد في صلاة الحضر، فيما قيل، ركعتان، وكانت صلاة الحضر والسفر ركعتين، وذلك بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر من ربيع الآخر لمضى ثنتى عشرة ليلة مضت.
وقال: وزعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.
قلت: قد تقدم الحديث الذى رواه البخاري من طريق معمر عن الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
وروى من طريق الشعبى عن مسروق عنها.

وقد حكى البيهقى عن الحسن البصري، أن صلاة الحضر أول ما فرضت فرضت أربعا.
والله أعلم.
وقد تكلمنا على ذلك في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى " وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة (1) " الآية.
فصل في الاذان ومشروعيته عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة النبوية قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الانصار، استحكم أمر الاسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الاسلام بين أظهرهم.
وكان هذا الحى من الانصار هم الذين تبوأوا الدار والايمان.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا كبوق يهود الدى يدعون به لصلاتهم.
ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة.
فبينما هم على ذلك رأى عبدالله بن زيد بن ثعلية بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه طاف بى هذه الليلة طائف، مر بى رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت:
__________
(1) سورة النساء 101.
(*)

يا عبدالله أتبيع هذا الناقوس ؟ فقال: وما تصنع به ؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة.
قال: ألا أدلك على خير من ذلك ؟ قلت: وما هو ؟ قال: تقول، الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، حى على الصلاة حى على الصلاة، حى على الفلاح حى على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك ".
فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبى الله والذى بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذى رأى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه.
وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق عن محمد بن إسحاق به، وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما.
وعند أبى داود أنه علمه الاقامة، قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حى على الصلاة، حى على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقد روى ابن ماجه هذا الحديث عن أبى عبيد محمد بن عبيد بن ميمون عن محمد بن سلمة الحرانى عن ابن إسحاق كما تقدم.

ثم قال: قال أبو عبيد: وأخبرني أبو بكر الحكمى أن عبدالله بن زيد الانصاري
قال في ذلك: الحمد لله ذى الجلال وذى الاكرام حمدا على الاذان كبيرا إذ أتانى به البشير من الله فأكرم بن لدى بشيرا في ليال والى بهن ثلاث * كلما جاء زادني توقيرا قلت: وهذا الشعر غريب، وهو يقتضى أنه رأى ذلك ثلاث ليال حتى أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله أعلم.
ورواه الامام أحمد، من حديث محمد بن إسحاق قال: وذكر الزهري عن سعيد ابن المسيب عن عبدالله بن زيد به نحو رواية ابن إسحاق.
عن محمد بن إبراهيم التيمى ولم يذكر الشعر.
وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن خالد بن عبدالله الواسطي، حدثنا أبى عن عبدالرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الناس لما يهمهم من الصلاة، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى.
فأرى النداء تلك الليلة رجل من الانصار يقال له: عبدالله بن زيد وعمر بن الخطاب، فطرق الانصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن به.
قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: " الصلاة خير من النوم " مرتين، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله رأيت مثل الذى رأى ولكنه سبقني.
وسيأتى تحرير هذا الفصل في باب الاذان من كتاب الاحكام الكبير.
إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

فأما الحديث الذى أورده السهيلي بسنده من طريق البزار، حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد،
حدثنا أبى، عن زياد بن المنذر، عن محمد بن على بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن على بن أبى طالب، فذكر حديث الاسراء وفيه: فخرج ملك من وراء الحجاب فأذن بهذا الاذان، وكلما قال كلمة صدقه الله تعالى، ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه، فأم بأهل السماء وفيهم آدم ونوح.
ثم قال السهيلي: وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحا لما يعضده ويشاكله من حديث الاسراء.
فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح، بل هو منكر، تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذى تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين.
ثم لو كان هذا قد سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء لاوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة.
والله أعلم.
* * * قال ابن هشام: وذكر ابن جريج قال: قال لى عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ بالناقوس ] للاجتماع للصلاة، فبينا عمر ابن الخطاب يريد أن يشترى خشبتين للناقوس إذ رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة.
فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما رأى، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم الوحى بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك: " قد سبقك بذلك الوحى ".
وهذا يدل على أنه قد جاء الوحى بتقرير ما رآه عبدالله بن زيد بن عبد ربه، كما صرح به بعضهم، والله تعالى أعلم.
(22 - السيرة 2)

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن
امرأه من بنى النجار، قالت: كان بيتى من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يوذن عليه للفجر كل غداة، فيأتى بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك.
قالت: ثم يؤذن قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة.
يعنى هذه الكلمات.
ورواه أبو داود من حديثه منفردا به.
فصل في سرية حمزة بن عبدالمطلب رضى الله عنه قال ابن جرير: وزعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة في شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر من مهاجره، لحمزة بن عبدالمطلب لواء أبيض في ثلاثين رجلا من المهاجرين، ليعترض لعيرات قريش، وأن حمزة لقى أبا جهل في ثلاثمائة رجل من قريش، فحجز بينهم مجدي بن عمرو، ولم يكن بينهم قتال.
قال: وكان الذى يحمل لواء حمزة أبو مرثد الغنوى.
فصل في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قال ابن جرير: وزعم الواقدي أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد في هذه السنة على رأس ثمانية أشهر في شوال لعبيدة بن الحارث لواء أبيض، وأمره بالمسير إلى بطن رابغ.

وكان لواؤه مع مسطح بن أثاثة، فبلغ ثنية المرة وهى بناحية الجحفة، في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصارى، وأنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء، وكان بينهم الرمى دون المسايفة (1).
قال الواقدي: وكان المشركون مائتين عليهم أبو سفيان
صخر بن حرب وهو المثبت وعندنا، وقيل كان عليهم مكرز بن حفص.
فصل قال الواقدي: وفيها، يعنى في السنة الاولى في ذى القعدة، عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص إلى الخرار لواء أبيض يحمله المقداد ابن الاسود.
فحدثني ابو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، [ عن أبيه ] قال: خرجت في عشرين رجلا على أقدامنا، أو قال: أحد وعشرين رجلا، فكنا نكمن النهار ونسير الليل، حتى صبحنا الخرار صبح خامسة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى ألا أجاوز الخرار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم.
قال الواقدي: كانت العير ستين، وكان من مع سعد كلهم من المهاجرين.
قال أبو جعفر بن جرير: وعند ابن إسحاق أن هذه السرايا الثلاث التى ذكرها الواقدي كلها في السنة الثانية من الهجرة من وقت التاريخ.
قلت: كلام ابن إسحاق ليس بصريح فيما قاله أبو جعفر لمن تأمله، كما سنورده في أول كتاب المغازى في أول السنة الثانية من الهجرة، وذلك تلو ما نحن فيه إن شاء الله.
__________
(1) المطبوعة: المسابقة.
وهو تحريف.
(*)

ويحتمل أن يكون مراده أنها وقعت هذه السرايا في السنة الاولى، وسنزيدها بسطا وشرحا إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى.
والواقدى عنده زيادات حسنة، وتاريخ محرر غالبا، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار وهو صدوق في نفسه مكثار، كما بسطنا القول في عدالته وجرحه في كتابنا الموسوم " بالتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل " ولله الحمد والمنة.
فصل وممن ولد في هذه السنة المباركة، وهى الاولى من الهجرة، عبدالله بن الزبير، فكان أول مولود ولد في الاسلام بعد الهجرة، كما رواه البخاري عن أمه أسماء وخالته عائشة أم المؤمنين ابنتى الصديق رضى الله عنهما.
ومن الناس من يقول: ولد النعمان بن بشير قبله بستة أشهر، فعلى هذا يكون ابن الزبير أول مولود ولد بعد الهجرة من المهاجرين ومن الناس من يقول إنهما ولدا في السنة الثانية من الهجرة.
والظاهر الاول، كما قدمنا بيانه، ولله الحمد والمنة، وسنشير في آخر السنة الثانية إلى القول الثاني إن شاء الله تعالى.
قال ابن جرير: وقد قيل إن المختار بن أبى عبيد وزياد بن سمية ولدا في هذه السنة الاولى (1) فالله أعلم.
وممن توفى في هذه السنة الاولى من الصحابة، كلثوم بن الهدم الاوسي، الذى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسكنه بقباء إلى حين ارتحل منها إلى دار بنى
__________
(1) الاصل: في هذه السنة الثانية.
والتصويب من تاريخ الطبري.
(*)

النجار كما تقدم، وبعده، فيها، أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بنى النجار، توفى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبنى المسجد، كما تقدم رضى الله عنهما وأرضاهما.
قال ابن جرير: وفى هذه السنة، يعنى الاولى من الهجرة، مات أبو أحيحة بماله بالطائف، ومات الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمى فيها بمكة.
قلت: وهؤلاء ماتوا على شركهم لم يسلموا لله عزوجل.

بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر ما وقع في السنة الثانية من الهجرة وقع فيها كثير من المغازى والسرايا، ومن أعظمها وأجلها بدر الكبرى التى كانت في رمضان منها، وقد فرق الله بها بين الحق والباطل، والهدى والغى.
وهذا أوان ذكر المغازى والبعوث فنقول وبالله المستعان: كتاب المغازى قال الامام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة، بعد ذكر أحبار اليهود ونصبهم العداوة للاسلام وأهله، وما نزل فيهم من الآيات، فمنهم حيى بن أخطب وأخواه أبو ياسر وجدى، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وسلام بن أبى الحقيق وهو أبو رافع الاعور، تاجر أهل الحجاز وهو الذى قتله الصحابة بأرض خيبر كما سيأتي، والربيع بن الربيع أبى الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الاشرف وهم من طئ ثم أحد بنى نبهان وأمه من بنى النضير، وقد قتله الصحابة قبل أبى رافع كما سيأتي، وحليفاه الحجاج بن عمر وكردم بن قيس لعنهم الله.
فهؤلاء من بنى النضير.
ومن بنى ثعلبة بن الفطيون (1) عبدالله بن صوريا، ولم يكن بالحجاز بعد أعلم بالتوراة منه، قلت: وقد قيل إنه أسلم.
__________
(1) الفطيون: كلمة عبرانية تطلق على كل من ولى أمر اليهود وملكهم.
(*)

وابن صلوبا، ومخيريق، وقد أسلم يوم أحد كما سيأتي، وكان حبر قومه.
ومن بنى قينقاع زيد بن اللصيت، وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان (1) وعزيز بن أبى عزيز وعبد الله بن ضيف، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضا، وبحري بن عمرو، وشأس بن عدى، وشأس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو (2) وسكين بن أبى سكين، وعدى
بن زيد، ونعمان بن أبى أوفى، أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن صيف.
وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبى رافع، وخالد وأزار بن أبى أزار.
قال ابن هشام: ويقال آزر بن أبى آزر، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وعبد الله بن سلام.
قلت: وقد تقدم إسلامه رضى الله عنه.
قال ابن إسحاق: وكان حبرهم وأعلمهم، وكان اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله.
قال ابن إسحاق: ومن بنى قريظة الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شمويل (3) وكعب بن أسد، وهو صاحب عقدهم الذى نقضوه عام الاحزاب، وشمويل بن زيد، وحبل بن عمرو بن سكينة، والنحام بن زيد، وكردم (4) بن كعب، ووهب بن زيد ونافع بن أبى نافع، وعدى بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة، وجبل بن أبى قشير، ووهب بن يهوذا: قال: ومن بنى زريق، لبيد بن أعصم، وهو الذى سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن يهود بنى حارثة: كنانة بن صوريا، ومن يهود بنى عمرو بن عوف قردم ابن عمرو، ومن يهود بنى النجار، سلسلة بن برهام.
__________
(1) الاصل: شيخان.
وما أثبته عن ابن هشام.
(2) الاصل: عمير.
وما أثبته من ابن هشام.
(3) ا.
شموال.
(4) ابن هشام: قردم.
(*)

قال ابن إسحاق: فهؤلاء أحبار يهود وأهل الشرور والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم، وأصحاب المسألة الذين يكثرون الاسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التعنت والعناد والكفر.
قال: وأصحاب النصر لامر الاسلام ليطفئوه، إلا ما كان من عبدالله بن سلام ومخيريق.
* * * ثم ذكر إسلام عبدالله بن سلام، وإسلام عمته خالدة، كما قدمناه.
وذكر إسلام مخيريق يوم أحد كما سيأتي، وأنه قال لقومه، وكان يوم السبت، يا معشر يهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق.
قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم.
ثم أخذ سلاحه وخرج وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يرى فيها ما أراه الله.
وكان كثير الاموال.
ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل حتى قتل رضى الله عنه.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بلغني: " مخيريق خير يهود ".
فصل ثم ذكر ابن إسحاق من مال إلى هؤلاء الاضداد من اليهود من المنافقين من الاوس والخزرج.
فمن الاوس: زوى بن الحارث، وجلاس بن سويد بن الصامت الانصاري، وفيه نزل: " يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم (1) " وذلك أنه قال حين تخلف عن غزوة تبوك: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر.
__________
(1) سورة التوبة.
(*)

فنماها ابن امرأته عمير بن سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر الجلاس ذلك وحلف ما قال، فنزل فيه ذلك.
قال: وقد زعموا أنه تاب وحسنت توبته حتى عرف منه الاسلام والخير.
قال: وأخوه الحارث بن سويد، وهو الذى قتل المجذر بن ذياد البلوى وقيس بن زيد أحد بنى ضبيعة يوم أحد، خرج مع المسلمين وكان منافقا، فلما التقى الناس عدا عليهما فقتلهما ثم لحق بقريش.
قال ابن هشام: وكان المجذر قد قتل أباه سويد بن الصامت في بعض حروب الجاهلية، فأخذ بثأر أبيه منه يوم أحد.
كذا قال ابن هشام.
وقد ذكر ابن إسحاق أن الذى قتل سويد بن الصامت إنما هو معاذ بن عفراء قتله في غير حرب قبل يوم بعاث، رماه بسهم فقتله.
وأنكر ابن هشام أن يكون الحارث قتل قيس بن زيد، قال: لان ابن اسحاق لم يذكره في قتلى أحد.
قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر به، فبعث الحارث إلى أخيه الجلاس يطلب له التوبة ليرجع إلى قومه، فأنزل الله، فيما بلغني عن ابن عباس: " كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين (1) " إلى آخر القصة.
قال: وبجاد بن عثمان بن عامر، ونبتل بن الحارث، وهو الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى هذا " وكان جسيما أدلم (2) ثائر شعر الرأس أحمر العينين أسفع (3) الخدين، وكان يسمع الكلام من
__________
(1) سورة آل عمران 86.
(2) الادلم: المسترخى الشفتين أو الشديد السواد.
(3) السفعة: حمرة تضرب إلى السواد.
(*)

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقله إلى المنافقين، وهو الذى قال: إنما محمد أذن، من حدثه بشئ صدقه.
فأنزل الله فيه: " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن (1) " الآية.
قال: وأبو حبيبة بن الازعر، وكان ممن بنى مسجد الضرار، وثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير، وهما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن، ثم نكثا، فنزل فيهما ذلك، ومعتب هو االذى قال يوم أحد: لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ها هنا.
فنزلت فيه الآية.
وهو الذى قال يوم الاحزاب: كان محمد يعدنا أنا نأكل كنوز كسرى وقيصر.
وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط.
فنزل فيه: " وإذ يقول المنافقون والذين
في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (2) ".
قال ابن إسحاق: والحارث بن حاطب.
قال ابن هشام: ومعتب بن قشير، وثعلبة والحارث ابنا حاطب، وهم (3) من بنى أمية بن زيد، من أهل بدر، وليسوا من المنافقين، فيما ذكر لى من أثق به من أهل العلم.
قال: وقد ذكر ابن إسحاق ثعلبة والحارث في بنى أمية بن زيد، في أسماء أهل بدر.
قال ابن إسحاق: وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وبحزج، وكان ممن بنى مسجد الضرار وعمرو بن خذام (4) وعبد الله بن نبتل، وجارية بن عامر بن العطاف، وابناه يزيد (5) ومجمع ابنا جارية، وهم ممن اتخذ مسجد الضرار، وكان مجمع غلاما حدثا قد جمع أكثر القرآن و [ كان ] يصلى بهم فيه، فلما خرب مسجد الضرار كما سيأتي بيانه بعد غزوة تبوك، وكان في أيام عمر سأل أهل قباء عمر أن يصلى بهم مجمع فقال: لا والله، أو ليس إمام المنافقين في مسجد الضرار ؟ !
__________
(1) سورة التوبة 61.
(2) سورة الاحزاب.
(3) الاصل: وهما.
وما أثبته عن ابن هشام.
(4) الاصل: حزام.
وما أثبته عن ابن هشام.
(5) ابن هشام: زيد (*)

فحلف بالله ما علمت بشئ من أمرهم.
فزعموا أن عمر تركه فصلى بهم.
قال: ووديعة بن ثابت، وكان ممن بنى مسجد الضرار، وهو الذى قال: إنما كنا نخوض ونلعب.
فنزل فيه ذلك.
قال: وخذام بن خالد، وهو الذى أخرج مسجد الضرار من داره.
قال ابن هشام، مستدركا على ابن إسحاق في منافقي بنى النبيت من الاوس: وبشر ورافع ابنا زيد.
قال ابن إسحاق: ومربع بن قيظى، وكان أعمى، وهو الذى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه وهو ذاهب إلى أحد: لا أحل لك إن كنت نبيا
أن تمر في حائطي.
وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك لرميتك بها.
فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوه فهذا الاعمى أعمى القلب أعمى البصر (1) " وقد ضربه سعد بن زيد الاشهلى بالقوس فشجه.
قال: وأخوه أوس بن قيظى، وهو الذى قال: إن بيوتنا عورة.
قال الله: " وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (2) " قال: وحاطب بن أمية بن رافع، وكان شيخا جسيما قد عسا (3) في جاهليته، وكان له ابن من خيار المسلمين يقال له يزيد بن حاطب أصيب يوم أحد حتى أثبتته الجراحات، فحمل إلى دار بنى ظفر.
فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أنه اجتمع إليه من بها من رجال المسلمين ونسائهم وهو يموت، فجعلوا يقولون: أبشر بالجنة يا بن حاطب.
قال: فنجم نفاق أبيه فجعل يقول: أجل ! جنة من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه !
__________
(1) ابن هشام: أعمى البصيرة.
(2) سورة الاحزاب 13.
(3) عسا: أسن وكبر.
(*)

قال وبشير بن أبيرق أبو طعمة سارق الدرعين، الذى أنزل الله فيه: " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم (1) " الآيات.
قال: وقزمان حليف لبنى ظفر، الذى قتل يوم أحد سبعة نفر، ثم لما آلمته الجراحة قتل نفسه وقال: والله ما قاتلت إلا حمية على قومي.
ثم مات لعنه الله.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بنى عبد الاشهل منافق ولا منافقة يعلم، إلا أن الضحاك بن ثابت كان يتهم بالنفاق وحب يهود.
فهؤلاء كلهم من الاوس.
* * * قال ابن إسحاق: ومن الخزرج: رافع بن وديعة، وزيد بن عمرو، وعمرو بن
قيس، وقيس بن عمرو بن سهل، والجد بن قيس، وهو الذى قال: ائذن لى ولا تفتني.
وعبد الله بن أبى سلول، وكان رأس المنافقين ورئيس الخزرج والاوس أيضا، كانوا قد أجمعوا على أن يملكوه عليهم في الجاهلية، فلما هداهم الله للاسلام قبل ذلك، شرق اللعين بريقه وغاظه ذلك جدا، وهو الذى قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل.
وقد نزلت فيه آيات كثيرة جدا، وفيه وفى وديعة، رچل من بنى عوف، ومالك ابن أبى قوقل وسويد وداعس، وهم من رهطه نزل قوله تعالى: " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم (2) " الآيات حين مالوا في الباطن إلى بنى النضير.
__________
(1) سورة النساء 107.
(2) سورة الحشر 12.
(*)

فصل ثم ذكر ابن إسحاق من أسلم من أحبار اليهود على سبيل التقية، فكانوا كفارا في الباطن، فأتبعهم بصنف المنافقين، وهم من شرهم: سعد بن حنيف، وزيد بن اللصيت، وهو الذى قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلنى الله عليها، فهى في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها " فذهب رجال من المسلمين فوجدوها كذلك.
قال: ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، ورافع بن حريملة، وهو الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات - فيما بلغنا -: " قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين ".
ورفاعة بن زيد بن التابوت، وهو الذى هبت الريح الشديدة يوم موته عند مرجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك فقال: " إنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار " فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة قد مات في ذلك اليوم.
وسلسلة بن برهام، وكنانة بن صوريا.
فهؤلاء من أسلم من منافقي اليهود.
* * * قال: فكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد، ويسمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون ويستهزئون بدينهم.

فاجتمع في المسجد يوما منهم أناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم إلى بعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.
فقام أبو أيوب إلى عمرو بن قيس أحد بنى النجار، وكان صاحب آلهتهم في الجاهلية، فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه وهو يقول، لعنه الله: أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة.
ثم أقبل أبو أيوب إلى رافع بن وديعة النجارى فلببه بردائه، ثم نتره نترا شديدا ولطم وجهه فأخرجه من المسجد وهو يقول: أف لك منافقا خبيثا.
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو، وكان طويل اللحية، فأخذ بلحيته وقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه جميعا فلدمه بهما لدمة (1) في صدره خر منها، قال يقول: خدشتني يا عمارة.
فقال عمارة.
أبعدك الله يا منافق، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام أبو محمد مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك
ابن النجار، وكان بدريا، إلى قيس بن عمرو بن سهل، وكان شابا وليس في المنافقين شاب سواه، فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه.
وقام رجل من بنى خدرة (2) إلى رجل يقال له الحارث بن عمرو، وكان ذا جمة، فأخذ بجمته فسحبه سحبا عنيفا على ما مر به من الارض حتى أخرجه، فجعل يقول
__________
(1) اللدم: الضرب ببطن الكف.
(2) ابن هشام: من بلخدرة.
(*)

المنافق: قد أغلظت يا أبا الحارث، فقال: إنك أهل لذلك أي عدو الله لما أنزل فيك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس.
وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخيه زوى بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا وأفف منه وقال: غلب عليك الشيطان وأمره.
ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل فيهم من الآيات من سورة البقرة، ومن سورة التوبة، وتكلم على تفسير ذلك فأجاد وأفاد.
رحمه الله.

ذكر أول المغازى وهى غزوة الابواء ويقال لها غزوة ودان وأول البعوث وهو بعث حمزة بن عبدالمطلب أو عبيدة بن الحارث كما سيأتي في المغازى.
قال البخاري: كتاب المغازى.
قال ابن إسحاق: أول ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الابواء، ثم بواط، ثم العشيرة.
ثم روى عن زيد بن أرقم أنه سئل: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: تسع عشرة، شهد منها سبع عشرة أولهن العسيرة، أو العشيرة.
وسيأتى الحديث بإسناده ولفظه والكلام عليه عند غزوة العشيرة إن شاء الله وبه الثقة.
وفى صحيح البخاري عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة.
ولمسلم عنه: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة.
وفى رواية له عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة.
وقاتل في ثمان منهن.
وقال الحسين بن واقد، عن ابن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا سبع عشرة غزوة وقاتل في ثمان، يوم بدر، وأحد، والاحزاب، والمريسيع، وقديد وخيبر، ومكة، وحنين.
وبعث أربعا وعشرين سرية.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي التنوخى، حدثنا الهيثم ابن حميد، أخبرني النعمان، عن مكحول، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثمانى

عشرة غزوة، قاتل في ثمانى غزوات، أولهن بدر، ثم أحد، ثم الاحزاب، ثم قريظة، ثم بئر معونة (1)، ثم غزوة بنى المصطلق من خزاعة، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة مكة، ثم حنين والطائف.
قوله: " بئر معونة " بعد قريظة فيه نظر، والصحيح أنها بعد أحد كما سيأتي.
قال يعقوب: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانى عشرة غزوة.
وسمعته مرة أخرى يقول: أربعا وعشرين.
فلا أدرى أكان ذلك وهما أو شيئا سمعه بعد ذلك.
وقد روى الطبراني عن الدبرى (2)، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين غزوة.
وقال عبدالرحمن بن حميد في مسنده: حدثنا سعيد بن سلام، حدثنا زكريا بن
إسحاق، حدثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة.
وقد روى الحاكم من طريق هشام، عن قتادة، أن مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه كانت ثلاثا وأربعين.
ثم قال الحاكم: لعله أراد السرايا دون الغزوات، فقد ذكرت في " الاكليل " على الترتيب بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه زيادة على المائة.
قال: وأخبرني الثقة من أصحابنا ببخارى أنه قرأ في كتاب أبى عبد الله محمد بن نصر، السرايا والبعوث دون الحروب نيفا وسبعين.
__________
(1) بئر معونة لم تكن غزوة ولم يشهدها الرسول صلوات الله عليه، بل وقع فيها العدوان على البعث الذى أرسله إلى نجد في حماية أبى البراء ملاعب الاسنة، ثم غدر بهم عامر بن الطفيل ولعلها أقحمت على الثمانية.
(2) هو أبو يعقوب اسحق بن إبراهيم بن عباد الدبرى، راوي كتب عبد الرزاق عنه، روى عنه الطبرنى وغيره.
وفى الاصل: الدرى.
محرفة.
(*) (23 - السيرة - 2)

وهذا الذى ذكره الحاكم غريب جدا، وحمله كلام قتادة على ما قال فيه نظر.
* * * وقد روى الامام أحمد عن أزهر بن القاسم الراسبى، عن هشام الدستوائى (1) عن قتادة، أن مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون.
أربع وعشرون بعثا، وتسع عشرة غزوة، خرج في ثمان منها بنفسه: بدر، وأحد، والاحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، [ والطائف ].
وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: هذه مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم التى قاتل فيها: يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم
قاتل يوم الخندق، وهو يوم الاحزاب وبنى قريظة، في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بنى المصطلق وبنى لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان، ثم حج أبو بكر سنة تسع، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر، وغزا ثنتى عشرة غزوة ولم يكن فيها قتال، وكانت أول غزاة غزاها الابواء.
وقال حنبل بن هلال، عن إسحاق بن العلاء، عن عبدالله بن جعفر الرقى، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري قال: أول آية نزلت في القتال: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا " الآية بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
فكان أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان.
__________
(1) هو أبو بكر هشام بن أبى عبدالله الدستوائى البصري البكري، كان يبيع الثياب الدستوائية فنسب إليها.
روى عن قتادة وأبى الزبير المكى.
مات سنة ثلاث أو أربع وخمسين ومائة.
اللباب 1 / 419 (*)

إلى أن قال: ثم غزا بنى النضير، ثم غزا أحدا في شوال، يعنى من سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع، ثم قاتل بنى لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قاتل يوم الفتح في شعبان سنة ثمان، وكانت حنين في رمضان سنة ثمان.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة غزوة لم يقاتل فيها، فكانت أول غزوة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الابواء، ثم العشيرة، ثم غزوة غطفان، ثم غزوة بنى سليم، ثم غزوة الابواء، ثم غزوة بدر الاولى، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة الصفراء، ثم غزوة تبوك آخر غزوة.
ثم ذكر البعوث.
هكذا كتبته من تاريخ الحافظ ابن عساكر، وهو غريب جدا، والصواب ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله مرتبا.
وهذا الفن مما ينبغى الاعتناء به والاعتبار بأمره والتهيؤ له، كما رواه محمد بن عمر الواقدي، عن عبدالله بن عمر بن على، عن أبيه، سمعت على بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازى النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن.
قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبدالله يقول: سمعت عمى الزهري يقول: في علم المغازى علم الآخرة والدنيا.
* * * وقال محمد بن إسحاق في المغازى، بعد ذكره ما تقدم مما سقناه عنه، من تعيين رءوس الكفر من اليهود والمنافقين، لعنهم الله أجمعين وجمعهم في أسفل سافلين.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله به من جهاد عدوه وقتال من أمره به ممن يليه من المشركين.
قال: وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين حين أشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل، لثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الاول، ورسول الله صلى

الله عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله بثلاث عشرة سنة.
فأقام بقية شهر ربيع الاول وشهر ربيع الآخر وجمادين ورجبا وشعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة، وولى تلك الحجة المشركون، والمحرم.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا في صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ ودان وهى غزوة الابواء.
قال ابن جرير: ويقال لها
غزوة ودان أيضا.
يريد قريشا وبنى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذى وادعه منهم مخشى بن عمرو الضمرى، وكان سيدهم في زمانه ذلك.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية صفر وصدرا من شهر ربيع الاول.
قال ابن هشام: وهى أول غزوة غزاها عليه السلام.
قال الواقدي: وكان لواؤه مع عمه حمزة، وكان أبيض.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد المناف بن قصى في ستين، أو ثمانين، راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الانصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقى بها جمعا عظيما من قريش، فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبى وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمى به في سبيل الله في الاسلام.
ثم انصرف القوم عن القوم، وللمسلمين حامية، وفر من المشركين إلى المسلمين

المقداد بن عمرو البهرانى حليف بنى زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنى حليف بنى نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار.
قال ابن إسحاق: وكان على المشركين يومئذ عكرمة بن أبى جهل.
وروى ابن هشام عن [ ابن (1) ] أبى عمرو بن العلاء، عن أبى عمرو المدنى أنه قال: كان عليهم مكرز بن حفص.
قلت: وقد تقدم عن حكاية الواقدي قولان: أحدهما أنه مكرز، والثانى أنه أبو سفيان صخر بن حرب، وأنه رجح أنه أبو سفيان.
فالله أعلم.
* * *
ثم ذكر ابن إسحاق القصيدة المنسوبة إلى أبى [ بكر ] الصديق في هذه السرية التى أولها: أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث (2) * أرقت وأمر في العشيرة حادث ترى من لؤى فرقة لا يصدها * عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا * عليه وقالوا لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا * وهروا هرير المجحرات اللواهث (3) القصيدة إلى آخرها، وذكر جواب عبدالله بن الزبعرى في مناقضتها التى أولها: أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث (4) * بكيت بعين دمعها غير لابث ومن عجب الايام، والدهر كله * له عجب من سابقات وحادث
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الدمائث: اللينة.
(3) هروا.
وثبوا.
والمجحرات: الكلاب التى ألجئت إلى أجحارها.
(4) العثاعث: أكداس الرمل، جمع عثعث.
(*)

لجيش أتانا ذى عرام يقوده * عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث لنترك أصناما بمكة عكفا * مواريث موروث كريم لوارث وذكر تمام القصيدة، وما منعنا من إيرادها بتمامها إلا أن الامام عبد الملك بن هشام رحمه الله وكان إماما في اللغة، ذكر أن كثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين.
قال ابن إسحاق: وقال سعد بن أبى وقاص في رميته تلك فيما يذكرون: ألا هل أتى رسول الله أنى * حميت صحابتي بصدور نبلى أذود بها أوائلهم ذيادا * بكل حزونة وبكل سهل فما يعتد رام في عدو * بسهم يا رسول الله قبلى
وذلك أن دينك دين صدق * وذو حق أتيت به وفضل (1) ينجى المؤمنون به ويخزى * به الكفار عند مقام مهل (2) فمهلا قد غويت فلا تعبنى * غوى الحى ويحك يا بن جهل قال أبن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد.
قال ابن إسحاق: فكانت راية عبيدة، فيما بلغنا أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام لاحد من المسلمين.
وقد خالفه الزهري وموسى بن عقبة والواقدى، فذهبوا إلى أن بعث حمزة قبل بعث عبيدة بن الحارث.
والله أعلم.
وسيأتى في حديث سعد بن أبى وقاص أن أول أمراء السرايا عبدالله بن جحش الاسدي.
قال ابن إسحاق: وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الابواء قبل أن يصل إلى المدينة.
وهكذا حكى موسى بن عقبة عن الزهري.
__________
(1) ابن هشام: وعدل.
(2) وتروى: سهل.
(*)

فصل قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الانصار أحد، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهنى، وكان موادعا للفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال.
قال ابن إسحاق: وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا، فشبه ذلك على الناس.
قلت: وقد حكى موسى بن عقبة عن الزهري، أن بعث حمزة قبل عبيدة بن
الحارث، ونص على أن بعث حمزة كان قبل غزوة الابواء، فلما قفل عليه السلام من الابواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين من المهاجرين.
وذكر نحو ما تقدم.
وقد تقدم عن الواقدي أنه قال: كانت سرية حمزة في رمضان من السنة الاولى، وبعدها سرية عبيدة في شوال منها.
والله أعلم.
وقد أورد ابن إسحاق عن حمزة رضى الله عنه شعرا يدل على أن رايته أول راية عقدت في الاسلام، لكن قال ابن إسحاق: فإن كان حمزة قال ذلك فهو كما قال، لم يكن يقول إلا حقا، والله أعلم أي ذلك كان.
فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا: فعبيدة أول، والقصيدة هي قوله: ألا يا لقومي للتحلم والجهل * وللنقص من رأى الرجال وللعقل وللراكبينا بالمظالم لم نطأ * لهم حرمات من سوام ولا أهل

كأنا تبلناهم ولا تبل (1) عندنا * لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل وأمر بإسلام فلا يقبلونه * وينزل منهم مثل منزلة الهزل فما برحوا حتى انتدبت لغارة * لهم حيث حلوا أبتغى راحة الفضل بأمر رسول الله أول خافق * عليه لواء لم يكن لاح من قبلى لواء لديه النصر من ذى كرامة * إله عزيز فعله أفضل الفعل عشية ساروا حاشدين وكلنا * مراجله من غيظ أصحابه تغلى فلما تراءينا أناخوا فعقلوا * مطايا وعقلنا مدى غرض النبل وقلنا لهم حبل الاله نصيرنا * وما لكم إلا الضلالة من حبل فثار أبو جهل هنالك باغيا * فخاب ورد الله كيد أبى جهل وما نحن إلا في ثلاثين راكبا * وهم مائتان بعد واحدة فضل فيال لؤى لا تطيعوا غواتكم * وفيئوا إلى الاسلام والمنهج السهل
فإنى أخاف أن يصب عليكم * عذاب فتدعوا بالندامة والثكل قال: فأجابه أبو جهل بن هشام لعنه الله فقال: عجبت لاسباب الحفيظة والجهل * وللشاغبين بالخلاف وبالبطل وللتاركين ما وجدنا جدودنا * عليه ذوى الاحساب والسؤدد الجزل ثم ذكر تمامها.
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين لحمزة رضى الله عنه ولابي جهل لعنه الله.
__________
(1) تبلناهم: عاديناهم.
وفى الاصل: بتلناهم محرفة.
(*)

غزوة بواط من ناحية رضوى قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الاول، يعنى من السنة الثانية، يريد قريشا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون.
وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد بن أبى وقاص وكان مقصده أن يعترض لعير قريش وكان فيه أمية بن خلف ومائة رجل وألفان وخمسمائة بعير.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى [ الاولى ].
غزوة العشيرة ثم غزا قريشا.
يعنى (1) بذلك الغزوة التى يقال لها غزوة العشيرة وبالمهملة، والعشير وبالمهملة، والعشيراء وبالمهملة (2).
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الاسد.
قال الواقدي: وكان لواؤه مع حمزة بن عبدالمطلب.
قال: وخرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام.
قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بنى دينار، ثم على فيفاء الخيار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها ذات الساق، فصلى عندها فثم مسجده، فصنع له عندها
__________
(1) أي ابن إسحق.
(2) يريد حكاية الاقوال التى وردت في اسم تلك الغزوة، فهى: العشيرة مصغرة وتروى بالسين.
والعشير مصغرة بدون هاء في آخره وتروى كذلك بالسين.
والعشيراء مصغرة ممدودة وتروى بالسين.
(*)

طعام فأكل منه وأكل الناس معه، فرسوم (1) أثافى البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له المشيرب.
ثم ارتحل فترك الخلائق (3) بيسار وسلك شعبة عبدالله، ثم صب للشاد (3) حتى هبط يليل (4)، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة، ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصخيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع.
فأقام بها جمادى الاولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.
وقد قال البخاري: حدثنا عبدالله، حدثنا وهب، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم فقيل له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ؟ قال: تسع عشرة.
قلت (5): كم غزوة أنت معه ؟ قال: سبع عشرة غزوة.
قلت: فأيهن كان أول ؟ قال العشير، أو العسير.
فذكرت لقتادة فقال: العشير.
وهذا الحديث ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة، ويقال بالسين، وبهما مع خذف التاء، وبهما مع المد.
اللهم إلا أن يكون المراد [ أول ] غزاة شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن أرقم العشيرة، وحينئذ لا ينفى أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها
زيد بن أرقم، وبهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث.
والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق: ويومئذ (6) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى ما قال.
__________
(1) ابن هشام: فموضع.
(2) الخلائق جمع خلية وهى البئر التى لا ماء فيها، وهى آبار معلومة.
الروض (3) صوبها الخشنى بأنها: صب لليسار.
(4) الاصل: ملل وهو تحريف.
وما أثبته عن ابن هشام.
ويليل: قرية قرب وادى الصفراء من أعمال المدينة.
(5) البخاري: قيل، والقائل هو أبو إسحق السبيعى.
(6) ابن هشام: وفى تلك الغزوة قال.
(*)

فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم (1)، عن محمد بن كعب القرظى، حدثنى أبو يزيد محمد ابن خيثم (1)، عن عمار بن ياسر، قال: كنت أنا وعلى بن أبى طالب رفيقين في غزوة العشيرة [ من بطن ينبع (2) ] فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا، فصالح بها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة فوادعهم، فقال لى على بن أبى طالب: هل لك يا أبا اليقظان أن نأتى هؤلاء النفر من بنى مدلج يعملون في عين لهم، ننظر كيف يعملون ؟ فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة فغشينا النوم، فعمدنا إلى صور (3) من النخل في دقعاء (4) من الارض فنمنا فيه، فو الله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا بقدمه، فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى: [ مالك (5) ] يا أبا تراب ؟ لما عليه من التراب، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: " ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين ؟ " قلنا: بلى يا رسول الله.
فقال " أحيمر ثمود الذى عقر الناقة، والذى يضربك يا على على هذه، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه (6)، حتى تبل منها هذه، ووضع يده على لحيته ".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه له شاهد من وجه آخر في تسمية على أبا تراب،
كما في صحيح البخاري، أن عليا خرج مغاضبا فاطمة، فجاء المسجد فنام فيه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عنه فقالت خرج مغاضبا فجاء إلى المسجد فأيقظه وجعل يمسح التراب عنه ويقول: " قم أبا تراب قم أبا تراب ".
__________
(1) الاصل: خثيم.
وما أثبته عن ابن هشام.
(2) ليست في ابن هشام.
وبعدها اختلاف كثير عن نص ابن هشام.
(3) الصور: صغار النحل.
(4) الدقعاء: التراب.
(5) من ابن هشام.
(6) هامش ابن هشام: على قرنه.
(*)

غزوة بدر الاولى قال ابن إسحاق: ثم لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من العشيرة إلا ليالى قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح (1) المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان من ناحية بدر، وهو غزوة بدر الاولى، وفاته كرز فلم يدركه.
وقال الواقدي: وكان لواؤه مع على بن أبى طالب.
قال ابن هشام والواقدى: وكان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام جمادى ورجبا وشعبان، وقد كان بعث بين يدى ذلك سعدا في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز.
قال ابن هشام: ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة.
ثم رجع ولم يلق كيدا.
هكذا ذكره ابن إسحاق مختصرا وقد تقدم ذكر الواقدي لهذه البعوث الثلاثة، أعنى بعث حمزة في رمضان، وبعث عبيدة في شوال، وبعث سعد في ذى القعدة كلها في السنة الاولى.
وقد قال الامام أحمد: حدثنى عبد المتعال بن عبد الوهاب، حدثنى يحيى بن سعيد، وقال عبدالله بن الامام أحمد: وحدثني سعيد بن يحيى بن سعيد الاموى، حدثنا أبى، حدثنا المجالد، عن زياد بن علاقة، عن سعد بن أبى وقاص، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى
__________
(1) الشرح: ما يرعى من النعم.
(*)

نأتيك وقومنا، فأوثق لهم، فأسلموا.
قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب ولا نكون مائة، وأمرنا أن نغير على حى من بنى كنانة إلى جنب جهينة، فأغرنا عليهم وكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام ؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون ؟ فقال بعضنا: نأتى نبى الله فنخبره.
وقال قوم: لا بل نقيم ها هنا.
وقلت أنا في أناس معى: لا بل نأتى عير قريش فنقطعها.
وكان الفئ إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له.
فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه الخبر فقام غضبان محمر الوجه، فقال: " أذهبتم من عندي جميعا ورجعتم متفرقين ! إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لابعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش ".
فبعث علينا عبد الله بن جحش الاسدي، فكان أول أمير في الاسلام.
وقد رواه البيهقى في الدلائل من حديث يحيى بن أبى زائدة، عن مجالد به نحوه.
وزاد بعد قولهم لاصحابه: لم تقاتلون في الشهر الحرام ؟ فقالوا: نقاتل في الشهر الحرام من أخرجنا من البلد الحرام.
ثم رواه من حديث أبى أسامة، عن مجالد، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك، عن سعد بن أبى وقاص، فذكر نحوه فأدخل بين سعد وزياد قطبة بن مالك
وهذا أنسب.
والله أعلم.
وهذا الحديث يقتضى أن أول السرايا عبدالله بن جحش الاسدي، وهو خلاف ما ذكره ابن إسحاق أن أول الرايات عقدت لعبيدة بن الحارث بن المطلب، وللواقدي حيث زعم أن أول الرايات عقدت لحمزة بن عبد المطلب.
والله أعلم.

باب سرية عبدالله بن جحش التى كان سببها (1) لغزوة بدر العظمى، وذلك يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الاسدي في رجب مقفله من بدر الاولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الانصار أحد، وهم أبو حديفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن حرثان حليف بنى أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان حليف بنى نوفل، وسعد بن أبى وقاص الزهري، وعامر بن ربيعة الوائلي حليف بنى عدى، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بنى عدى أيضا، وخالد بن البكير أحد بنى سعد بن ليث حليف بنى عدى أيضا، وسهل بن بيضاء الفهرى، فهؤلاء سبعة ثامنهم أميرهم عبدالله بن جحش رضى الله عنه.
وقال يونس عن ابن إسحاق: كانوا ثمانية وأميرهم التاسع.
فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكتب له كتابا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.
فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: " إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم ".
فلما نظر في الكتاب قال: سمعا وطاعة.
وأخبر أصحابه بما في الكتاب.
وقال: قد نهانى أن أستكره أحدا
منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) كذا، ولعلها: التى كانت سببا.
(*)

فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران، أضل سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة.
فمرت عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبدالله ابن عباد [ أحد (1) ] الصدف (2).
وعثمان بن عبدالله بن المغيرة المخزومى، وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقال عمار: لا بأس عليكم منهم.
وتشاور الصحابة فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام.
فتردد القوم وهابوا الاقدام عليهم.
ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبدالله فأعجزهم.
وأقبل عبدالله بن جحش وأصحابه بالعير والاسرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش أن عبدالله قال لاصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما غنمنا الخمس.
فعزله وقسم الباقي بين أصحابه، وذلك قبل أن
ينزل الخمس.
قال: ولما نزل الخمس نزل كما قسمه عبدالله بن جحش.
كما قاله ابن إسحاق.
__________
(1) من ابن هشام (2) قال ابن هشام: واسم الصدف: عمرو بن مالك.
(*)

فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " فوقف العير والاسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط (1) في أيدى القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الاموال وأسروا فيه الرجال.
فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان.
وقالت يهود: تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله.
عمرو: عمرت الحرب، والحضرمى: حضرت الحرب.
وواقد أبن عبدالله: وقدت الحرب.
فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل: قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله وكفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا (2) ".
أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، والفتنة أكبر من القتل.
أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين، ولهذا قال الله تعالى: " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن
دينكم إن استطاعوا " الآية.
* * *
__________
(1) ابن هشام: سقط.
(2) سورة البقرة 217.
(*)

قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا الامر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والاسيرين، وبعثت قريش في فداء عثمان والحكم بن كيسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا "، يعنى سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان " فإنا نخشاكم عليهما.
فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم ".
فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبدالله فلحق بمكة فمات بها كافرا.
قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا في الاجر، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله فيهم: " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " (1) فوضعهم (2) الله من ذلك على أعظم الرجاء.
قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة ابن الزبير.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه، عن الزهري، وكذا روى شعيب عن الزهري، عن عروة، نحوا من هذا وفيه: وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين.
وقال عبدالملك بن هشام: هو أول قتيل قتله المسلمون، وهذه أول غنيمة غنمها
__________
(1) سورة البقرة 218.
(2) الاصل: فوصفهم.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*) (24 - السيرة 2)

المسلمون، وعثمان والحكم بن كيسان أول من أسره المسلمون.
* * * قلت: وقد تقدم فيما رواه الامام أحمد عن سعد بن أبى وقاص أنه قال: فكان عبدالله بن جحش أول أمير في الاسلام.
وقد ذكرنا في التفسير لما أورده ابن إسحاق شواهد مسندة.
فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو محمد بن أبى حاتم، حدثنا أبى، حدثنا محمد بن أبى بكر المقدمى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثنى الحضرمي، عن أبى السوار، عن جندب بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة ابن الجراح، أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، فبعث عليهم مكانه عبدالله بن جحش وكتب له كتابا، وأمره ألا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا.
وقال: " لا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك ".
فلما قرأ الكتاب استرجع وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله.
فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع منهم رجلان وبقى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام ! فأنزل الله: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " الآية.
وقال اسماعيل بن عبدالرحمن السدى الكبير في تفسيره، عن أبى مالك، عن أبى صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، عن جماعة من الصحابة
" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " وذلك أن رسول الله صلى عليه وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبدالله بن جحش، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة، وسعد بن أبى وقاص، وعتبة بن غزوان، وسهل بن بيضاء

وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبدالله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب.
وكتب لابن جحش كتابا وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل، فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب، فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطن نخلة.
فقال لاصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإننى موص وماض لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسار، وتخلف عنه سعد وعتبة أضلا راحلة لهما فأقاما يطلبانها، وسار هو وأصحابه حتى نزل بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان والمغيرة بن عثمان وعبد الله ابن المغيرة.
فذكر قتل واقد لعمرو بن الحضرمي، ورجعوا بالغنيمة والاسيرين، فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.
وقال المشركون: إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله، وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب.
وقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى.
قال السدى: وكان قتلهم له في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى الآخرة.
* * * قلت: لعل جمادى كان ناقصا فاعتقدوا بقاء الشهر ليلة الثلاثين، وقد كان الهلال رؤى تلك الليلة.
فالله أعلم.
وهكذا روى العوفى، عن ابن عباس، أن ذلك كان في آخر ليلة من جمادى، وكانت أول ليلة من رجب ولم يشعروا.
وكذا تقدم في حديث جندب الذى رواه ابن أبى حاتم.
وقد تقدم في سياق ابن إسحاق أن ذلك كان آخر ليلة من رجب، وخافوا إن لم يتداركوا هذه الغنيمة وينتهزوا هذه الفرصة دخل أولئك في الحرم فيعتذر عليهم ذلك، فأقدموا عليهم عالمين بذلك.

وكذا قال الزهري عن عروة.
رواه البيهقى.
فالله أعلم أي ذلك كان.
قال الزهري عن عروة: فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه، حتى أنزل الله براءة.
رواه البيهقى.
* * * قال ابن إسحاق: فقال ابو بكر الصديق في غزوة عبدالله بن جحش، جوابا للمشركين فيما قالوا من إحلال الشهر الحرام.
قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش: تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالاسلام باغ وحاسد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد دما وابن عبدالله عثمان بيننا * ينازعه غل من القيد عاند فصل في تحويل القبلة في سنة ثنتين من الهجرة قبل وقعة بدر وقال بعضهم: كان ذلك في رجب من سنة ثنتين.
وبه قال قتادة وزيد بن أسلم وهو رواية عن محمد بن إسحاق.
وقد روى أحمد بن ابن عباس ما يدل على ذلك، وهو ظاهر حديث البراء بن عازب كما سيأتي.
والله أعلم.
وقيل في شعبان منها.
قال ابن إسحاق بعد غزوة عبدالله بن جحش: ويقال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

وحكى هذا القول ابن جرير من طريق السدى، فسنده عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة.
قال الجمهور الاعظم: إنما صرفت في النصف من شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.
ثم حكى عن محمد بن سعد، عن الواقدي، أنها حولت يوم الثلاثاء النصف من شعبان، وفى التحديد نظر.
والله أعلم.
وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير عند قوله تعالى: " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعلمون ".
وما قبلها وما بعدها، من اعتراض سفهاء اليهود والمنافقين والجهلة الطغام على ذلك، لانه أول نسخ وقع في الاسلام.
هذا وقد أحال الله قبل ذلك في سياق القرآن تقرير جواز النسخ عند قوله " ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ".
وقد قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، سمع زهيرا، عن أبى إسحاق، عن البراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشرا شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها إلى الكعبة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة.
فداروا كما هم قبل البيت.
وكان الذى مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله
" وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم "

رواه مسلم من وجه آخر.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله: " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام ".
قال: فوجه نحو الكعبة.
قال السفهاء من الناس، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها ؟ فأنزل الله: " قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم " * * * وحاصل الامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس رضى الله عنه، فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ان يجمع بينهما، فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة واستدبر الكعبة ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وهذا يقتضى أن يكون ذلك إلى رجب من السنة الثانية.
والله أعلم.
وكان عليه السلام يحب أن يصرف قبلته نحو الكعبة، قبلة إبراهيم، وكان يكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عزوجل، فكان مما يرفع يديه وطرفه إلى السماء سائلا ذلك فأنزل الله عزوجل: " قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " الآية.
فلما نزل الامر بتحويل القبلة خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وأعلمهم بذلك، كما رواه النسائي عن أبى سعيد بن المعلى، وأن ذلك كان وقت الظهر.
وقال بعض الناس: نزل تحويلها بين الصلاتين.
قاله مجاهد وغيره.

ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين عن البراء، أن أول صلاة صلاها عليه السلام إلى الكعبة بالمدينة العصر.
والعجب أن أهل قباء لم يبلغهم خبر ذلك إلى صلاة الصبح من اليوم الثاني، كما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر، قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها.
وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.
وفى صحيح مسلم عن أنس بن مالك نحو ذلك * * * والمقصود أنه لما نزل تحويل القبلة إلى الكعبة، ونسخ به الله تعالى حكم الصلاة إلى بيت المقدس، طعن طاعنون من السفهاء والجهلة والاغبياء، قالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها ؟ هذا والكفرة من أهل الكتاب يعلمون أن ذلك من الله، لما يجدونه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، من أن المدينة مهاجره، وأنه سيؤمر بالاستقبال إلى الكعبة كما قال: " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " الآية.
وقد أجابهم الله تعالى مع هذا كله عن سؤالهم، ونعتهم فقال: " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها.
قل: لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم " أي هو المالك المتصرف، الحاكم الذى لا معقب لحكمه، الذى يفعل ما يشاء في خلقه، ويحكم ما يريد في شرعه، وهو الذى يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، ويضل من يشاء عن الطريق القويم، وله في ذلك الحكمة التى يجب لها الرضا والتسليم.

ثم قال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " أي خيارا " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " أي وكما اخترنا لكم أفضل الجهات في صلاتكم وهديناكم إلى قبلة أبيكم إبراهيم والد الانبياء، بعد التى كان يصلى بها موسى فمن قبله من المرسلين، كذلك جعلناكم خيار الامم وخلاصة العالم وأشرف الطوائف وأكرم التالد والطارف، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس لاجماعهم عليكم وإشارتهم يومئذ بالفضيلة إليكم.
كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبى سعيد مرفوعا، من استشهاد نوح بهذه الامة يوم القيامة، وإذا استشهد بهم نوح مع تقدم زمانه فمن بعده بطريق الاولى والاحرى.
ثم قال تعالى مبينا حكمته في حلول نقمته بمن شك وارتاب بهذه الواقعة، وحلول نعمته على من صدق وتابع هذه الكائنة، فقال: " وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ".
قال ابن عباس: إلا لنرى من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
" وإن كانت لكبيرة " أي وإن كانت هذه الكائنة لعظيمة الموقع كبيرة المحل شديدة الامر، إلا على الذى هدى الله، أي فهم مؤمنون بها مصدقون لها، لا يشكون ولا يرتابون، بل يرضون ويؤمنون ويعملون، لانهم عبيد للحاكم العظيم، القادر المقتدر الحليم الخبير، اللطيف العليم.
وقوله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي بشرعته استقبال بيت المقدس والصلاة إليه: " إن الله بالناس لرءوف رحيم ".
والاحاديث والآثار في هذه كثيرة جدا يطول استقصاؤها، وذلك مبسوط في التفسير، وسنزيد بذلك بيانا في كتابنا " الاحكام الكبير ".

وقد روى الامام أحمد، حدثنا على بن عاصم، حدثنا حصين بن عبدالرحمن، عن عمرو بن قيس، عن محمد بن الاشعث، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى في أهل الكتاب: " إنهم لم يحسدونا على شئ كما يحسدوننا على يوم الجمعة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى القبلة التى هدانا الله لها وضلوا، وعلى قولنا خلف الامام آمين ".
فصل في فريضة شهر رمضان سنة ثنتين، قبل وقعة بدر قال ابن جرير: وفى هذه السنة فرض صيام شهر رمضان.
وقد قيل: إنه فرض في شعبان منها، ثم حكى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم عنه فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى.
فقال: " نحن أحق بموسى منكم " فصامه وأمر الناس بصيامه.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن ابن عباس.
وقد قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
أياما معدودات، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر (1) " الآية.
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية، من إيراد الاحاديث المتعلقة بذلك
__________
(1) سورة البقرة 183 - 185.
(*)

والآثار المروية في ذلك والاحكام المستفادة منه.
ولله الحمد.
* * * وقد قال الامام أحمد.
حدثنا أبو النضر، حدثنا المسعودي، حدثنا عمرو بن مرة، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال.
فذكر أحوال الصلاة.
قال: وأما أحوال الصيام: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء.
ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل: " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " إلى قوله: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله أنزل الآية الاخرى: " شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن " إلى قوله: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " فأثبت صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الاطعام للكبير الذى لا يستطيع الصيام.
فهذا حولان.
قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا.
ثم إن رجلا من الانصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهد جهدا شديدا فقال: " ما لى أراك قد جهدت جهدا شديدا ؟ " فأخبره قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم " إلى قوله " ثم أتموا الصيام إلى الليل (1) ".
__________
(1) سورة البقرة 187.
(*)

ورواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه، من حديث المسعودي نحوه
وفى الصحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان عاشوراء يصام، فلما نزل رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر.
وللبخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
ولتحرير هذا موضع آخر من التفسير ومن الاحكام الكبير.
وبالله المستعان.
* * * قال ابن جرير: وفى هذه السنة أمر الناس بزكاة الفطر، وقد قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل الفطر بيوم أو يومين، وأمرهم بذلك.
قال: وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد وخرج بالناس إلى المصلى، فكان أول صلاة عيد صلاها، وخرجوا بين يديه بالحربة، وكانت للزبير وهبها له النجاشي، فكانت تحمل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعياد.
قلت: وفى هذه السنة فيما ذكره غير واحد من المتأخرين فرضت الزكاة ذات النصب (1): كما سيأتي تفصيل ذلك كله بعد وقعة بدر.
إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
__________
(1) أي زكاة المال.
(*)

بسم الله الرحمن الرحيم غزوة بدر العظمى، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان قال الله تعالى: " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (1) ".
وقال الله تعالى " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون.
يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.
ليحق الحق ويبطل الباطل
ولو كره المجرمون " وما بعدها إلى تمام القصة من سورة الانفال.
وقد تكلمنا عليها هنالك.
وسنوردها هنا في كل موضع ما يناسبه.
قال ابن إسحاق رحمه الله بعد ذكره سرية عبدالله بن جحش: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبى سفيان صخر بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال وتجارة، وفيها ثلاثون رجلا، أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص.
قال موسى بن عقبة: عن الزهري، كان ذلك بعد مقتل ابن الحضرمي بشهرين.
قال: وكان في العير ألف بعير تحمل أموال قريش بأسرها إلا حويطب بن عبدالعزى، فلهذا تخلف عن بدر.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب، وعاصم بن عمر بن قتادة
__________
(1) سورة آل عمران 123.
(*)

وعبد الله بن أبى بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس، كل قد حدثنى بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: " هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها ".
فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس (1) من لقى من الركبان تخوفا على أمر (2) الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك.
فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عكرمة، عن ابن عباس ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير.
قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبدالمطلب قبل قدوم ضمضم إلى مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبدالمطلب فقالت له: يا أخى والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم على ما أحدثك.
قال لها: وما رأيت ؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالابطح ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث.
فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه: فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث.
ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقى بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة.
__________
(1) ابن هشام: يتحسس.
(2) ح: على أموال الناس.
(*)

قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها لا تذكريها لاحد.
ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة، وكان له صديقا، فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لابنه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش.
قال العباس: فغدوت لاطوف بالبيت، وأبو جهل ابن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رأني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا.
فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال أبو جهل: يا بنى عبدالمطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال: قلت: وما ذاك ؟ قال: تلك الرؤيا التى رأت عاتكة.
قال: قلت: وما رأت ؟ قال: يا بنى عبدالمطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث.
فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس: فو الله ما كان منى إليه كبير شئ، إلا أنى جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا.
قال: ثم تفرقنا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبدالمطلب إلا أتتنى فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشئ مما سمعت ؟ قال: قلت: قد والله فعلت، ما كان منى إليه من كبير، وايم الله لا تعرضن له، فإذا عاد لاكفيكنه.
قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب، أرى أنى قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه.
قال: فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إنى لامشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان حديد النظر، قال:

إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، قال: قلت في نفسي، ما له لعنه الله ؟ أكل هذا فرق منى أن أشاتمه ؟ ! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره، قد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
قال: فشغلني عنه وشغله عنى ما جاء من الامر.
فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ ! [ كلا ] (1) والله ليعلمن غير ذلك.
وذكر موسى بن عقبة رؤيا عاتكة كنحو من سياق ابن إسحاق.
قال: فلما جاء ضمضم بن عمرو على تلك الصفة، خافوا من رؤيا عاتكة فخرجوا على الصعب والذلول.
قال ابن إسحاق: فكانوا بين رجلين: إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب بن عبدالمطلب بعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة، استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني ابن أبى نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبى معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهرانى قومه، بمجمرة يحملها فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا على استجمر فإنما أنت من النساء !
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

قال: قبحك الله، وقبح ما جئت به.
قال: ثم تجهز وخرج مع الناس.
هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة.
وقد رواها البخاري (1) على نحو آخر فقال: حدثنى أحمد بن عثمان، حدثنا شريح ابن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبى إسحاق، حدثنى عمرو بن ميمون، أنه سمع عبدالله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ، أنه كان صديقا لامية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية بمكة، قال سعد لامية: انظر لى ساعة خلوة لعلى أطوف بالبيت، فخرج به قريبا
من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا صفوان من هذا معك ؟ قال: هذا سعد.
قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أو يتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لو لا أنك مع أبى صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما.
فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لامنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة.
فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبى الحكم، فإنه سيد أهل الوادي.
قال سعد: دعنا عنك يا أمية، فو الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنهم قاتلوك " قال: بمكة ؟ قال: لا أدرى.
ففزع لذلك أمية فزعا شديدا فلما رجع إلى أهله قال: يا أم صفوان ألم ترى ما قال لى سعد ؟ قالت: وما قال لك ؟.
__________
(1) في أول كتاب المغازى، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر.
(*)

قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي، فقلت له: بمكة ؟ قال: لا أدرى فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر، استنفر أبو جهل الناس، فقال: أدركوا عيركم.
فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت، وأنت سيد أهل الوادي، تخلفوا معك.
فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ غلبتني (1) فو الله لاشترين أجود بعير بمكة.
ثم قال أمية: يا أم صفوان جهزيني.
فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي ؟ قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قربيا.
فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره، فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر.
وقد رواه البخاري في موضع آخر (2)، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق به نحوه.
تفرد به البخاري.
وقد رواه الامام أحمد، عن خلف بن الوليد، وعن أبى سعيد، كلاهما عن إسرائيل وفى رواية إسرائيل قالت له امرأته: والله إن محمدا لا يكذب * * * قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير ذكروا ما كان (3) بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا
__________
(1) الاصل: عبتني.
وهو تحريف، وما أثبته من صحيح البخاري.
(2) في باب علامات النبوة.
(3) الاصل: ما كانوا.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*) (25 - السيرة - 2)

من خلفنا.
وكانت الحرب التى كانت بين قريش وبين بنى بكر في ابن لحفص بن الاخيف من بنى عامر بن لؤى، قتله رجل من بنى بكر، بإشارة عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح، ثم أخذ بثأره أخوه مكرز بن حفص، فقتل عامرا وخاض بسيفه في بطنه، ثم جاء من الليل فعلقه بأستار الكعبة، فخافوهم بسبب ذلك الذى وقع بينهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذى كان بينها وبين بنى بكر، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، وكان من أشراف بنى كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه.
فخرجوا سراعا قلت: وهذا معنى قوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط.
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم.
فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال: إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب (1) ".
غرهم لعنه الله حتى ساروا وسار معهم منزلة منزلة، ومعه جنوده وراياته، كما قاله غير واحد منهم، فأسلمهم لمصارعهم، فلما رأى الجد والملائكة تنزل للنصر وعاين جبريل نكص على عقبيه وقال: إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله.
وهذا كقوله تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر.
فلما كفر قال إنى برئ منك إنى أخاف الله رب العالمين " (2): وقد قال الله تعالى: " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (3).
__________
(1) سورة الانفال 47، 48 (2) سورة الحشر 16.
(3) سورة الاسراء 81.
(*)

فإبليس لعنه الله لما عاين الملائكة يومئذ تنزل للنصر فر ذاهبا، فكان أول من هرب يومئذ، بعد أن كان هو المشجع لهم المجير لهم، كما غرهم ووعدهم ومناهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
وقال يونس عن ابن إسحاق: خرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلا معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين.
وذكر المطعمين لقريش يوما يوما.
وذكر الاموى: أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل، نحر لهم عشرا، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا (1) فيها وأقاموا بها يوما.
فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذ عتبة بن ربيعة عشرا، ثم أصبحوا بالابواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبدالمطلب عشرا، ونحر لهم على ماء بدر أبوالبخترى عشرا، ثم أكلوا من أزوادهم.
قال الاموى: حدثنا أبى، حدثنا أبو بكر الهذلى، قال: كان مع المشركين ستون فرسا وستمائة درع، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسان وستون درعا.
هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة ومسيرهم إلى بدر.
* * * وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة.
__________
(1) في شرح المواهب: فضلوا فأقاموا يوما.
(*)

ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وكان أبيض، وبين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع على بن أبى طالب يقال لها: العقاب، والاخرى مع بعض الانصار.
قال ابن هشام: كانت راية الانصار مع سعد بن معاذ.
وقال الاموى: كانت مع الحباب بن المنذر.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الساقة قيس بن أبى
صعصعة أخا بنى مازن بن النجار.
وقال الاموى: وكان معهم فرسان، على إحداهما مصعب ابن عمير، وعلى الاخرى الزبير بن العوام، ومن [ الميمنة ] سعد بن خيثمة ومن [ الميسرة ] المقداد ابن الاسود.
وقد روى الامام أحمد من حديث أبى إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن على، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد.
وروى البيهقى من طريق ابن وهب، عن أبى صخر، عن أبى معاوية البلخى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن عليا قال له: ما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد بن الاسود، يعنى يوم بدر وقال الاموى: حدثنا أبى، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن التيمى قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فارسان، الزبير بن العوام على الميمنة، والمقداد أبن الاسود على الميسرة.
قال أبن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ومرثد بن أبى مرثد يعتقبون بعيرا، وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة [ موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم ] (1) يعتقبون بعيرا.
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

كذا قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، عن حماد بن سلمة، حدثنا عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبدالله بن مسعود، قال كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلى زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن نمشي عنك.
فقال: " ما أنتما بأقوى منى، ولا أنا بأغنى عن الاجر منكما ".
وقد رواه النسائي، عن الفلاس، عن ابن مهدى، عن حماد بن سلمة به.
قلت: ولعل هذا كان قبل أن يرد أبا لبابة من الروحاء، ثم كان زميلاه على ومرثد بدل أبى لبابة.
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبى أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالاجراس أن تقطع من أعناق الابل يوم بدر.
وهذا على شرط الصحيحين.
وإنما رواه النسائي، عن أبى الاشعث، عن خالد بن الحارث، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة به.
قال شيخنا الحافظ المزى في الاطراف: وتابعه سعيد بن بشر عن قتادة.
وقد رواه هشام عن قتادة، عن زرارة، عن أبى هريرة.
فالله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك، أن عبدالله بن كعب قال: سمعت كعب ابن مالك يقول: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أنى تخلفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها، إنما

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
تفرد به.
* * * قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذى الحليفة، ثم على أولات الجيش، ثم مر على تربان، ثم على ملل، ثم على غميس الحمام، ثم على صخيرات اليمامة، ثم على
السيالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، وهى الطريق المعتدلة.
حتى إذا كان بعرق الظبية لقى رجلا من الاعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس، سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أوفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: نعم.
فسلم عليه، ثم قال: لئن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه.
قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل على فأنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها ففى بطنها منك سخلة (1).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه أفحشت على الرجل.
ثم أعرض عن سلمة.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج، وهى بئر الروحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كان منها بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار وسلك ذات اليمين على النازية، يريد بدرا، فسلك في ناحية منها حتى إذا جزع واديا (2) يقال له رحقان (3) بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم على المضيق، ثم انصب منه، حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث
__________
(1) السخلة: ولد الضأن أو الماعز، واستعارها هنا لولد الناقة (2) جزع واديا: قطعه عرضا.
(3) الاصل: وحقان.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

بسبس (1) بن عمرو الجهنى حليف بنى ساعدة وعدى بن أبى الزغباء حليف بنى النجار إلى بدر، يتجسسان الاخبار عن أبى سفيان صخر بن حرب وعيره.
وقال موسى بن عقبة: بعثهما قبل أن يخرج من المدينة، فلما رجعا فأخبراه بخبر العير استنفر الناس إليها.
فإن كان ما ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق محفوظا فقد بعثهما مرتين.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق رحمه الله: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قدمها،
فلما استقبل الصفراء، وهى قرية بين جبلين، سأل عن جبليها ما اسماهما (2) ؟ فقالوا: يقال لاحدهما مسلح وللآخر مخرئ، وسأل عن أهلهما فقيل: بنو النار، وبنو حراق، بطنان من غفار.
فكرههما رسول الله صلى عليه وسلم والمرور بينهما وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما، فتركهما والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران، فجزع فيه ثم نزل.
* * * وأتاه الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم.
فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش.
فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن.
ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن.
__________
(1) قال الزرقائى: ويقال له بسبسة، كما وقع لجميع رواة مسلم وبعض رواة أبى داود.
والاصح ما ذكره ابن إسحق.
قال ابن الكلبى: إنه الذى أراده الشاعر بقوله: أقم لها صدورها يا بسبس * إن مطايا القوم لا تحسس (2) الاصل: ما أسماؤهما وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشيروا على أيها الناس " وإنما يريد الانصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله
إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: " أجل " قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
قال: فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: " سيروا
__________
(1) برك الغماد: قال الحازمى: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن.
وقال البكري: هي أفاصى هجر.
وقال الهمداني: هو في أقصى اليمن من شرح المواهب 1 / 412.
(*)

وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم ".
هكذا رواه ابن إسحاق رحمه الله.
وله شواهد من وجوه كثيرة.
فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، قال سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الاسود مشهدا لان أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين.
فقال: لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت
وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك.
فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره.
انفرد به البخاري دون مسلم، فرواه في مواضع من صحيحه من حديث مخارق به، ورواه النسائي من حديثه، وعنده: وجاء المقداد بن الاسود يوم بدر على فرس.
فذكره.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبيدة، هو ابن حميد، عن حميد الطويل، عن أنس، قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم مخرجه إلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقال بعض الانصار: إياكم يريد رسول الله يا معشر الانصار.
فقال بعض الانصار: يا رسول الله، إذا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن والذى بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك.
وهذا إسناد ثلاثى صحيح على شرط الصحيح.

وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة: إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لاخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس.
قال: فانطلقوا حتى نزلوا بدرا، ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود
لبنى الحجاج فأخذوه، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبى سفيان وأصحابه فيقول: ما لى علم بأبى سفيان، ولكن هذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف.
فإذا قال ذلك ضربوه، فإذا ضربوه.
قال: نعم، أنا أخبركم، هذا أبو سفيان.
فإذا تركوه فسألوه قال: ما لى بأبى سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية.
فإذا قال هذا أيضا ضربوه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، فلما رأى ذلك انصرف فقال: والذى نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذا كذبكم.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مصرع فلان، يضع يده على الارض ها هنا وها هنا، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه مسلم عن أبى بكر، عن عفان به نحوه.
وقد روى ابن أبى حاتم في تفسيره وابن مردويه، واللفظ له، من طريق عبدالله ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أسلم، عن أبى عمران، أنه سمع أبا أيوب الانصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: " إنى أخبرت عن عير أبى سفيان أنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها ؟ " فقلنا: نعم.

فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: " ما ترون في القوم، فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ " فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكنا أردنا العير.
ثم قال: " ما ترون في قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك.
فقام المقداد بن عمرو [ فقال ]: إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
قال: فتمنينا معشر الانصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد، أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم، فأنزل الله عزوجل على رسوله: " كما أخرجك ربك من بيتك
بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " وذكر تمام الحديث.
روى ابن مردويه أيضا، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثى، عن أبيه عن جده، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: " كيف ترون ؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم بكذا وكذا.
قال: ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون ؟ " فقال عمر مثل قول أبى بكر.
ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون ؟ ".
فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد ؟ فو الذى أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لى بها علم، ولئن سرت حتى تأتى برك الغماد من ذى يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعل أن تكون خرجت لامر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذى أحدث الله إليك فامض، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت.

فنزل القرآن على قول سعد: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " الآيات.
وذكره الاموى في مغازيه، وزاد بعد قوله: " وخذ من أموالنا ما شئت ": " وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لامرك، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ".
* * * قال ابن إسحاق: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران، فسلك على ثنايا يقال لها الاصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدابة، وترك الحنان بيمين، وهو
كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو ورجل من أصحابه.
قال ابن هشام: هو أبو بكر.
قال ابن إسحاق، كما حدثنى محمد بن يحيى بن حبان، حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني مما أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتنا أخبرناك.
فقال: أو ذاك بذاك ؟ قال: نعم.
قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذى أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا.
للمكان الذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذى أخبرني صدقنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا.
للمكان الذى به قريش.
فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن من ماء " ثم انصرف عنه.
قال يقول الشيخ: ما من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟

قال ابن هشام: يقال لهذا الشيخ سفيان الضمرى.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص، في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له، كما حدثنى يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.
فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بنى الحجاج، وعريض أبو يسار غلام بنى العاص بن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، فقالوا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء.
فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لابي سفيان فضربوهما، فلما أذلقوهما (1)
قالا: نحن لابي سفيان.
فتركوهما.
وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه وسلم.
وقال: " إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما ! صدقا والله إنهما لقريش، أخبرانى عن قريش ؟ قالا: هم [ والله (2) ] وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى، والكثيب العقنقل.
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم قالا: كثير، قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندرى.
قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القوم ما بين التسعمائة إلى الالف ".
ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدى بن نوفل، والنضر
__________
(1) أذلقوهما: آذوهما.
(2) عن ابن هشام.
(*)

ابن الحارث، وزمعة بن الاسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود.
قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: " هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ".
* * * قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو وعدى بن أبى الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه، ومجدى بن عمرو الجهنى على الماء، فسمع عدى وبسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما يتلازمان (1) على الماء والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتى العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك الذى
لك.
قال مجدي: صدقت.
ثم خلص بينهما.
وسمع ذلك عدى وبسبس فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبراه بما سمعا.
وأقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرا حتى ورد الماء، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا ؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا.
فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب.
فرجع إلى أصحابه سريعا، فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها، وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع.
وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إنى رأيت فيما يرى النائم، وإنى لبين النائم واليقظان، إذ
__________
(1) يتلازمان: يتقاضيان.
(*)

نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف وفلان وفلان، فعد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
فبلغت أبا جهل لعنه الله فقال: هذا أيضا نبى آخر من بنى المطلب ! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
* * * قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام، فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزور (1) ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا.
وقال الاخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، وكان حليفا لبنى زهرة، وهم بالجحفة: يا بنى زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا (2) بى جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا.
قال: فرجعوا فلم يشهدها زهرى واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا.
ولم يكن بقى بطن من قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بنى عدى، لم يخرج منهم
__________
(1) ابن هشام: الجزر.
(2) ابن هشام: فاجعلوا لى.
(*)

رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الاخنس، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد.
قال: ومضى القوم، وكان بين طالب بن أبى طالب، وكان في القوم، وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بنى هاشم، وإن خرجتم معنا، أن هواكم مع محمد.
فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال في ذلك: لا هم إما يغزون طالب * في عصبة محالف محارب في مقنب من هذه المقانب (1) * فليكن المسلوب غير السالب وليكن المغلوب غير الغالب * * * قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل الكثيب الذى خلفه قريش، والقليب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة.
قلت: وفى هذا قال تعالى " إذا أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم " أي من ناحية الساحل " ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا " (2) الآيات.
وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسا (3) فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ماء لبد لهم الارض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
__________
(1) المقنب: الجماعة من الخيل مقدارها ثلاثمائة أو نحوها.
(2) سورة الانفال 42 (3) دهسا: لينا.
(*)

قلت: وفى هذا قوله تعالى " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام " (1).
فذكر أنه طهرهم ظاهرا وباطنا، وأنه ثبت أقدامهم وشجع قلوبهم وأذهب عنهم تخذيل الشيطان وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر، وهذا تثبيت الباطن والظاهر، وأنزل النصر عليهم من فوقهم في قوله: " إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الاعناق " أي على الرؤوس " واضربوا منهم كل بنان " أي لئلا يستمسك منهم السلاح " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار " (2).
قال ابن جرير: حدثنى هارون بن إسحاق، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن على بن أبى طالب، قال: أصابنا من من الليل طش (3) من المطر، يعنى الليلة التى كانت في صبيحتها وقعة بدر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف (4) نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعنى قائما يصلى، وحرض على القتال.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدى، عن شعبة عن ابى إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن على، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلى ويبكى حتى أصبح.
وسيأتى هذا الحديث مطولا.
__________
(1) سورة الانفال 12.
(2) سورة الانفال 13، 14.
(3) الطش: المطر الضعيف، وهو فوق الرذاذ.
(4) الحجف: جمع حجفة وهى الترس الصغير يطارق بين جلدين.
(*) (26 - السيرة - 2)

ورواه النسائي عن بندار، عن غندر، عن شعبة به.
وقال مجاهد: أنزل عليهم المطر فأطفأ به الغبار وتلبدت به الارض وطابت به أنفسهم وثبتت به أقدامهم.
قلت: وكانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشر من شهر رمضان، سنة ثنتين من الهجرة، وقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلى إلى جذم شجرة هناك، ويكثر في سجوده أن يقول: " يا حى يا قيوم " يكرر ذلك ويلظ به عليه السلام.
* * * قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بنى سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب ابن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة ؟
قال: بل هو الرأى والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتى أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أشرت بالرأى ".
قال الاموى: حدثنا أبى، قال: وزعم الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الاقباص (1) وجبريل عن يمينه إذا أتاه ملك من الملائكة فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) بالاصل غير منقوطة.
ولم أجد هذا النص، والقبص: الجماعة من الناس.
(*)

" هو السلام ومنه السلام وإليه السلام " فقال الملك: إن الله يقول لك: إن الامر الذى أمرك به الحباب بن المنذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل هل تعرف هذا ؟ فقال: ما كل أهل السماء أعرف، وإنه لصادق وما هو بشيطان.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه فملئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
وذكر بعضهم أن الحباب بن المنذر لما أشار بما اشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ملك من السماء وجبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الملك: يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الرأى ما أشار به الحباب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل فقال: ليس كل الملائكة أعرفهم، وإنه ملك وليس بشيطان.
وذكر الاموى أنهم نزلوا على القليب الذى يلى المشركين نصف الليل، وأنهم نزلوا فيه واستقوا منه وملاوا الحياض حتى أصبحت ملاء وليس للمشركين ماء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبى بكر، أنه حدث أن سعد بن معاذ قال يا نبى الله ألا نبنى لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الاخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش كان فيه.
* * * قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت.
فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل، وهو الكثيب الذى جاءوا منه إلى الوادي، قال: " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتني، اللهم أحنهم (1) الغداة ".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم وهو على جمل له أحمر: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الاحمر، إن يطيعوه يرشدوا.
قال: وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش ابنا له بجزائر أهداها لهم وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا قال: فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك رحم، وقد قضيت الذى عليك، فلعمري إن
كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد، فما لاحد بالله من طاقة ! قال: فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم.
فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذى نجاني يوم بدر.
قلت: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر
__________
(1) أحنهم: أهلكهم.
(*)

رجلا كما سيأتي بيان ذلك في فصل نعقده بعد الوقعة ونذكر أسماءهم على حروف المعجم إن شاء الله.
* * * ففى صحيح البخاري عن البراء، قال: كنا نتحدث (1) أن أصحاب بدر ثلثمائة وبضعة عشر، على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزا معه النهر، وما جاوزه معه إلا مؤمن.
وللبخاري أيضا عنه قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والانصار نيف وأربعون ومائتان.
وروى الامام أحمد عن نصر بن رئاب، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون ستة وسبعين وكانت هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة.
وقال الله تعالى: " إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر، ولكن الله سلم " (2) الآية.
وكان ذلك في منامه تلك الليلة.
وقيل: إنه نام في العريش، وأمر الناس أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم، فدنا القوم منهم فجعل الصديق يوقظه ويقول: يا رسول الله دنوا منا فاستيقظ.
وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا.
ذكره الاموى وهو غريب جدا.
وقال تعالى: " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم، ليقضى الله أمرا كان مفعولا " (3).
__________
(1) البخاري.
سمعت البراء رضى الله عنه يقول: حدثنى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من شهد بدرا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت.
(2) سورة الانفال 43.
(1) سورة الانفال 44.
(*)

فعندما تقابل الفريقان قلل الله كلا منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على هؤلاء وهؤلاء على هؤلاء، لما له في ذلك من الحكمة البالغة.
وليس هذا معارضا لقوله تعالى في سورة آل عمران: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين، والله يؤيد بنصره من يشاء ".
فإن المعنى في ذلك على أصح القولين: أن الفرقة الكافرة ترى الفرقة المؤمنة مثلى عدد الكافرة على الصحيح أيضا، وذلك عند التحام الحرب والمسايفة (1) أوقع الله الوهن والرعب في قلوب الذين كفروا، فاستدرجهم أولا، بأن أراهم إياهم عند المواجهة قليلا، ثم أيد المؤمنين بنصره، فجعلهم في أعين الكافرين على الضعف منهم حتى وهنوا وضعفوا وغلبوا.
ولهذا قال: " والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار ".
قال إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبى عبيد وعبد الله، لقد قللوا في أعيننا يوم بدر، حتى أنى لاقول لرجل إلى جنبى: أتراهم سبعين ؟ فقال: أراهم مائة !
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني أبى إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الانصار قالوا: لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا احزر لنا القوم أصحاب محمد.
قال: فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد.
قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع،
__________
(1) الاصل: والمسابقة وهو تحريف.
(*)

قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! ؟ فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها المطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال: وما ذلك يا حكيم ؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو ابن الحضرمي.
قال: قد فعلت، أنت على بذلك، إنما هو حليفي فعلى عقله وما أصيب من ماله.
فأت ابن الحنظلية، يعنى أبا جهل، فإنى لا أخشى أن يشجر (1) أمر الناس غيره.
ثم قال عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين
سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا فهو يهنئها (2) فقلت له: يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا.
فقال: انتفخ والله سحره (3) حين رأى محمدا وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه.
ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع الناس، وقد
__________
(1) يشجر: يخالف ويفسد.
وفى الاصل: يسجر.
وما أثبته عن ابن هشام (2) نئل: أخرج.
ويهنئها: يهيئها ويصلحها (3) انتفخ سحره: جبن والسحر: الرئة.
(*)

رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه واعمراه.
قال: فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبى جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم مصفر استه (4) من انتفخ سحره أنا أم هو ! ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم رأسه، فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
* * * وقد روى ابن جرير من طريق مسور بن عبدالملك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل حاجبه فقال: حكيم بن حزام يستأذن.
قال: ائذن له.
فلما دخل قال: مرحبا يا أبا خالد ادن، فحال عن صدر
المجلس حتى جلس بينه وبين الوسادة ثم استقبله فقال: حدثنا حديث بدر.
فقال: خرجنا حتى إذا كنا بالجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا، ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التى قال الله تعالى، فجئت عتبة بن ربيعة فقلت: يا أبا الوليد هل لك في أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت ؟ قال: أفعل ماذا ؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي وهو حليفك، فتحمل بديته ويرجع الناس.
فقال: أنت على بذلك، واذهب إلى ابن الحنظلية، يعنى أبا جهل، فقل له:
__________
(1) مصفر استه: أراد مصفر بدنه بالصفرة وهى الطيب.
ولكنه قصد المبالغة بالذم فذكر ما يسوؤه أن يذكر.
(*)

هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك ؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن خلفه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول: فسخت عقدى من عبد شمس، وعقدي اليوم إلى بنى مخزوم.
فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك ؟ قال: أما وجد رسولا غيرك ؟ قلت: لا، ولم أكن لاكون رسولا لغيره.
قال حكيم: فخرجت مبادرا إلى عتبة لئلا يفوتنى من الخبر شئ، وعتبة متكئ على أيماء بن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر.
فطلع أبو جهل الشر في وجهه فقال لعتبة: انتفخ سحرك ؟ فقال له عتبة: ستعلم.
فسل أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه، فقال أيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا.
فعند ذلك قامت الحرب.
وقد صف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وعباهم أحسن تعبية.
فروى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف، قال: صفنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم بدر ليلا.
ورى الامام أحمد من حديث ابن لهيعة، حدثنى يزيد بن أبى حبيب، أن أسلم أبا عمران حدثه، أنه سمع أبا أيوب يقول: صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " معى معى ".
تفرد به أحمد.
وهذا إسناد حسن.
* * * وقال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان، عن أشياخ من قومه، أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفى يده قدح (1) يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بنى عدى بن النجار وهو مستنتل (2) من الصف.
فطعن في بطنه بالقدح وقال: " استو يا سواد ".
فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدنى.
فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: استقد.
قال: فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك.
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقاله.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء، قال: يا رسول الله ما يضحك (3) الرب من عبده ؟ قال: " غمسه يده في العدو حاسرا ".
فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل رضى الله عنه.
قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش
فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره.
وقال ابن إسحاق وغيره: وكان سعد بن معاذ رضى الله عنه واقفا على باب العريش متقلدا بالسيف ومعه رجال من الانصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا عليه من أن يدهمه العدو من المشركين، والجنائب النجائب مهيأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن احتاج إليها ركبها ورجع إلى المدينة، كما أشار به سعد بن معاذ.
وقد روى البزار في مسنده من حديث محمد بن عقيل، عن على أنه خطبهم فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس ؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين.
__________
(1) القدح السهم.
(2) مستنتل: متقدم.
(3) يضحك: يرضى.
(*)

فقال: أما إنى ما بارزنى أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوى إليه أحد من المشركين ؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوى إليه أحد إلا أهوى إليه.
فهذا أشجع الناس.
قال: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يحاده، وهذا يتلتله، ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلها واحدا، فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم ! أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله.
ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله: أمؤمن آل فرعون خير أم هو ؟ فسكت القوم، فقال على: فو الله لساعة من أبى بكر خير من ملء الارض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.
فهذه خصوصية للصديق، حيث هو مع الرسول في العريش، كما كان معه في الغار رضى الله عنه وأرضاه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الابتهال والتضرع والدعاء، ويقول فيما يدعو به: " اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض " وجعل يهتف بربه عزوجل ويقول: " اللهم أنجز لى ما وعدتني، اللهم نصرك ".
ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر رضى الله عنه

يلتزمه من ورائه ويسوى عليه رداءه ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
هكذا حكى السهيلي عن قاسم بن ثابت، أن الصديق إنما قال: بعض مناشدتك ربك، من باب الاشفاق لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه فقال: بعض هذا يا رسول الله.
أي: لم تتعب نفسك هذا التعب، والله قد وعدك بالنصر.
وكان رضى الله عنه رقيق القلب شديد الاشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكى السهيلي عن شيخة أبى بكر بن العربي بأنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف، والصديق في مقام الرجاء، وكان مقام الخوف في هذا الوقت، يعنى أكمل.
قال: لان لله أن يفعل ما يشاء، فخاف أن لا يعبد في الارض بعدها، فخوفه ذلك عبادة.
قلت: وأما قول بعض الصوفية: إن هذا المقام في مقابلة ما كان يوم الغار.
فهو قول مردود على قائله، إذ لم يتذكر هذا القائل عور ما قال ولا لازمه ولا ما يترتب عليه.
والله أعلم.
* * * هذا وقد تواجه الفئتان وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان بين يدى الرحمن، واستغاث بربه سيد الانبياء، وضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الارض والسماء، سامع الدعاء وكاشف البلاء.
فكان أول من قتل من المشركين الاسود بن عبد الاسد المخزومى.
قال ابن إسحاق: وكان رچلا شرسا سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لاشربن من حوضهم أو لاهدمنه أو لاموتن دونه.
فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب، فلما

التقيا ضربه حمزة فأطن (1) قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد، زعم، أن تبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
قال الاموى: فحمى عند ذلك عتبة بن ربيعة، وأراد أن يظهر شجاعته، فبرز بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البراز، فخرج إليهم فتيه من الانصار ثلاثة، وهم عوف ومعاذ ابنا الحارث وأمهما غفراء، والثالث عبدالله بن رواحة فيما قيل، فقالوا: من أنتم ؟ قالوا رهط من الانصار.
فقالوا: ما لنا بكم حاجة.
وفى رواية فقالوا: أكفاء كرام، ولكن أخرجوا إلينا من بنى عمنا، ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا على ".
وعند الاموى أن النفر من الانصار لما خرجوا كره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانه أول موقف واجه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فأحب أن يكون أولئك من عشيرته، فأمرهم بالرجوع وأمر أولئك الثلاثة بالخروج.
قال ابن إسحاق: فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم ؟ وفى هذا دليل أنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح، فقال عبيدة: عبيدة.
وقال حمزة: حمزة.
وقال على: على.
قالوا: نعم، أكفاء كرام.
فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد بن عتبة.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله، وأختلف
__________
(1) أطن: أطار.
(*)

عبيدة وعبتة بينهما بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فذففا (1) عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابهما (2).
رضى الله عنه.
* * * وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبى ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية " هذان خصمان اختصموا في ربهم " (3) نزلت في حمزة وصاحبه، وعتبة وصاحبه، يوم برزوا في بدر.
هذا لفظ البخاري في تفسيرها.
وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا المعتمر بن سليمان، سمعت أبى، حدثنا أبو مجلز، عن قيس بن عباد، عن على بن أبى طالب، أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن عزوجل في الخصومة يوم القيامة.
قال قيس: وفيهم نزلت: " هذان خصمان اختصموا في ربهم " قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: على وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
تفرد به البخاري.
وقد أوسعنا الكلام عليها في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
وقال الاموى: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبى إسحاق، عن ابن المبارك، عن
إسماعيل بن أبى خالد، عن عبدالله البهى، قال: برز عتبة وشيبة والوليد، وبرز إليهم حمزة وعبيدة وعلى، فقالوا: تكلموا نعرفكم.
فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسول الله أنا حمزة بن عبدالمطلب.
فقال كفء كريم.
وقال على: أنا عبدالله وأخو رسول الله.
وقال عبيدة: أنا الذى في الحلفاء، فقام كل رجل إلى رجل فقاتلوم فقتلهم الله.
__________
(1) ذففا عليه: أجهزا.
(2) ابن هشام: إلى أصحابه.
(3) سورة الحج 19.
(*)

فقالت هند في ذلك: أعيني جودى بدمع سرب * على خير خندف لم ينقلب تداعى له رهطه غدوة * بنو هاشم وبنو المطلب يذيقونه حد أسيافهم * يعلونه بعد ما قد عطب ولهذا نذرت هند أن تأكل من كبد حمزة.
قلت: وعبيدة هذا هو ابن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، ولما جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعوه إلى جانب موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشرفه (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه فوضع خده على قدمه الشريفة وقال: يا رسول الله لو رأني أبو طالب لعلم أنى أحق بقوله: ونسلمه حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم مات رضى الله عنه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أنك شهيد ".
رواه الشافعي رحمه الله.
وكان أول قتيل من المسلمين في المعركة مهجع مولى عمر بن الخطاب رمى بسهم فقتله.
قال ابن إسحاق: فكان أول من قتل، ثم رمى بعده حارثة بن سراقة أحد بنى
عدى بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فمات.
وثبت في الصحيحين، عن أنس، أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر وكان في النظارة، أصابه سهم غرب فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله أخبرني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت وإلا فليرين الله ما أصنع، يعنى من النياح، وكانت لم تحرم
__________
(1) كذا وفى إنسان العيون: فأفرشه.
(*)

بعد.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحك أهبلت، إنها جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الاعلى ! ".
* * * قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.
وقد (1) أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل.
وفى صحيح البخاري عن أبى أسيد، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: إذا أكثبوكم، يعنى المشركين، فارموهم واستبقوا نبلكم.
وقال البيهقى: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أبى إسحاق، حدثنى عبدالله بن الزبير، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعار المهاجرين يوم بدر: يا بنى عبدالرحمن.
وشعار الخزرج: يا بنى عبدالله.
وشعار الاوس: يا بنى عبيد الله، وسمى خيله خيل الله.
قال ابن هشام: كان شعار الصحابة يوم بدر: أحد أحد.
قال ابن إسحاق: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش معه أبو بكر رضى الله عنه، يعنى وهو يستغيث الله عزوجل، كما قال تعالى: " إذ يستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين.
وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به
قلوبكم وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم " (2).
قال الامام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثنى ابن عباس، حدثنى عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر
__________
(1) الاصل: وقال.
وهو تحريف.
وما أثبته عن ابن هشام.
(2) سورة الانفال 9، 10.
(*)

نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: " اللهم أنجز لى ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تعبد بعد في الارض أبدا ".
فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا رسول الله كفاك (1) مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
فأنزل الله: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ".
وذكر تمام الحديث كما سيأتي.
وقد رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وغيرهم من حديث عكرمة بن عمار اليماني، وصححه على ابن المدينى والترمذي.
وهكذا قال غير واحد، عن ابن عباس والسدى وابن جرير وغيرهم، أن هذه الآية نزلت في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
وقد ذكر الاموى وغيره أن المسلمين عجوا إلى الله عزوجل في الاستغاثة بجنابه والاستعانة به.
وقوله تعالى: " بألف من الملائكة مردفين " أي ردفا لكم ومددا لفئتكم.
رواه العوفى عن ابن عباس.
وقاله مجاهد وابن كثير وعبد الرحمن بن زيد وغيرهم.
وقال أبو كدينة، عن قابوس، عن ابن عباس " مردفين " وراء كل ملك ملك
__________
(1) الاصل: كذاك.
وهو تحريف.
(*) (27 - السيرة - 2)

وفى رواية عنه بهذا الاسناد " مردفين " بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة.
وقد روى على بن أبى طلحة الوالبى عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة، وكان جبريل في خمسمائة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وهذا هو المشهور.
ولكن قال ابن جرير: حدثنى المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنى عبد العزيز بن عمران، عن الربعي، عن أبى الحويرث عن محمد بن جبير، عن على، قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة على ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في الميسرة.
ورواه البيهقى في الدلائل، من حديث محمد بن جبير، عن على، فزاد: ونزل إسرافيل في ألف من الملائكة.
وذكر أنه طعن يومئذ بالحربة حتى اختضبت إبطه من الدماء، فذكر أنه نزلت ثلاثة آلاف من الملائكة.
وهذا غريب وفى إسناده ضعف، ولو صح لكان فيه تقوية لما تقدم من الاقوال.
ويؤيدها قراءة من قرأ: " بألف من الملائكة مردفين " بفتح الدال.
والله أعلم.
وقال البيهقى: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الاصم، حدثنا محمد بن سنان القزاز، حدثنا عبيد الله بن عبدالمجيد أبو على الحنفي، حدثنا عبيد الله بن عبدالرحمن بن موهب، أخبرني إسماعيل بن عوف بن عبدالله بن أبى رافع، عن عبدالله بن محمد بن عمر ابن على بن ابى طالب، عن أبيه عن جده، قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت مسرعا لانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، قال: فجئت فإذا هو

ساجد يقول " يا حى يا قيوم يا حى يا قيوم " لا يزيد عليها.
فرجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، فذهبت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، حتى فتح الله على يده.
وقد رواه النسائي في اليوم والليلة، عن بندار، عن عبيد الله بن عبد المجيد أبى على الحنفي.
وقال الاعمش: عن أبى إسحاق، عن أبى عبيدة، عن عبدالله بن مسعود، قال: ما سمعت مناشدا يشند أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل يقول: " اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد " ثم التفت وكأن شق وجهه القمر وقال: كأنى أنظر إلى مصارع القوم عشية.
رواه النسائي من حديث الاعمش به.
وقال: لما التقينا يوم بدر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت مناشدا ينشد حقا له أشد مناشدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكره.
وقد ثبت إخباره عليه السلام بمواضع مصارع رءوس المشركين يوم بدر في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك كما تقدم، وسيأتى في صحيح مسلم أيضا عن عمر بن الخطاب.
ومقتضى حديث ابن مسعود أنه أخبر بذلك يوم الوقعة.
وهو مناسب، وفى الحديثين الآخرين عن أنس وعمر ما يدل على أنه أخبر بذلك قبل ذلك بيوم.
ولا مانع من الجمع بين ذلك، بأن يخبر به قبل بيوم وأكثر، وأن يخبر به قبل ذلك بساعة يوم الوقعة.
والله أعلم.
وقد روى البخاري من طرق، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر " اللهم أنشدك عهدك ووعدك،

اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا " فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك.
فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر.
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ".
وهذه الآية مكية.
وقد جاء تصديقها يوم بدر، كما رواه ابن أبى حاتم: حدثنا أبى، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة قال: لما نزلت: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " قال عمر: أي جمع يهزم وأى جمع يغلب ؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر.
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " فعرفت تأويلها يومئذ.
وروى البخاري من طريق ابن جريج، عن يوسف بن ماهان، سمع عائشة تقول: نزل على محمد بمكة - وإنى لجارية ألعب - " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ".
* * * قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد " وأبو بكر يقول: يا نبى الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
وقد خفق النبي صلى الله عليه وسلم [ خفقة ] وهو في العريش، ثم انتبه فقال: " أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع " يعنى الغبار.
قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال: " والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ".

قال عمير بن الحمام، أخو بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن: بخ بخ ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء ؟ قال: ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
رحمه الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن سليمان، عن ثابت، عن أنس، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبسا عينا ينظر ما صنعت عير أبى سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيرى وغير النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: لا أدرى ما استثنى من بعض نسائه، قال: فحدثه الحديث.
قال: فخرج رسول الله فتكلم فقال " إن لنا طلبة، فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا " فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو المدينة قال: " لا إلا من كان ظهره حاضرا ".
وانطلق رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يتقدمن أحد منكم إلى شئ حتى أكون أنا دونه ".
فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قوموا إلى جنة عرضها السموات والارض ".
قال يقول عمير بن الحمام الانصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والارض ؟ !
قال: نعم.
قال: بخ بخ ؟ فقال رسول الله: " ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: فإنك من أهلها.
قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة ! قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله.

ورواه مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة وجماعة، عن أبى النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة به.
وقد ذكر ابن جرير أن عميرا قاتل وهو يقول رضى الله عنه: ركضا إلى الله بغير زاد * إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد * وكل زاد عرضه النفاد غير التقى والبر والرشاد * * * وقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن على، قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحيز عن بدر، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وبدر بئر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين: رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبى معيط، فأما القرشى فانفلت، وأما المولى فوجدناه، فجعلنا نقول له: كم القوم ؟ فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.
فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه.
حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: كم القوم ؟ قال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.
فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم فأبى.
ثم إن النبي
صلى الله عليه وسلم سأله: كم ينحرون من الجزر ؟ فقال: عشرا كل يوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " القوم ألف، كل جزور لمائة وتبعها ".
ثم إنه أصابنا من الليل طش من من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول " اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد ".

فلما طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله.
فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال ثم قال: " إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل ".
فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا على ناد حمزة "، وكان أقربهم من المشركين، من صاحب الجمل الاحمر ؟ فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة.
وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم اعصبوها برأسي وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة.
وقد علمتم أنى لست بأجبنكم.
فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك، والله لو غيرك يقوله لاعضضته، قد ملات رئتك جوفك رعبا.
فقال: إياى تعير يا مصفر استه ؟ ستعلم اليوم أينا الجبان.
فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية فقالوا: من يبارز ؟ فخرج فتية من الانصار مشببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بنى عمنا من بنى عبدالمطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قم يا حمزة، وقم يا على، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب ".
فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا سبعين.
وجاء رجل من الانصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: يا رسول الله الله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم.
فقال الانصاري: أنا أسرته يا رسول الله.

فقال: " اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم ".
قال: فأسرنا من بنى عبدالمطلب العباس وعقيلا ونوفل بن الحارث.
هذا سياق حسن، وفيه شواهد لما تقدم ولما سيأتي، وقد تفرد بطوله الامام أحمد، وروى أبو داود بعضه من حديث إسرائيل به.
* * * ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش وحرض الناس على القتال، والناس على مصافهم صابرين ذاكرين الله كثيرا، كما قال الله تعالى آمرا لهم " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا (1) " الآية.
وقال الاموى: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبى إسحاق، قال: قال الاوزاعي: كان يقال: قلما ثبت قوما قياما، فمن استطاع عند ذلك أن يحلس أو يغض طرفه ويذكر الله رجوت أن يسلم من الرياء.
وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لاصحابه: ألا ترونهم، يعنى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، جثيا على الركب كأنهم حرس، يتلمظون كما تتلمظ الحيات، أو قال الافاعى.
قال الاموى في مغازيه: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين حرض المسلمين على القتال قد نفل كل امرئ ما أصاب، وقال: " والذى نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم
رجل [ فيقتل ] صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ".
وذكر قصة عمير ابن الحمام كما تقدم.
وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالا شديدا ببدنه، وكذلك أبو بكر الصديق، كما كانا
__________
(1) سورة الانفال 45.
(*)

في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا وحثا على القتال، وقاتلا بالابدان جمعا بين المقامين الشريفين.
قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن حارثة ابن مضرب، عن على، قال: قد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا.
ورواه النسائي من حديث أبى إسحاق عن حارثة، عن على قال: كنا إذا حمى البأس ولقى القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن أبى عون، عن أبى صالح الحنفي، عن على، قال: قيل لعلى ولابي بكر رضى الله عنهما يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل.
أو قال: يشهد الصف.
وهذا يشبه ما تقدم من الحديث: أن أبا بكر كان في الميمنة، ولما تنزل الملائكة يوم بدر تنزيلا، كان جبريل على أحد المجنبتين في خمسمائة من الملائكة، فكان في الميمنة من ناحية أبى بكر الصديق، وكان ميكائيل على المجنبة الاخرى في خمسمائة من الملائكة فوقفوا في الميسرة، وكان على بن أبى طالب فيها.
[ وفى حديث رواه أبو يعلى، من طريق محمد بن جبير بن مطعم، عن على، قال كنت أسبح على القليب يوم بدر، فجاءت ريح شديدة ثم أخرى ثم أخرى، فنزل ميكائل في ألف
من الملائكة فوقف على يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهناك أبو بكر، وإسرافيل في ألف في الميسرة وأنا فيها، وجبريل في ألف قال: ولقد طفت يومئذ حتى بلغ إبطى ] (1).
__________
(1) سقط من ا (*)

وقد ذكر صاحب العقد وغيره أن أفخر بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت: وببئر بدر إذ يكف مطيهم * جبريل تحت لوائنا ومحمد * * * وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقى، عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر، قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
انفرد به البخاري.
وقد قال الله تعالى: " إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الاعناق - يعنى الرؤوس - واضربوا منهم كل بنان ".
وفى صحيح مسلم من طريق عكرمة بن عمار، عن أبى زميل، حدثنى ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس [ يقول: ] (1) أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه قد خر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو [ قد ] (1) حطم [ أنفه ] (1) وشق وجهه بضربة (2) السوط فاخضر (3) ذلك أجمع، فجاء الانصاري فحدث ذاك (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
" فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين.
قال ابن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر بن حزم، عمن حدثه، عن ابن عباس، عن رجل من بنى غفار، قال: حضرت أنا وابن عم لى بدرا ونحن على شركنا،
__________
(1) من صحيح مسلم.
(2) صحيح مسلم: كضربة السوط.
(3) الاصل: وحضر.
بالحاء والضاد.
وما أثبته عن صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 86 (4) مسلم: بذلك.
(*)

وإنا لفى جبل ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة (1)، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا منها حمحمة الخيل، وسمعنا قائلا يقول: أقدم حيزوم: فأما صاحبي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا لكدت (2) أن أهلك ثم انتعشت (3) بعد ذلك.
وقال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبى بكر، عن بعض بنى ساعدة، عن أبى أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرا، قال، بعد أن ذهب بصره: لو كنت اليوم ببدر ومعى بصرى لاريتكم الشعب الذى خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أتمارى.
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى الله إليهم: " أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا ".
وتثبيتهم: أن الملائكة كانت تأتى الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشئ والله معكم، كروا عليهم.
وقال الواقدي: حدثنى ابن أبى حبيبة، عن دواد بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون فيقول: إنى قد دنوت منهم وسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا.
ليسوا بشئ.
إلى غير ذلك من القول.
فذلك قوله: " إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا " الآية.
ولما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال: " إنى برئ منكم، إنى أرى ما لا ترون " وهو في صورة سراقة.
وأقبل أبو جهل يحرض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه.
ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى تفرق محمدا واصحابه في الجبال، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا.
__________
(1) ابن هشام وأبو نعيم: الدبرة.
(2) ابن هشام وأبو نعيم: فكدت.
(3) ابن هشام وأبو نعيم: ثم تماسكت.
(*)

وروى البيهقى من طريق سلامة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبى حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال أبو أسيد، بعد ما ذهب بصره: يا ابن أخى والله لو كنت أنا وأنت ببدر، ثم أطلق الله بصرى، لاريتك الشعب الذى خرجت علينا منه الملائكة من غير شك ولا تمار.
وروى البخاري، عن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه أداة الحرب ".
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبى حبيبة، عن دواد بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وأخبرني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمى، عن أبيه، وحدثني عابد بن يحيى، عن ابى الحويرث، عن عمارة بن أكيمة الليثى، عن عكرمة، عن حكيم بن حزام، قالوا: لما حضر القتال ورسول الله صلى الله عليه وسلم رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده يقول " اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين " وأبو بكر يقول: والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك.
فأنزل الله ألفا من الملائكة مردفين عند اكتناف العدو.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والارض، فلما نزل إلى الارض تغيب عنى ساعة ثم
طلع وعلى ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته ".
وروى البيهقى عن أبى أمامة بن سهل، عن أبيه، قال: يا بنى لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابن إسحاق: حدثنى والدى، حدثنى رجال من بنى مازن، عن أبى واقد الليثى، قال: إنى لاتبع رجلا من المشركين لاضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أن غيرى قد قتله.

وقال يونس بن بكير، عن عيسى بن عبدالله التيمى، عن الربيع بن أنس، قال: كان الناس يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الاعناق وعلى البنان مثل سمة النار وقد أحرق به.
وقال ابن إسحاق: حدثنى من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل، فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
وقد قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الايام، وكانوا يكونون فيما سواه من الايام عددا ومددا لا يضربون.
وقال الواقدي: حدثنى عبدالله بن موسى بن أبى أمية، عن مصعب بن عبدالله، عن مولى لسهيل بن عمرو، سمعت سهيل بن عمرو يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض معلمين يقتلون ويأسرون.
وكان أبو أسيد يحدث بعد أن ذهب بصره، قال: لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى، لاريتكم الشعب الذى خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أمترى.
قال: وحدثني خارجة بن إبراهيم، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: " من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم ؟ " فقال جبريل: يا محمد
ما كل أهل السماء أعرف.
قلت: وهذا الاثر مرسل، وهو يرد قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل، كما قاله السهيلي وغيره.
والله أعلم.
وقال الواقدي: حدثنى إسحاق بن يحيى، عن حمزة بن صهيب، عن أبيه قال: فما أدرى كم يد مقطوعة وضربة جائفة لم يدم كلمها قد رأيتها يوم بدر ! وحدثني محمد بن يحيى، عن أبى عقيل، عن أبى بردة بن نيار، قال: جئت يوم

بدر بثلاثة أرؤس فوضعتهن بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإنى رأيت رجلا طويلا [ قتله ] فأخذت رأسه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك فلان من الملائكة ".
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كان السائب بن أبى حبيش يحدث في زمن عمر يقول: والله ما أسرني أحد من الناس.
فيقال: فمن ؟ يقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها، فأدركني رجل أشعر طويل على فرس أبيض فأوثقني رباطا، وجاء عبدالرحمن بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر: من أسر هذا ؟ حتى انتهى بى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أسرك ؟ قلت: لا أعرفه.
وكرهت أن أخبره بالذى رأيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسرك ملك من الملائكة اذهب يا بن عوف بأسيرك ".
وقال الواقدي: حدثنى عابد بن يحيى، حدثنا أبو الحويرث، عن عمارة بن أكيمة، عن حكيم بن حزام، قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بجاد (1) من السماء قد سد الافق، فإذا الوادي يسيل نهلا، فوقع في نفسي أن هذا شئ من السماء أيد به محمد، فما كانت إلا الهزيمة ولقى الملائكة.
[ وقال إسحاق بن راهوية، حدثنا وهب بن جرير بن حازم، حدثنى أبى، عن
محمد بن إسحاق، حدثنى أبى، عن جبير بن مطعم، قال: رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون، مثل البجاد الاسود قد نزل من السماء مثل النمل الاسود، فلم أشك أنها الملائكة فلم يكن إلا هزيمة القوم ] (2).
* * * ولما تنزلت الملائكة للنصر ورآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أغفى إغفاءة
__________
(1) البجاد: كساء مخطط.
(2) سقط من ا (*)

ثم استيقظ، وبشر بذلك أبا بكر وقال " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل يقود فرسه على ثناياه النقع " يعنى من المعركة.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش في الدرع فجعل يحرض على القتال، ويبشر الناس بالجنة ويشجعهم بنزول الملائكة، والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم، حصل لهم السكينة والطمأنينة.
وقد حصل النعاس الذى هو دليل على الطمأنينة والثبات والايمان، كما قال: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " وهذا كما حصل لهم بعد ذلك يوم أحد بنص القرآن.
ولهذا قال ابن مسعود: النعاس في المصاف من الايمان، والنعاس في الصلاة من النفاق.
وقال الله تعالى: " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين (1) ".
قال الامام أحمد، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنى الزهري، عن عبدالله بن ثعلبة، أن أبا جهل قال، حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم
وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة: فكان هو المستفتح.
وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة، ورواه النسائي من طريق صالح بن كيسان عن الزهري، ورواه الحاكم من حديث الزهري أيضا.
ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الاموى: حدثنا أسباط بن محمد القرشى، عن عطية، عن مطرف، في قوله:
__________
(1) سورة الانفال 19.
(*)

" إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " قال: قال أبو جهل: اللهم [ أعن ] أعز الفئتين، وأكرم القبيلتين، وأكثر الفريقين.
فنزلت: " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ".
وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس في قوله: " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم " قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام، فبلغ ذلك أهل المدينة فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير.
فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها لكيلا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله قد وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا يحبون أن يلقوا العير.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم، وكره القوم مسيرهم لشوكة القوم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وبينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمون ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذا (2) فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان، فصار الرمل لبدا ومشى الناس عليه والدواب.
فساروا إلى القوم وأيد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة.
وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه ذريته وهم في صورة رجال من بنى مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وقال الشيطان للمشركين: " لا غالب لكم اليوم من الناس، وإنى جار لكم ".
__________
(1) الدعصة: المستدير من الرمل.
(2) في الروايات أن بعضهم كانوا محدثين من الاحتلام.
(*)

فلما اصطف الناس قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الارض أبدا ".
فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب.
فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار ؟ قال: إنى أرى ما لا ترون، إنى أخاف الله والله شديد العقاب.
وذلك حين رأى الملائكة.
وراه البيهقى في الدلائل.
* * * [ وقال الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعد العطار حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامى، حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا هشام بن سعد، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس الانصاري، عن رفاعة بن رافع، قال: لما رأى إبليس ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه، فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يظن أنه سراقة بن
مالك، فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إنى أسألك نظرتك إياى، وخاف أن يخلص القتل إليه.
وأقبل أبو جهل فقال يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك، فإنه كان على معياد من محمد، ولا يهولنكم قتل شيبة وعتبة والوليد فإنهم قد عجلوا، فو اللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم بالجبال، فلا ألفين رجلا منكم قتل رجلا، ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم، من مفارقتهم إياكم ورغبتهم عن اللات والعزى.
(28 - السيرة 2)

ثم قال أبو جهلا متمثلا: ما تنقم الحرب الشموس منى * بازل عامين حديث سنى لمثل هذا ولدتني أمي ] (1) وروى الواقدي، عن موسى بن يعقوب الزمعى، عن أبى بكر بن أبى سليمان، عن أبى حتمة، سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر، فجعل الشيخ يكره ذلك، فألح عليه فقال حكيم: التقينا فاقتتلنا، فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الارض مثل وقعة الحصاة في الطست، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم القبضة التراب فرمى بها فانهزمنا.
قال الواقدي: وحدثنا إسحاق بن محمد بن عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله، عن عبدالله بن ثعلبة بن صقير (2)، سمعت نوفل بن معاوية الديلى يقول: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا ومن خلفنا، وكان ذلك من أشد الرعب علينا.
وقال الاموى: حدثنا أبى، حدثنا ابن أبى إسحاق، حدثنى الزهري، عن عبدالله ابن ثعلبة بن صقير، أن أبا جهل حين التقى القوم قال: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما
لا نعرف فأحنه الغداة.
فكان هو المستفتح.
فبينما هم على تلك الحال، وقد شجع الله المسلمين على لقاء عدوهم وقللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم، خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة في العريش ثم انتبه فقال: " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامته آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع، أتاك نصر الله وعدته ".
__________
(1) سقط من ا (2) المطبوعة: صعير.
وهو خطأ.
(*)

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كفا من الحصى بيده، ثم خرج فاستقبل القوم فقال: " شاهت الوجوه " ثم نفحهم بها، ثم قال لاصحابه: احملوا.
فلم تكن إلا الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديدهم، وأسر من أسر منهم.
وقال زياد عن ابن إسحاق: ثم إن رسول صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال: " شاهت الوجوه " ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: " شدوا " فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.
وقال السدى الكبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى يوم بدر: " أعطني حصباء من الارض " فناوله حصباء عليها تراب، فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله في ذلك: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ".
وهكذا قال عروة وعكرمة ومجاهد ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس وقتادة وابن زيد وغيرهم: إن هذه الآية نزلت في ذلك يوم بدر.
وقد فعل عليه السلام مثل ذلك في غزوة حنين.
كما سيأتي في موضعه إذا انتهينا
إليه إن شاء الله وبه الثقة.
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرض أصحابه على القتال ورمى المشركين بما رماهم به من التراب وهزمهم الله تعالى، صعد إلى العريش أيضا ومعه أبو بكر، ووقف سعد بن معاذ ومن معه من الانصار على باب العريش ومعهم السيوف خيفة أن تكر راجعة من المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، رأى رسول الله صلى الله

عليه وسلم، فيما ذكر لى، في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: " كأنى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؟ " قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الاثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبدالله ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه يومئذ " إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البخترى بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبدالمطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها ".
فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس، والله لئن لقيته لالحمنه بالسيف.
فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر: " يا أبا حفص " قال عمر: والله إنه لاول يوم كنانى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى حفص، " أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ! ".
فقال عمر: يا رسول الله دعني فلاضرب عنقه بالسيف فو الله لقد نافق.
فقال أبو حذيفة: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عنى الشهادة.
فقتل يوم اليمامة شهيدا.
رضى الله عنه.
مقتل أبى البخترى بن هشام قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبى البخترى

لانه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شئ يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة، فلقيه المجذر بن ذياد البلوى حليف الانصار فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتلك.
ومع أبى البخترى زميل له خرج معه من مكة، وهو جنادة بن مليحة وهو من بنى ليث.
قال: وزميلي ؟ فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك، قال: لا والله إذا لاموتن أنا وهو جميعا، لا يتحدث عنى نساء قريش بمكة أنى تركت زميلي حرصا على الحياة ! وقال أبوالبخترى وهو ينازل المجذر: لن يترك (1) ابن حرة زميله * حتى يموت أو يرى سبيله قال: فاقتتلا فقتله المجذر بن ذياد.
وقال في ذلك: إما جهلت أو نسيت نسبي * فأثبت النسبة إنى من بلى الطاعنين برماح اليزنى * والطاعنين (2) الكبش حتى ينحنى بشر بيتم من أبوه البخترى * أو بشرن بمثلها منى بنى أنا الذى يقال أصلى من بلى * أطعن بالصعدة (3) حتى تنثني وأعبط القرن بعضب مشرفى * أرزم للموت كإرزام المرى (4) فلا ترى مجذرا يفرى فرى (5)
ثم أتى المجذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذى بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فأتيك به فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته.
__________
(1) ابن هشام: لن يسلم (2) ابن هشام: الضاربين (3) الصعدة: الرمح.
(4) أعبط: أقتل.
والقرن: النظير في الحرب.
والعضب: السيف القاطع.
وأرزم: أحن.
والمرى: الناقة التى يستنزل لبنها على عسر.
(5) يفرى فرى: يصنع صنعى.
(*)

فصل في مقتل أمية بن خلف قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه وحدثنيه أيضا عبدالله بن أبى بكر وغيرهما، عن عبدالرحمن بن عوف، قال: كان أمية بن خلف لى صديقا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبدالرحمن، فكان يلقانى ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك ؟ قال: فأقول: نعم.
قال (1): فإنى لا أعرف الرحمن، فاجعل بينى وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الاول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف.
قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه.
قال: فقلت له: يا أبا على اجعل ما شئت.
قال: فأنت عبد الاله.
قال: قلت: نعم.
قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الاله.
فأجيبه فأتحدث معه.
حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه على وهو آخذ بيده، قال: ومعى أدراع لى قد استلبتها فأنا أحملها، فلما رأني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الاله.
فقلت: نعم.
قال: هل لك في فأنا خير لك من هذه الادراع التى معك ؟ قال: قلت: نعم ها الله (2).
قال: فطرحت الادرع من يدى وأخذت بيده وبيد ابنه، وهو يقول ما رأيت
كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن (3) ؟ ثم خرجت أمشى بهما.
قال ابن إسحاق: حدثنى عبد الواحد بن أبى عون، عن سعد بن إبراهيم، عن
__________
(1) ابن هشام: فيقول.
(2) ابن هشام: ها الله ذا.
وها: حرف تنبيه ولفط الجلالة مجرور بحرف قسم مضمر قام التنبيه مقامه.
(3) قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
(*)

أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، قال: قال لى أمية ابن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذا بأيديهما: يا عبد الاله من الرجل منكم المعلم بريشه نعامة في صدره ؟ قال: قلت: حمزة قال: ذاك الذى فعل بنا الافاعيل.
قال عبدالرحمن: فو الله إنى لاقودهما إذ رآه بلال معى، وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على الاسلام، فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
قال قلت: أي بلال، أسيرى، قال: لا نجوت إن نجا.
قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة (1) فأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط.
قال: قلت: انج بنفسك ولا نجاء [ بك ] (2)، فو الله ما أغنى عنك شيئا.
قال: فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما.
قال: فكان عبدالرحمن يقول: يرحم الله بلالا، فجعني بأدراعى وبأسيرى ! وهكذا رواه البخاري في صحيحه قريبا من هذا السياق، فقال في الوكالة: حدثنا عبد العزيز، هو ابن عبدالله، حدثنا يوسف، هو ابن الماجشون، عن صالح بن ابراهيم ابن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده عبدالرحمن بن عوف، قال: كاتبت أمية ابن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتى (3) بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذى كان في الجاهلية.
فكاتبته
عبد عمرو، فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لاحرزه حين نام الناس فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس [ من ] الانصار فقال: أمية بن خلف ؟ ! لا نجوت إن نجا أمية بن خلف.
فخرج معه فريق من الانصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه
__________
(1) المسكة: السوار، أي أحد قوابهم.
(2) من ابن هشام.
(3) صاغيتى: خاصتي.
(*)

لاشغلهم فقتلوه، ثم أتوا حتى تبعونا وكان رجلا ثقيلا، فلما أدركونا قلت له: ابرك.
فبرك فألقيت عليه نفسي لامنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلى بسيفه، فكان عبدالرحمن بن عوف يرينا ذلك في ظهر قدمه.
سمع يوسف صالحا وإبراهيم أباه.
تفرد به البخاري من بينهم كلهم.
وفى مسند رفاعة بن رافع أنه هو الذى قتل أمية بن خلف.
مقتل أبى جهل لعنه الله قال ابن هشام: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز [ وهو يقاتل ] (1) ويقول: ما تنقم الحرب العوان منى * بازل عامين حديث سنى لمثل هذا ولدتني أمي قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه أمر بأبى جهل أن يلتمس في القتلى.
وكان أول من لقى أبا جهل كما حدثنى ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس وعبد الله بن أبى بكر أيضا، قد حدثنى ذلك، قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة (2) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه.
فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكننى حملت عليه فضربته ضربة أطنت (3) قدمه بنصف ساقه، فو الله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها.
قال: وضربنى ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدى
__________
(1) من ابن هشام.
(2) قال ابن هشام: الحرجة: الشجر الملتف.
(3) أطنت: أطارت.
(*)

فتعلقت بجلدة من جنبى، وأجهضني (1) القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومى وإنى لاسحبها خلفي، فلما آذتنى وضعت عليها قدمى ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان.
ثم مر بأبى جهل، وهو عقير، معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته، وتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل.
فمر عبدالله بن مسعود بأبى جهل، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني: انظروا إن خفى عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته، فإنى ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش (2) في أحدهما جحشا لم يزل أثره به.
قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلى على عنقه.
قال: وقد كان ضبث بى (3) مرة بمكة فأذاني ولكزنى، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال: وبماذا أخزاني [ قال (4) ] أعمد من رجل قتلتموه (5).
أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال: قلت لله ولرسوله.
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بنى مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لى: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم.
ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله.
فقال: " آ لله الذى
لا إله غيره ؟ ".
وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: نعم والله الذى لا إله غيره.
ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله.
__________
(1) أجهضني: غلبنى.
(2) جحش: انخدش.
(3) ضبث: قبض عليه ولزمه.
(4) ليست في ابن هشام.
(5) ابن هشام: أعمد من رجل قتله قومه.
(*)

هكذا ذكر ابن إسحاق رحمه الله.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق يوسف بن يعقوب بن الماجشون، عن صالح ابن ابراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن عوف، قال: إنى لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يمينى وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الانصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أظلع (1) منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل ؟ فقلت: نعم وما حاجتك إليه ؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الاعجل منا.
فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لى أيضا مثلها.
فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان ؟ هذا صاحبكم الذى تسألان عنه.
فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: " أيكما قتله ؟ ".
قال كل منهما: أنا قتلته.
قال: " هل مسحتما سيفيكما ؟ " قالا: لا قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال: " كلاهما قتله " وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخر معاذ بن عفراء.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابراهيم بن سعد، عن أبيه عن جده، قال: قال عبدالرحمن: إنى لفى الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لى أحدهما سرا من صاحبه: يا عم أرنى أبا جهل.
فقلت: يا بن أخى ما تصنع به ؟ قال: عاهدت الله إن
رأيته أن أقتله أو أموت دونه.
وقال لى الآخر سرا من صاحبه مثله.
قال: فما سرنى إننى بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه هما ابنا عفراء.
__________
(1) أظلع: أضعف.
(*)

وفى الصحيحين أيضا من حديث أبى سليمان التيمى، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى عليه الله وسلم " من ينظر ماذا صنع أبو جهل ؟ " قال ابن مسعود: أنا يا رسول الله.
فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد.
قال: فأخذ بلحيته قال فقلت: أنت أبو جهل ؟ فقال: وهل فوق رجل قتلتموه.
أو قال: قتله قومه ! وعند البخاري، عن أبى أسامة، عن إسماعيل بن قيس، عن ابن مسعود، أنه أتى أبا جهل فقال: هل أخزاك الله ؟ فقال: هل اعمد من رجل قتلتموه ! وقال الاعمش، عن أبى إسحاق، عن أبى عبيدة، عن عبدالله، قال: انتهيت إلى أبى جهل وهو صريع وعليه بيضة ومعه سيف جيد، ومعى سيف ردئ، فجعلت أنقف رأسه بسيفي وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة حتى ضعفت (1) يده، فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال: على من كانت الدائرة، لنا أو علينا ؟ ألست رويعينا بمكة ؟ قال: فقتلته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: قتلت أبا جهل.
فقال: آلله الذى لا إله إلا هو ؟ فاستحلفني ثلاث مرات.
ثم قام معى إليهم فدعا عليهم.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبى عبيدة، قال: قال عبدالله: انتهيت إلى أبى جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد لله الذى أخزاك الله يا عدو الله.
قال: هل هو إلا رجل قتله قومه !
فجعلت أتناوله بسيف لى غير طائل، فأصبت يده، فندر (2) سيفه، فأخذته فضربته حتى قتلته.
قال: ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أقل (3) من الارض فأخبرته فقال: " آلله الذى لا إله إلا هو ؟ " فرددها ثلاثا.
قال: قلت: آلله الذى لا إله إلا هو.
__________
(1) ا: صفقت.
(2) ندر: سقط.
(3) أقل: أحمل.
(*)

قال: فخرج يمشى معى حتى قام عليه فقال: " الحمد لله الذى قد أخزاك الله يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الامة ".
وفى رواية أخرى قال ابن مسعود " فنفلنى سيفه.
وقال أبو إسحاق الفزارى، عن الثوري، عن أبى إسحاق، عن أبى عبيدة، عن ابن مسعود قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقلت: قد قتلت أبا جهل فقال: " آلله الذى لا إله إلا هو ؟ " فقلت: آلله الذى لا إله إلا هو مرتين، أو ثلاثا.
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده " ثم قال: " انطلق فأرنيه، فانطلقت فأريته، فقال: " هذا فرعون هذه الامة ".
ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبى إسحاق السبيعى به.
وقال الواقدي: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصرع ابني عفراء فقال: " رحم الله ابني عفراء، فهما شركاء في قتل فرعون هذه الامة ورأس أئمة الكفر " فقيل: يا رسول الله ومن قتله معهما ؟ قال: " الملائكة، وابن مسعود قد شرك في قتله ".
رواه البيهقى.
وقال البيهقى: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن عنبسة بن الازهر، عن أبى إسحاق، قال: لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البشير يوم بدر بقتل أبى جهل استحلفه ثلاثة أيمان بالله الذى لا إله إلا هو لقد رأيته قتيلا ؟ فحلف له، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا.
ثم روى البيهقى من طريق أبى نعيم، عن سلمة بن رجاء، عن الشعثاء، امرأة من بنى أسد، عن عبدالله بن أبى أوفى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين حين بشر بالفتح وحين جئ برأس أبى جهل.

وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بشر بكر بن خلف، حدثنا سلمة بن رجاء، قال حدثتني شعثاء، عن عبدالله بن أبى أوفى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبى جهل ركعتين.
وقال ابن أبى الدنيا: حدثنا أبى، حدثنا هشام، أخبرنا مجالد، عن الشعبى، أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الارض فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الارض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مرارا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو جهل بن هشام، يعذب إلى يوم القيامة ".
وقال الاموى في مغازيه: سمعت أبى، حدثنا المجالد بن سعيد، عن عامر، قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال إنى رأيت رجلا جالسا في بدر ورجل يضرب رأسه بعمود من حديد حتى يغيب في الارض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك أبو جهل وكل به ملك يفعل به كلما خرج، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ".
وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه
قال: قال الزبير: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بعنزة فطعنته في عينه فمات.
قال هشام: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلى عليه ثم تمطيت، فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها، قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سألها إياه عمر بن الخطاب فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل على فطلبها عبدالله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.

وقال ابن هشام: حدثنى أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي، أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص، ومر به، إنى أراك كأن في نفسك شيئا، أراك تظن أنى قتلت أباك ؟ إنى لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإنى مررت به وهو يبحث بحث الثور بروقه، فحدت عنه وقصد له ابن عمه على فقتله.
* * * قال ابن إسحاق " وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الاسدي حليف بنى عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب فقال: " قاتل بهذا يا عكاشة ".
فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد سيفا في يده طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتله طليحة الاسدي أيام الردة، وأنشد طليحة في ذلك قصيدة منها قوله:
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة الغنمى عند مجال وقد أسلم بعد ذلك طليحة، كما سيأتي بيانه.
قال ابن إسحاق: وعكاشة هو الذى قال حين بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بسبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: ادع الله أن يجعلني منهم قال: " اللهم اجعله منهم ".
وهذا الحديث مخرج في الصحاح والحسان وغيرهما.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - " منا خير فارس في العرب " قالوا: ومن هو يا رسول الله ؟ قال " عكاشة بن محصن " فقال ضرار

ابن الازور: ذاك رجل منا يا رسول الله.
قال " ليس منكم، ولكنه منا للحلف.
وقد روى البيهقى، عن الحاكم، من طريق محمد بن عمر الواقدي، حدثنى عمر بن عثمان الخشنى، عن أبيه، عن عمته، قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفى يوم بدر فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتلت به حتى هزم الله المشركين، ولم يزل عنده حتى هلك.
وقال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد، عن داود بن الحصين، عن رجال من بنى عبد الاشهل، عدة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن حريش يوم بدر، فبقى أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب (1) فقال: اضرب به.
فإذا سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبى عبيدة.
رده عليه السلام عين قتادة قال البيهقى في الدلائل: أخبرنا أبو سعد المالينى، أخبرنا أبو أحمد بن عدى، حدثنا أبو يعلى، حدثنا يحيى الحمانى، حدثنا عبد العزيز بن سليمان بن الغسيل،
عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان، أنه أصيبت عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لا " فدعاه فغمز حدقته براحته، فكان لا يدرى أي عينيه أصيب ! وفى رواية: فكانت أحسن عينيه.
وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه لما أخبره بهذا الحديث عاصم ابن عمر بن قتادة وأنشد مع ذلك:
__________
(1) ابن طاب: ضرب من الرطب.
(*)

أنا ابن الذى سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أيما رد فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند ذلك، منشدا قول أمية بن أبى الصلت في سيف بن ذى يزن، فأنشده عمر في موضعه حقا: تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فصل في قصة أخرى شبيهة بها قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا محمد بن صالح، أخبرنا الفضل بن محمد الشعرانى، حدثنا إبراهيم بن المنذر، أخبرنا عبد العزيز بن عمران، حدثنى رفاعة بن يحيى، عن معاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه رافع بن مالك، قال: لما كان يوم بدر تجمع الناس على أبى بن خلف، فأقبلت إليه فنظرت إلى قطعة من درعه قد انقطعت من تحت إبطه، قال: فطعنته بالسيف فيها طعنة، ورميت بسهم يوم بدر، ففقئت عينى، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لى، فما آذانى منها شئ.
وهذا غريب من هذا الوجه، وإسناده جيد ولم يخرجوه.
ورواه الطبراني من حديث إبراهيم بن المنذر.
* * * قال ابن هشام: ونادى أبو بكر ابنه عبدالرحمن، وهو يومئذ مع المشركين لم يسلم بعد، فقال: أين مالى يا خبيث ؟ فقال عبدالرحمن: لم يبق إلا شكة ويعبوب * وصارم يقتل ضلال الشيب يعنى لم يبق إلا عدة الحرب وحصان وهو اليعبوب، يقاتل عليه شيوخ الضلالة.
هذا يقوله في حال كفره.
وقد روينا في مغازى الاموى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشى هو

وأبو بكر الصديق بين القتلى: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نفلق هاما ": فيقول الصديق: من رجال أعزة * علينا، وهم كانوا أعق وأظلما ! ذكر طرح رءوس الكفر في بئر يوم بدر قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، طرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملاها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل [ لحمه ] فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
فلما ألقاهم في القليب وقف عليهم فقال: " يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدني ربى حقا ؟ ".
قالت فقال له أصحابه " يا رسول الله أتكلم قوما موتى ؟ ! فقال: " لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق ".
قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم.
وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد علموا.
قال ابن إسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: سمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله من جوف الليل وهو يقول " يا أهل القليب، يا عتبة ابن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، فعدد من كان منهم في القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدني ربى حقا.
فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادى قوما قد جيفوا ؟.
(29 - السيرة 2)

فقال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ".
وقد رواه الامام أحمد عن ابن أبى عدى، عن حميد، عن أنس.
فذكر نحوه.
وهذا على شرط الشيخين.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإنى قد وجدت ما وعدني ربى حقا ".
قلت: وهذا مما كانت عائشة رضى الله عنها تتأوله من الاحاديث، كما قد جمع ما كانت تتأوله من الاحاديث في جزء، وتعتقد أنه معارض لبعض الآيات.
وهذا المقام مما كانت تعارض فيه قوله: " وما أنت بمسمع من في القبور " وليس هو بمعارض له، والصواب قول الجمهور من الصحابة ومن بعدهم، للاحاديث الدالة نصا على خلاف ما ذهبت إليه رضى الله عنها وأرضاها.
وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله.
فقالت: رحمه الله ! إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه
ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن ".
قالت: وذاك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين، فقال لهم ما قال، قال: إنهم ليسمعون ما أقول.
وإنما قال: " إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " ثم قرأت: " إنك لا تسمع الموتى " و " ما أنت بمسمع من في القبور " تقول: حين تبوأوا مقاعدهم من النار.
وقد رواه مسلم عن أبى كريب عن أبى أسامة به.

وقد جاء التصريح بسماع الميت بعد دفنه في غير ما حديث، كما سنقرر ذلك في كتاب الجنائز من الاحكام الكبير إن شاء الله.
ثم قال البخاري: حدثنى عثمان، حدثنا عبدة، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ثم قال: " إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم ".
وذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذى كنت أقول لهم هو الحق.
ثم قرأت: " إنك لا تسمع الموتى " حتى قرأت الآية.
وقد رواه مسلم عن أبى كريب، عن أبى أسامة، وعن أبى بكر بن أبى شيبة، عن وكيع، كلاهما عن هشام بن عروة.
* * * وقال البخاري: حدثنا (1) عبدالله بن محمد، سمع روح بن عبادة، حدثنا سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك، عن أبى طلحة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى (2) من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة (3) ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه
وقالوا ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته.
حتى قام على شفة الركى، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، يسركم (4) أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ! ".
فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها ؟
__________
(1) البخاري: حدثنى.
(2) الطوى: البئر المبنية بالحجارة (3) العرصة: الموضع الواسع لا بناء فيه.
(4) البخاري: أيسركم.
(*)

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذى نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ".
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما.
وقد أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن سعيد بن أبى عروبة.
ورواه الامام أحمد، عن يونس بن محمد المؤدب، عن شيبان بن عبدالرحمن، عن قتادة، قال: حدث أنس بن مالك.
فذكر مثله.
فلم يذكر أبا طلحة.
وهذا إسناد صحيح، ولكن الاول أصح وأظهر.
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثة أيام حتى جيفوا، ثم أتاهم فقام عليهم فقال: " يا أمية ابن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإنى قد وجدت ما وعدني ربى حقا ".
قال: فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون ؟ يقول الله تعالى: " إنك لا تسمع الموتى " فقال: " والذى نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا ".
ورواه مسلم، عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.
* * * وقال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت: عرفت ديار زينب بالكثيب * كخط الوحى في الورق القشيب (1) تداولها الرياح وكل جون * من الوسمى (2) منهمر سكوب فأمسى رسمها خلقا وأمست * يبابا بعد ساكنها الحبيب فدع عنك التذكر كل يوم * ورد حرارة القلب الكئيب (3)
__________
(1) الوحى: الكتابة.
(2) الوسمى: مطر الخريف.
(3) ابن هشام: الصدر الكئيب.
(*)

وخبر بالذى لا عيب فيه * بصدق غير إخبار الكذوب بما صنع المليك غداة بدر * لنا في المشركين من النصيب غداة كأن جمعهم حراء * بدت أركانه جنح الغروب فلاقيناهم منا بجمع * كأسد الغاب مردان وشيب أمام محمد قد وازروه * على الاعداء في لفح الحروب بأيديهم صوارم مرهفات * وكل مجرب خاطى الكعوب بنو الاوس الغطارف وازرتها * بنو النجار في الدين الصليب فغادرنا أبا جهل صريعا * وعتبة قد تركنا بالجبوب (1) وشيبة قد تركنا في رجال * ذوى حسب إذا نسبوا حسيب يناديهم رسول الله لما * قذفناهم كباكب في القليب ألم تجدوا كلامي كان حقا * وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا * صدقت وكنت ذا رأى مصيب قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا في القليب أخذ
عتبة بن ربيعة فسحب في القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - في وجه أبى حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير لونه فقال: " يا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ ؟ " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبى ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للاسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذى كنت أرجو له، أحزنني ذلك.
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيرا.
__________
(1) الجبوب: وجه الارض.
(*)

وقال البخاري: حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: " الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال: هم والله كفار قريش.
قال عمرو: هم قريش، ومحمد نعمة الله: " وأحلوا قومهم دار البوار " قال: النار يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت: قومي الذين هم آووا نبيهم * وصدقوه وأهل الارض كفار إلا خصائص أقوام هم سلف * للصالحين من الانصار أنصار مستبشرين بقسم الله قولهم * لما أتاهم كريم الاصل مختار أهلا وسهلا ففى أمن وفى سعة * نعم النبي ونعم القسم والجار [ فأنزلوه بدار لا يخاف بها * من كان جارهم دارا هي الدار (1) ] وقاسموهم بها الاموال إذ قدموا * مهاجرين وقسم الجاحد (2) النار سرنا وساروا إلى بدر لحينهم * لو يعلمون يقين العلم ما ساروا والاهم (3) بغرور ثم أسلمهم * إن الخبيث لمن والاه غرار وقال إنى لكم جار فأوردهم * شر الموارد فيه الخزى والعار
ثم التقينا فولوا عن سراتهم * من منجدين ومنهم فرقة غاروا وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن أبى بكر وعبد الرزاق، قالا: حدثنا إسرائيل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القتلى قيل له: عليك العير ليس دونها شئ.
فناداه العباس وهو في الوثاق: إنه لا يصلح لك.
قال: لم ؟ قال: لان الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك.
* * *
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل: الجاهل.
وما أثبته عن ابن هشام.
(3) ابن هشام: دلاهم.
(*)

وقد كانت جملة من قتل من سراة الكفار يوم بدر سبعين، هذا مع حضور ألف من الملائكة.
وكان قدر الله السابق فيمن بقى منهم أن سيسلم منهم بشر كثير، ولو شاء الله لسلط عليهم ملكا واحدا فأهلكهم عن آخرهم، ولكن قتلوا من لا خير فيه بالكلية.
وقد كان في الملائكة جبريل الذى أمره الله تعالى فاقتلع مدائن قوم لوط، وكن سبعا فيهن من الامم والدواب والاراضي والمزروعات، وما لا يعلمه إلا الله، فرفعهن حتى بلغ بهن عنان السماء على طرف جناحه، ثم قلبهن منكسات وأتبعهن بالحجارة التى سومت لهم.
كما ذكرنا ذلك في قصة قوم لوط.
وقد شرع الله جهاد المؤمنين للكافرين، وبين تعالى حكمه في ذلك فقال: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء، حتى تضع الحرب أوزارها، ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " (1) الآية.
وقال تعالى: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم
وينصركم عليهم ويشف صدرو قوم مؤمنين.
ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء " (2) الآية.
فكان قتل أبى جهل على يدى شاب من الانصار، ثم بعد ذلك يوقف عليه عبدالله بن مسعود ومسك بلحيته وصعد على صدره حتى قال له: لقد رقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم.
ثم بعد هذا حز رأسه واحتمله حتى وضعه بين يدى رسول الله.
__________
(1) سورة محمد 4.
(2) سورة التوبة 14، 15.
(*)

فشفى الله به قلوب المؤمنين، كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة أو أن يسقط عليه سقف منزله أو يموت حتف أنفه ! والله أعلم.
* * * وقد ذكر ابن إسحاق فيمن قتل يوم بدر مع المشركين، ممن كان مسلما ولكنه خرج معهم تقية منهم، لانه كان فيهم مضطهدا قد فتنوه عن إسلامه، جماعة منهم: الحارث بن زمعة بن الاسود، وأبو قيس بن الفاكه، [ وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ] (1) وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج.
قال: وفيهم نزل قوله تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم.
قالوا: كنا مستضعفين في الارض.
قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.
فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " (2).
وكان جملة الاسارى يومئذ سبعين أسيرا، كما سيأتي الكلام عليهم فيما بعد إن شاء الله، منهم من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمه العباس بن عبدالمطلب، وابن عمه عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب.
وقد استدل الشافعي والبخاري وغيرهما بذلك على أنه ليس كل من ملك
ذا رحم محرم يعتق عليه، وعارضوا به حديث الحسن، عن أبن سمرة في ذلك.
فالله أعلم.
وكان فيهم أبو العاص ابن الربيع بن عبد شمس بن أمية زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) سورة النساء 97.
(*)

فصل وقد اختلف الصحابة في الاسارى: أيقتلون أو يفادون على قولين.
كما قال الامام أحمد: حدثنا على بن عاصم، عن حميد، عن أنس، وذكر رجل، عن الحسن، قال: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الاسارى يوم بدر فقال: " إن الله قد أمكنكم منهم ".
قال: فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، قال: فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم عاد النبي فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء.
قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء.
قال وأنزل الله تعالى: " لو لا كتاب من الله سبق لمسكم " الآية.
انفرد به أحمد.
وقد روى الامام أحمد، واللفظ له، ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه وكذا على ابن المدينى وصححه، من حديث عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثنى ابن عباس، حدثنى عمر بن الخطاب قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه
يوم بدر وهم ثلاثمة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة.
فذكر الحديث كما تقدم إلى قوله: فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا.
واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليا وعمر، فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان، وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية،

فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ترى يا بن الخطاب ؟ " قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوداة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء.
فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وهما يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة ".
لشجرة قريبة.
وأنزل الله تعالى: " ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدينا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم.
لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم " من الفداء، ثم احل لهم الغنائم.
وذكر تمام الحديث.
* * *
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبيدة، عن عبدالله، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الاسرى ؟ قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم.
قال: وقال عمر: يا رسول الله أخرجوك وكذبوك، قربهم فأضرب أعناقهم.

قال: وقال عبدالله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارا.
قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا.
فقال ناس: يأخذ بقول أبى بكر.
وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس يأخذ بقول عبدالله بن رواحة.
فخرج عليهم فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: " رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم " أنتم عالة فلا يبقين أحد إلا بفداء أو ضربة عنق.
قال عبدالله: فقلت: يا رسول إلا سهيل بن بيضاء فإنى قد سمعته يذكر الاسلام.
قال: فسكت.
قال: فما رأيتنى في يوم أخوف أن تقع على حجارة من السماء من ذلك اليوم.
حتى قال: " إلا سهيل بن بيضاء ".
قال: فأنزل الله: " ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض، تريدون عرض الدينا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم، لو لا كتاب من الله سبق لمسكم "
إلى آخر الآيتين.
وهكذا رواه الترمذي والحاكم من حديث أبى معاوية، وقال الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
ورواه ابن مردويه من طريق عبدالله بن عمر وأبى هريرة بنحو ذلك.
وقد روى عن أبى أيوب الانصاري بنحوه.
وقد روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك، من حديث عبيد الله بن موسى،

حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: لما أسر الاسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الانصار.
قال: وقد أوعدته الانصار أن يقتلوه.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إنى لم أنم الليلة من أجل عمى العباس، وقد زعمت الانصار أنهم قاتلوه " قال عمر: أفآتيهم ؟ قال: نعم.
فأتى عمر الانصار فقال لهم: أرسلوا العباس.
فقالوا: لا والله لا نرسله.
فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله رضا ؟ قالوا فإن كان له رضا فخذه.
فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له عمر: يا عباس أسلم، فو الله لئن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب.
وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك.
قال: واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم.
واستشار عمر فقال: اقتلهم.
ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: " ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض " الآية.
ثم قال الحاكم في صحيحه: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث سفيان الثوري، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن على، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خير أصحابك في الاسارى إن شاءوا الفداء وإن شاءوا القتل، على أن يقتل عاما قابلا منهم مثلهم.
قالوا: الفداء أو يقتل منا.
وهذا حديث غريب جدا، ومنهم من رواه مرسلا عن عبيدة.
والله أعلم.
وقد قال ابن إسحاق، عن ابن أبى نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله: " لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " يقول: لو لا أنى لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم.
وهكذا روى عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد أيضا.
واختاره ابن إسحاق وغيره.

وقال الاعمش: سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا.
وهكذا روى عن سعد بن أبى وقاص وسعيد بن جبير وعطاء بن أبى رباح.
وقال مجاهد والثوري: " لو لا كتاب من الله سبق " أي لهم بالمغفرة.
وقال الوالبى: عن ابن عباس، سبق في أم الكتاب الاول أن المغانم وفداء الاسارى حلال لكم، ولهذا قال بعده: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ".
وهكذا روى عن أبى هريرة وابن مسعود وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة والاعمش، واختاره ابن جرير.
وقد ترجح هذا القول بما ثبت في الصحيحين، عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الانبياء قبلى، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لى الارض مسجدا وطهورا، وحلت لى الغنائم ولم تحل لاحد قبلى، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ".
وروى الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم " لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا ".
ولهذا قال تعالى: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " فأذن الله تعالى في أكل الغنائم وفداء الاسارى.
وقد قال أبو داود: حدثنا عبدالرحمن بن المبارك العبسى، حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة، عن أبى العنبس، عن أبى الشعثاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وهذا كان أقل ما فودى به أحد منهم من المال، وأكثر ما فودى به الرجل منهم أربعة آلاف درهم.
* * *

وقد وعد الله من آمن منهم بالخلف عما أخذ منه في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: " يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم " الآية.
وقال الوالبى، عن ابن عباس، نزلت في العباس ففادي نفسه بالاربعين أوقية من ذهب.
قال العباس: فأتاني الله أربعين عبدا.
يعنى كلهم يتجر له.
قال: وأنا أرجو المغفرة التى وعدنا الله جل ثناؤه.
وقال ابن إسحاق: حدثنى العباس بن عبدالله بن معبد (1)، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر والاسارى محبوسون بالوثاق، بات النبي صلى الله عليه وسلم ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: ما لك لا تنام يا رسول الله ؟ فقال: " سمعت أنين عمى العباس في وثاقه " فأطلقوه، فسكت، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكان رجلا موسرا ففادي نفسه بمائة أوقية من ذهب.
قلت: وهذه المائة كانت عن نفسه وعن ابني أخويه عقيل ونوفل، وعن حليفه عتبة بن عمرو أحد بنى الحارث بن فهر، كما أمره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ادعى أنه كان قد أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك وسيجزيك " فادعى أنه لا مال عنده.
قال: " فأين المال الذى دفنته أنت وأم الفضل وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبنى الفضل وعبد الله وقثم ؟ ".
فقال: والله إنى لاعلم أنك رسول الله، إن هذا شئ ما علمه إلا أنا وأم الفضل.
رواه ابن إسحاق، عن ابن أبى نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس.
وثبت في صحيح البخاري من طريق موسى بن عقبة، قال الزهري: حدثنى أنس
__________
(1) الاصل: معقل.
وهو تحريف.
وهو العباس بن عبدالله بن معبد بن العباس بن عبدالمطلب الهاشمي المدنى.
(*)

ابن مالك، قال: إن رجالا من الانصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إيذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه.
فقال: " لا والله لا تذرون منه درهما ".
قال البخاري: وقال ابراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتى بمال من البحرين فقال: " انثروه في المسجد " فكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني، إنى فاديت نفسي وفاديت عقيلا.
فقال: خذ.
فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال مر بعضهم يرفعه إلى.
قال: لا.
قال: فارفعه أنت على.
قال: لا.
فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلى.
قال: لا.
قال: فارفعه أنت على.
قال: لا.
فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق.
فما زال يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرصه ! فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم.
وقال البيهقى: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل بن عبدالرحمن السدى، قال: كان فداء العباس وابنى أخويه عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، كل رجل أربعمائة دينار، ثم توعد تعالى الآخرين فقال: " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله
من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ".
فصل والمشهور أن الاسارى يوم بدر كانوا سبعين، والقتلى من المشركين سبعين كما ورد في غير ما حديث مما تقدم وسيأتى إن شاء الله، وكما في حديث البراء بن عازب في صحيح البخاري أنهم قتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين.
وقال موسى بن عقبة: قتل يوم بدر من المسلمين من قريش ستة ومن الانصار

ثمانية، وقتل من المشركين تسعة وأربعون، وأسر منهم تسعة وثلاثون.
هكذا رواه البيهقى عنه.
قال: وهكذا ذكر ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة، في عدد من استشهد من المسلمين وقتل من المشركين.
ثم قال: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الاصم، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: واستشهد من المسلمين يوم بدر احد عشر رجلا.
أربعة من قريش وسبعة من الانصار، وقتل من المشركين بضعة وعشرون رجلا.
وقال في موضع آخر: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون أسيرا، وكانت القتلى مثل ذلك.
ثم روى البيهقى، من طريق أبى صالح، كاتب الليث، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، قال: وكان أول قتيل من المسلمين مهجع مولى عمر، ورجل من الانصار وقتل يومئذ من المشركين زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
قال: ورواه ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: قال البيهقى: وهو الاصح فيما رويناه في عدد من قتل من المشركين وأسر منهم.
ثم استدل على ذلك بما ساقه هو والبخاري أيضا من طريق أبى إسحاق، عن البراء
ابن عازب، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد عبدالله بن جبير، فأصابوا منا سبعين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسير، وسبعين قتيلا.
قلت: والصحيح أن جملة المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الالف.
وقد صرح قتادة بأنهم كانوا تسعمائة وخمسين رجلا، وكأنه أخذه من هذا الذى ذكرناه.
والله أعلم.

وفى حديث عمر المتقدم أنهم كانوا زيادة على الالف، والصحيح الاول، لقوله عليه السلام " القوم ما بين التسعمائة إلى الالف ".
وأما الصحابة يومئذ فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، كما سيأتي التنصيص على ذلك وعلى، أسمائهم إن شاء الله.
وتقدم في حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن وقعة بدر كانت يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وقاله أيضا عروة بن الزبير وقتادة وإسماعيل والسدى الكبير وأبو جعفر الباقر.
وروى البيهقى، من طريق قتيبة، عن جرير، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن الاسود عن عبدالله بن مسعود في ليلة القدر، قال: " تحروها لاحدى عشرة بقين فإن صبيحتها يوم بدر ".
قال البيهقى: وروى عن زيد بن أرقم، أنه سئل عن ليلة القدر فقال: ليلة تسع عشرة ما شك.
وقال: يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.
قال البيهقى: والمشهور عن أهل المغازى أن ذلك لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان.
ثم قال البيهقى: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك،
حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمرو بن عثمان، سمعت موسى بن طلحة يقول: سئل أبو أيوب الانصاري عن يوم بدر، فقال: إما لسبع عشرة خلت، أو ثلاث عشرة خلت، أو لاحدى عشرة بقيت، وإما لسبع عشرة بقيت.
وهذا غريب جدا.
[ وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة قباث بن أشيم الليثى، من طريق الواقدي (30 - السيرة 2)

وغيره بإسنادهم إليه، أنه شهد يوم بدر مع المشركين، فذكر هزيمتهم مع قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجعلت أقول في نفسي: ما رأيت مثل هذا الامر فر منه إلا النساء، والله لو خرجت نساء قريش بالسهاء (1) ردت محمدا وأصحابه.
فلما كان بعد الخندق قلت: لو قدمت المدينة فنظرت إلى ما يقول محمد.
وقد وقع في نفسي الاسلام، قال فقدمتها فسألت عنه، فقالوا: هو ذاك في ظل المسجد في ملا من أصحابه.
فأتيته وأنا لا أعرفه من بين أصحابه، فسلمت فقال: يا قباث بن أشيم، أنت القائل يوم بدر: ما رأيت مثل هذا الامر فر منه إلا النساء ؟ فقلت: أشهد أنك رسول الله فإن هذا الامر ما خرج منى إلى أحد قط ولا تزمزمت به، إلا شيئا حدثت به نفسي، فلو لا أنك نبى ما أطلعك عليه، هلم أبايعك على الاسلام فأسلمت (2) ].
فصل وقد اختلفت الصحابة رضى الله عنهم يوم بدر في المغانم من المشركين يومئذ لمن تكون منهم.
وكانوا ثلاثة أصناف حين ولى المشركون: ففرقة أحدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم تحرسه، خوفا من أن يرجع أحد من المشركين إليه.
وفرقة ساقت وراء المشركين يقتلون منهم ويأسرون.
وفرقة جمعت المغانم من متفرقات الاماكن.
فادعى كل فريق من هؤلاء أنه أحق بالمغنم من الآخرين لما صنع من الامر المهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالرحمن بن الحارث وغيره عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبى أمامة الباهلى قال: سألت عبادة بن الصامت، عن الانفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا
__________
(1) السهاء: جمع سهوة.
وهى القوس المواتية.
(2) سقط من ا.
(*)

فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين المسلمين عن بواء.
يقول: عن سواء.
وهكذا رواه أحمد عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق به.
ومعنى قوله: " على السواء " أي ساوى فيها بين الذين جمعوها، وبين الذين اتبعوا العدو، وبين الذين ثبتوا تحت الرايات، لم يخصص بها فريقا منهم ممن ادعى التخصيص بها ولا ينفى هذا تخميسها وصرف الخمس في مواضعه، كما قد يتوهمه بعض العلماء، منهم أبو عبيدة وغيره، والله أعلم.
بل قد تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار من مغانم بدر.
قال ابن جرير: وكذا اصطفى جملا لابي جهل كان في أنفه برة من فضة، وهذا قبل إخراج الخمس أيضا.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا ابن إسحاق، عن عبدالرحمن ابن الحارث بن عبدالله بن عباس بن أبى ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن أبى سلام، عن أبى أمامة، عن عبادة بن الصامت، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون
ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وليس لاحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا، نحن نفينا منها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به.
فأنزل الله: " يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ".

فقسمها رسول الله بين المسلمين: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعا نفل الثلث، وكان يكره الانفال.
وقد روى الترمذي وابن ماجه، من حديث الثوري، عن عبدالرحمن بن الحارث آخره.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبدالرحمن، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.
وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من طرق، عن داود بن أبى هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا.
فسارع في ذلك شبان الرجال وبقى الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت الغنائم جاءوا يطلبون الذى جعل لهم، قال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءا لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا.
فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: " يسألونك عن الانفال، قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ".
وقد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية آثارا أخر يطول بسطها ها هنا.
ومعنى الكلام: أن الانفال مرجعها إلى حكم الله ورسوله يحكمان فيها بما فيه
المصلحة للعباد في المعاش والمعاد، ولهذا قال تعالى: " قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ".
ثم ذكر ما وقع في قصة بدر، وما كان من الامر حتى انتهى إلى قوله: " واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " الآية فالظاهر أن هذه الآية مبينة لحكم الله في الانفال الذى جعل مرده إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فبينه تعالى وحكم فيه بما أراد تعالى، وهو قول أبى زيد.
وقد زعم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قسم غنائم بدر على السواء بين الناس، ولم يخمسها.
ثم نزل بيان الخمس بعد ذلك ناسخا لما تقدم.
وهكذا روى الوالبى، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدى، وفى هذا نظر.
والله أعلم.
فإن في سياق الآيات قبل آية الخمس وبعدها كلها في غزوة بدر، فيقتضى أن أن ذلك نزل جملة في وقت واحد غير متفاصل بتأخر يقتضى نسخ بعضه بعضا.
ثم في الصحيحين عن على رضى الله عنه، أنه قال في قصة شارفيه اللذين اجتب أسنمتهما حمزة، أن إحداهما كانت من الخمس يوم بدر، ما يرد صريحا على أبى عبيد أن غنائم بدر لم تخمس.
والله أعلم.
بل خمست كما هو قول البخاري وابن جرير وغيرهما، وهو الصحيح الراجح.
والله أعلم.
فصل في رجوعه عليه السلام من بدر إلى المدينة، وما كان من الامور في مسيره إليها مؤيدا منصورا، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام وقد تقدم أن الوقعة كانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة.
وثبت في الصحيحين أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاثة أيام، وقد أقام عليه السلام بعرصة بدر ثلاثة أيام كما تقدم، وكان رحيله منها ليلة الاثنين، فركب ناقته ووقف على قليب بدر، فقرع أولئك الذين سحبوا إليه كما تقدم ذكره.
ثم سار عليه السلام ومعه الاسارى والغنائم الكثيرة، وقد بعث عليه السلام بين يديه بشيرين إلى المدينة بالفتح والنصر والظفر على من أشرك بالله وجحده وبه كفر، أحدهما عبدالله بن رواحة إلى أعالي المدينة، والثانى زيد بن حارثة إلى السافلة.

قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عثمان بن عفان رضى الله عنه قد احتبس عندها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب له رسول الله بسهمه وأجره في بدر.
قال أسامة: فلما قدم أبى زيد بن حارثه جئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الاسود، وأبو البختري العاص بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.
قال: قلت: يا أبة أحق هذا ؟ قال: إى والله يا بنى.
وروى البيهقى من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة ابن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف عثمان وأسامة بن زيد على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة، قال أسامة: فسمعت الهيعة فخرجت، فإذا زيد قد جاء بالبشارة، فو الله ما صدقت حتى رأينا الاسارى.
وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه.
* * * وقال الواقدي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر العصر بالاثيل، فلما صلى ركعة تبسم، فسئل عن تبسمه فقال: يرى ميكائيل وعلى جناحه النقع
فتبسم إلى وقال: إنى كنت في طلب القوم.
وأتاه جبريل حين فرغ من قتال أهل بدر على فرس أنثى معقود الناصية وقد عصم ثنييه الغبار فقال: يا محمد إن ربى بعثنى إليك وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت ؟ قال: نعم.
قال الواقدي: قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله ابن رواحة من الاثيل فجاءا يوم الاحد حين اشتد الضحى، وفارق عبدالله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق، فجعل عبدالله بن رواحة ينادى على راحلته: يا معشر الانصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة بن الاسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو.

قال عاصم بن عدى: فقمت إليه فنحوته فقلت: أحقا يا بن رواحة ؟ فقال: إى والله، وغدا يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاسرى مقرنين.
ثم تتبع دور الانصار بالعالية يبشرهم دارا دارا، والصبيان ينشدون معه يقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى إذا انتهى إلى دار بنى أمية وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء يبشر أهل المدينة، فلما جاء المصلى صاح على راحلته: قتل عتية وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أمية بن خلف وأبو جهل وأبو البختري وزمعة بن الاسود، وأسر سهيل ابن عمرو ذو الانياب، في أسرى كثير.
فجعل بعض الناس لا يصدقون زيدا ويقولون: ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا (1) حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا.
وقدم زيد حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، وقال رجل من المنافقين لاسامة: قتل صاحبكم ومن معه.
وقال آخر لابي لبابة: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون فيه أبدا، وقد قتل عليه أصحابه، قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدرى ماذا يقول من الرعب، وجاء فلا.
فقال أبو لبابة: يكذب الله قولك.
وقالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلا.
قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبى فقلت: أحق ما تقول ؟ فقال: إى والله حق ما أقول يا بنى.
فقويت نفسي، ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك.
فقال: إنما هو شئ سمعته من الناس يقولونه.
قال: فجئ بالاسرى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد شهد معهم بدرا، وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا.
__________
(1) فلا: منهزما.
(*)

قال الواقدي: وهم سبعون في الاصل مجتمع عليه لا شك فيه.
قال: ولقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الروحاء رءوس الناس يهنئون بما فتح الله عليه.
فقال له أسيد بن الحضير: يا رسول الله الحمد لله الذى أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت.
فقال له رسول الله: " صدقت ".
* * * قال ابن إسحاق: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة ومعه الاسارى، وفيهم عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث، وقد جعل على النفل عبدالله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار.
فقال راجز من المسلمين.
قال ابن هشام: [ يقال إنه ] هو عدى بن أبى الزغباء: أقم لها صدورها يا بسبس * ليس بذى الطلح لها معرس (1)
ولا بصحراء عمير محبس * إن مطايا القوم لا تحبس فحملها على الطريق أكيس * قد نصر الله وفر الاخنس قال: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له سير إلى سرحة به، فقسم هنالك النفل الذى أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل، حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش، كما حدثنى عاصم بن عمر ويزيد بن رومان: ما الذى تهنئوننا به ؟ ! والله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة فنحرناها.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " أي ابن أخى أولئك الملا ".
__________
(1) معرس: مقام.
(*)

قال ابن هشام: يعنى الاشراف والرؤساء.
مقتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط لعنهما الله قال ابن إسحاق: حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قتل النضر ابن الحارث، قتله على بن أبى طالب، كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة، ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبى معيط.
قال ابن إسحاق: فقال عقبة حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله: فمن للصبية يا محمد ؟ قال: " النار ! ".
وكان الذى قتله عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح، أخو بنى عمرو بن عوف، كما حدثنى أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر.
وكذا قال موسى بن عقبة في مغازيه، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل من الاسارى أسيرا غيره.
قال: ولما أقبل إليه عاصم بن ثابت قال: يا معشر قريش، علام أقتل من بين من ها هنا ؟ قال: على عداوتك الله ورسوله.
وقال حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبى، قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة قال: أتقتلني يا محمد من بين قريش ؟ قال: نعم أتدرون ما صنع هذا بى ؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام، فوضع رجله على عنقي وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عينى ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي.
قال ابن هشام: ويقال بل قتل عقبة على بن أبى طالب، فيما ذكره الزهري وغيره من أهل العلم.

قلت: كان هذان الرجلان من شر عباد الله، وأكثرهم كفرا وعنادا وبغيا وحسدا وهجاء للاسلام وأهله.
لعنهما الله، وقد فعل ! قال ابن هشام: فقالت قتيلة بنت الحارث، أخت النضر بن الحارث، في مقتل أخيها (1) يا راكبا إن الاثيل (2) مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية * ما إن تزال بها النجائب تخفق منى إليك وعبرة مسفوحة * جادت بوابلها وأخرى تخنق هل يسمعن النضر إن ناديته * أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضئى كريمة * من قومها والفحل فحل معرق (3) ما كان ضرك لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلينفقن * بأعز ما يغلو به ما ينفق (4)
والنضر أقرب من أسرت قرابة * وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه * لله أرحام هنالك (5) تشقق صبرا يقاد إلى المنية متعبا * رسف المقيد وهو عان موثق قال ابن هشام: ويقال، والله أعلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: " لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه ! ".
* * * قال ابن إسحاق: وقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الموضع أبو هند مولى فروة بن عمرو البياضى حجامه عليه السلام، ومعه زق خمر (6) مملوء حيسا،
__________
(1) ابن هشام تبكيه.
(2) الاثيل، موضع قرب المدينة بين بدر ووادى الصفراء.
(3) الضئى: الاصل.
وتروى: ضنء.
والمعرق الكريم (4) الاغانى 1 / 19: لو كنت قابل فدية فلنأتين * بأعز ما يغلو لديك وينفق (5) ابن هشام: هناك (6) ابن هشام: ولقى رسول الله.
بحميت مملوء حيسا.
والحميت: الزق (*)

وهو التمر والسويق بالسمن، هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله منه ووصى به الانصار.
قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الاسارى بيوم.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني نبيه بن وهب أخو بنى عبد الدار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالاسارى فرقهم بين أصحابه وقال: " استوصوا بهم خيرا ".
قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لابيه وأمه في
الاسارى، قال أبو عزيز: مر بى أخى مصعب بن عمير ورجل من الانصار يأسرنى فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك.
قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الانصار حين أقبلوا بى من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها فأستحي فأردها فيردها على ما يمسها ! قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، ولما قال أخوه مصعب لابي اليسر، وهو الذى أسره ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخى هذه وصاتك بى ! فقال له مصعب: إنه أخى دونك.
فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها.
قلت: وأبو عزيز هذا اسمه زرارة، فيما قاله ابن الاثير في غابة الصحابة، وعده خليفة بن خياط في أسماء الصحابة.
وكان أخا مصعب بن عمير لابيه، وكان لهما أخ آخر

لابويهما وهو أبو الروم بن عمير، وقد غلط من جعله قتل يوم أحد كافرا، ذاك أبو عزة، كما سيأتي في موضعه.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر، أن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن ابن سعد بن زرارة قال: قدم بالاسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، قال: وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب.
قال: تقول سودة: والله إنى لعندهم إذ أتينا فقيل: هؤلاء الاسارى قد أتى بهم.
قالت: فرجعت إلى بيتى ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قالت:
فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أي أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما ؟ ! فو الله ما أنبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: " يا سودة أعلى الله وعلى رسوله تحرضين ! ! " قال: قلت: يا رسول الله والذى بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.
ثم كان من قصة الاسارى بالمدينة ما سيأتي بيانه وتفصيله فيما بعد، من كيفية فدائهم وكميته.
إن شاء الله.
ذكر فرح النجاشي بوقعة بدر رضى الله عنه قال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو القاسم عبدالرحمن بن عبيد الله الحرفى ببغداد، حدثنا أحمد بن سلمان النجاد، حدثنا عبدالله بن أبى الدنيا، حدثنا حمزة بن العباس، حدثنا عبدان بن عثمان، حدثنا عبدالله بن المبارك، أخبرنا عبدالرحمن بن يزيد، عن جابر، عن عبدالرحمن، رجل من أهل صنعاء، قال أرسل النجاشي ذات يوم إلى

جعفر بن أبى طالب وأصحابه فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان ثياب جالس على التراب.
قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما أن رأى ما في وجوهنا قال: إنى أبشركم بما يسركم، إنه جاءني من نحو أرضكم عين لى فأخبرني أن الله قد نصر نبيه وأهلك عدوه وأسر فلان وفلان وقتل فلان وفلان، التقوا بواد يقال له بدر كثير الاراك كأنى أنظر إليه، كنت أرعى لسيدي رجل من بنى ضمرة إبله.
فقال له جعفر: ما بالك جالسا على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الاخلاط ؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى: إن حقا على عباد الله أن يحدثوا الله تواضعا عند ما يحدث لهم من نعمة.
فلما أحدث الله لى نصر نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت له هذا التواضع (1).
فصل في وصول خبر مصاب أهل بدر إلى أهاليهم بمكة قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم من مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبدالله الخزاعى فقالوا له: ما وراءك ؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم ابن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الاسود، ونبيه ومنبه، وأبو البختري ابن هشام.
فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية: والله لن (2) يعقل هذا، فسلوه عنى.
فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال: هو ذاك جالسا في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
قال موسى بن عقبة: ولما وصل الخبر إلى أهل مكة وتحققوه قطعت النساء شعورهن وعقرت خيول كثيرة ورواحل.
__________
(1) يبدو على هذا الخبر الافتعال والصنعة.
وفى سنده من هو مجهول الحال.
وأبو القاسم الحرفى كان مضطرب السماع.
(2) ابن هشام: والله إن يعقل.
(*)

وذكر السهيلي عن كتاب الدلائل لقاسم بن ثابت أنه قال لما كانت وقعة بدر سمع أهل مكة هاتفا من الجن يقول: أزار الحنيفيون بدرا وقيعة * سينقض منها ركن كسرى وقيصرا أبادت رجالا من لؤى وأبرزت * خرائد يضربن الترائب حسرا فيا ويح من أمسى عدو محمد * لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا * * * قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبدالمطلب، وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت
أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه.
وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر فبعث مكانه العاص ابن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف منهم رجل إلا بعث مكانه رجلا.
فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا، قال: وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل الاقداح أنحتها في حجرة زمزم، فو الله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب (1) الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان، واسمه المغيرة بن الحارث بن عبدالمطلب قد قدم.
قال: فقال أبو لهب: هلم إلى، فعندك لعمري الخبر.
قال: فجلس إليه والناس قيام عليه فقال: يا ابن أخى أخبرني كيف كان أمر الناس ؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا،
__________
(1) الطنب: الطرف.
(*)

ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض، والله ما تليق (1) شيئا ولا يقوم لها شئ.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدى ثم قلت: تلك والله الملائكة ! قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، قال وثاورته (2) فاحتملني وضرب بى الارض ثم برك على يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فبلغت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده ! فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة (3) فقتلته.
زاد يونس عن ابن إسحاق: فلقد تركه ابناه بعد موته ثلاثا ما دفناه حتى أنتن.
وكانت قريش تتقى هذه العدسة كما تتقى الطاعون، حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تدفنانه ؟ فقالا: إنا نخشى عدوة هذه القرحة، فقال: انطلقا فأنا أعينكما عليه.
فو الله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلى مكة فأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه بالحجارة.
[ قال يونس عن ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين، أنها كانت لا تمر على مكان أبى لهب هذا إلا تسترت بثوبها حتى تجوز (4) ] * * * قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا:
__________
(1) تليق: تبقى.
(2) ثاورته: واثبته.
وفى ا: بادرته.
(3) العدسة: قرحه قاتلة كانت تتشاءم بها العرب.
(4) سقط من ا.
(*)

لا تفعلوا يبلغ (1) محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنسوا بهم لا يأرب (2) عليكم محمد وأصحابه في الفداء.
قلت: وكان هذا من تمام ما عذب الله به أحياءهم في ذلك الوقت وهو تركهم النوح على قتلاهم، فإن البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين.
قال ابن إسحاق: وكان الاسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده، زمعة وعقيل والحارث، وكان يحب أن يبكى على بنيه قال: فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له، وكان قد ذهب بصره، انظر هل أحل النحب ؟ هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلى أبكى على أبى حكيمة، يعنى ولده زمعة، فإن جوفى
قد احترق ! قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكى على بعير لها أضلته.
قال: فذاك حين يقول الاسود: أتبكى أن أضل (3) لها بعير * ويمنعها من النوم السهود فلا تبكى على بكر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود (4) على بدر سراة بنى هصيص * ومخزوم ورهط أبى الوليد وبكى إن بكيت أبا عقيل (5) * وبكى حارثا أسد الاسود وبكيهم ولا تسمى جميعا * وما لابي حكيمة من نديد (6) ألا قد ساد بعدهم رجال * ولو لا يوم بدر لم يسودوا (7)
__________
(1) ابن هشام: فيبلغ.
(2) لا يأرب: لا يشتد.
(3) ابن هشام: أن يضل.
(4) البكر.
الفتى من الابل.
والجدود: الحظوظ.
(5) ابن هشام: على عقيل.
(6) تسمى: تسامى.
والنديد.
الشبيه.
(7) هنا إقواء.
(*)

فصل في بعث قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء أسراهم قال ابن إسحاق: وكان في الاسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه " فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبى وداعة، وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى: صدقتم لا تعجلوا.
وانسل من الليل وقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به.
قلت: وكان هذا أول أسير فدى ثم بعثت قريش في فداء أسراهم فقدم مكرز
ابن حفص بن الاخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذى أسره مالك بن الدخشم أخو بنى سالم بن عوف، فقال في ذلك: أسرت سهيلا فلا أبتغى * أسيرا به من جميع الامم وخندف تعلم أن الفتى * فتاها سهيل إذا يظلم ضربت بذى الشفر حتى انثنى * وأكرهت نفسي على ذى العلم قال ابن إسحاق: وكان سهيل رجلا أعلم من شفته السفلى.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بنى عامر بن لؤى، أن عمر ابن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أمثل به فيمثل الله بى وإن كنت نبيا ".
(31 - السيرة 2)

قلت: هذا حديث مرسل بل معضل.
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا: " إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه ".
قلت: وهذا هو المقام الذى قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب، ونجم النفاق بالمدينة وغيرها، فقام بمكة فخطب الناس وثبتهم على الدين الحنيف.
كما سيأتي في موضعه.
قال ابن إسحاق: فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضائهم، قالوا: هات الذى لنا.
قال: اجعلوا رجلى مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه، فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا عندهم.
وأنشد له ابن إسحاق في ذلك شعرا أنكره ابن هشام، فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبى بكر قال: وكان في الاسارى عمرو بن أبى سفيان صخر بن حرب.
قال ابن إسحاق: وكانت أمه بنت عقبة بن أبى معيط.
قال ابن هشام: بل كانت أمه أخت أبى معيط.
قال ابن هشام: وكان الذى أسره على بن أبى طالب.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبى بكر قال: فقيل لابي سفيان: أفد عمرا ابنك، قال: أيجتمع على دمى ومالى ! قتلوا حنظلة وأفدى عمرا ؟ دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم.
قال: فبينما هو كذلك محبوس بالمدينة إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بنى عمرو بن عوف ثم أحد بنى معاوية، معتمرا ومعه مرية (1) له، وكان شيخا مسلما، في
__________
(1) مرية: تصغير امرأة.
(*)

غنم له بالبقيع، فخرج من هنالك معتمرا، ولم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمرا، وقد كان عهد قريش أن قريشا لا يعرضون لاحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو، وقال في ذلك: أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه * تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا فإن بنى عمرو لئام أذلة * لئن لم يكفوا (1) عن أسيرهم الكبلا قال: فأجابه حسان بن ثابت يقول: لو كان سعد يوم مكة مطلقا * لاكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا بعضب حسام أو بصفراء نبعة * تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا (2) قال: ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان فيفكوا به صاحبهم، فأعطاهم النبي، فبعثوا به إلى أبى
سفيان فخلى سبيل سعد.
* * * قال ابن إسحاق: وقد كان في الاسارى أبو العاص بن الربيع بن عبدالعزى بن عبد شمس بن أمية، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته زينب.
قال ابن هشام: وكان الذى أسره خراش بن الصمة أحد بنى حرام.
قال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وكانت أمه هالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد، وكانت خديجة هي التى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه بابنتها زينب وكان لا يخالفها، وذلك قبل الوحى.
وكان عليه السلام قد زوج ابنته رقية، أو أم كلثوم، من عتبة بن أبى لهب، فلما جاء الوحى قال أبو لهب: اشغلوا محمدا بنفسه.
وأمر ابنه عتبة فطلق ابنة رسول الله صلى
__________
(1) وتروى: يفكوا.
(2) الصفراء: القوس.
والنبع: شجر تصنع منه القسى.
تحن: يصوت وترها.
أنبضت: حركت.
(*)

الله عليه وسلم قبل الدخول، فتزوجها عثمان بن عفان رضى الله عنه.
ومشوا إلى أبى العاص فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأى امرأة من قريش شئت.
قال: لا والله إذا لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لى بامرأتي امرأة من قريش.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنى عليه في صهره فيما بلغني.
قلت: الحديث بذلك في الثناء عليه في صهره ثابت في الصحيح، كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم، مغلوبا على أمره، وكان الاسلام قد فرق بين زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبى العاص، وكان لا يقدر على أن يفرق بينهما.
قلت: إنما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة.
كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قال أبن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبى العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى عليها.
قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذى لها فافعلوا ".
قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذى لها.
* * * قال ابن إسحاق: فكان ممن سمى لنا ممن من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاسارى بغير فداء من بنى أمية: أبو العاص بن الربيع، ومن بنى مخزوم المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم أسره بعض بنى الحارث بن الخزرج، فترك في أيديهم حتى خلوا سبيله فلحق بقومه.
قال ابن إسحاق: وقد كان رسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلى

سبيل زينب، يعنى أن تهاجر إلى المدينة، فوفى أبو العاص بذلك كما سيأتي.
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق ها هنا فأخرناه لانه أنسب.
والله أعلم.
وقد تقدم ذكر افتداء العباس بن عبدالمطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وعقيلا ونوفلا ابني أخويه بمائة أوقية من الذهب.
وقال ابن هشام: كان الذى أسر أبا العاص أبو أيوب خالد بن زيد.
قال ابن إسحاق: وصيفى بن أبى رفاعة بن عائذ بن عبدالله بن عمر بن مخزوم،
ترك في أيدى أصحابه، فأخذوا عليه ليبعثن لهم بفدائه فخلوا سبيله ولم يف لهم.
قال حسان بن ثابت في ذلك ما كان صيفي ليوفى أمانة * قفا ثعلب أعيا ببعض الموارد قال ابن إسحاق: وأبو عزة عمرو بن عبدالله بن عثمان بن أهيب بن حذافة بن جمح كان محتاجا ذا بنات، قال: يا رسول الله لقد عرفت مالى من مال، وإنى لذو حاجة وذو عيال فامنن على، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدا، فقال أبو عزة يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك: من مبلغ عن الرسول محمدا * بأنك حق والمليك حميد وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى * عليك من الله العظيم شهيد وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة * لها درجات سهلة وصعود فإنك من حاربته لمحارب * شقى ومن سالمته لسعيد ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله * تأوب ما بى حسرة وقعود قلت: ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد الرسول عليه، ولعب المشركون بعقله، فرجع إليهم، فلما كان يوم أحد أسر أيضا، فسأل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا أدعك تمسح عارضيك وتقول: خدعت محمدا مرتين ! " ثم أمر به فضربت.
عنقه كما سيأتي في غزوة أحد.

ويقال: إن فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " وهذا من الامثال التى لم تسمع إلا منه عليه السلام.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحى مع صفوان بن أمية في الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير،
وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويلقون منه عناء وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر.
قال ابن هشام: والذى أسره رفاعة بن رافع أحد بنى زريق.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر، عن عروة فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله ما إن في العيش [ بعدهم ] خير.
قال له عمير: صدقت، أما والله لو لا دين على ليس عندي قضاؤه وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى فيهم علة، ابني أسير في ايديهم.
قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعنى شئ ويعجز عنهم.
فقال له عمير: فاكتم على شأني وشأنك.
قال: سأفعل.
قال: ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ على باب المسجد متوشحا السيف.
فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذى حرش بيننا وحزرنا (1) للقوم يوم بدر.
__________
(1) حرزنا: قدرنا.
(*)

ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه.
قال: فأدخله على.
قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها وقال لمن كان معه من الانصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث فإنه غير مأمون.
ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: " أرسله يا عمر، ادن يا عمير " فدنا ثم قال: أنعم صباحا.
وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم.
فقال رسول الله: " قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة " قال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد.
قال: " فما جاء بك يا عمير ؟ " قال: جئت لهذا الاسير الذى في أيديكم فأحسنوا فيه.
قال: " فما بال السيف في عنقك ؟ " قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا !.
قال: " اصدقني ما الذى جئت له ؟ " قال: ما جئت إلا لذلك.
قال: " بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لو لا دين على وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك " فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إنى لاعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هداني للاسلام وساقني هذا المساق.
ثم شهد شهادة الحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن وأطلقوا أسيره " ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الاذى لمن كان

على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لى فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الاسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذى أصحابك في دينهم.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة.
وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر.
وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا.
قال ابن إسحاق: فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الاسلام ويؤذى من خالفه أذى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير.
قال ابن إسحاق: وعمير بن وهب، أو الحارث بن هشام، هو الذى رأى عدو الله إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر وفر هاربا وقال: إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون، وكان إبليس يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم أمير مدلج.
فصل ثم إن الامام محمد بن إسحاق رحمه الله تكلم على ما نزل من القرآن في قصة بدر، وهو من أول سورة الانفال إلى آخرها، فأجاد وأفاد، وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير فمن أراد الاطلاع على ذلك فلينظره ثم، ولله الحمد والمنة.
فصل ثم شرع ابن إسحاق في تسمية من شهد بدرا من المسلمين، فسرد أسماء من شهدها من المهاجرين أولا، ثم أسماء من شهدها من الانصار أوسها وخزرجها إلى أن قال: فجميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين والانصار، من شهدها ومن ضرب له بسهمه وأجره، ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا.

من المهاجرين ثلاثة وثمانون.
ومن الاوس: أحد وستون رجلا.
ومن الخزرج: مائة وسبعون رجلا.
وقد سردهم البخاري في صحيحه (1) مرتبين على حروف المعجم بعد البداءة برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بأبى بكر وعثمان وعلى رضى الله عنهم.
وهذه تسمية من شهد بدرا من المسلمين مرتبين على حروف المعجم وذلك من كتاب الاحكام الكبير للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي وغيره، بعد البداءة باسم رئيسهم وفخرهم وسيد ولد آدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ذكر البخاري منهم أربعة وثلاثين غير رسول الله.
(*)

أسماء أهل بدر مرتبة على حروف المعجم حرف الالف أبى بن كعب النجارى سيد القراء، الارقم بن أبى الارقم، وأبو الارقم عبد مناف ابن أسد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم المخزومى، أسعد بن يزيد بن الفاكه بن يزيد بن خلدة بن عامر بن العجلان.
أسود بن زيد بن ثعلبة بن عبيد بن غنم، كذا قال موسى بن عقبة.
وقال موى: سواد بن رزام بن ثعلبة بن عبيد بن عدى شك فيه، وقال سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق: سواد بن زريق بن ثعلبة، وقال ابن عائذ: سواد بن زيد.
أسير بن عمرو الانصاري أبو سليط، وقيل أسير بن عمرو بن أمية بن لوذان بن سالم بن ثابت الخزرجي، ولم يذكره موسى بن عقبة أنس بن قتادة بن ربيعة بن خالد بن الحارث الاوسي، كذا سماه موسى بن عقبة، و [ سماه ] الاموى في السيرة: أنيس.
قلت: وأنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، لما روى عمر بن شبة النميري حدثنا محمد بن عبدالله الانصاري، عن أبيه، عن ثمامة بن أنس، قال: قيل لانس بن مالك أشهدت بدرا ؟ قال: وأين أغيب عن بدر لا أم لك !
وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عبدالله الانصاري، حدثنا أبى، عن مولى لانس ابن مالك، أنه قال لانس: شهدت بدرا ؟ قال: لا أم لك ! وأين أغيب عن بدر.
قال محمد بن عبدالله الانصاري: خرج أنس بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهو غلام يخدمه.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزى في تهذيبه: هكذا قال الانصاري، ولم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازى.
أنس بن معاذ بن أنس بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أنسة الحبشى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوس بن نابت بن المنذر النجارى.
أوس بن خولى بن عبدالله بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج الخزرجي.
وقال موسى بن عقبة: أوس بن عبدالله بن الحارث بن خولى، أوس بن الصامت الخزرجي أخو عبادة بن الصامت، إياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر حليف بنى عدى بن كعب.
حرف الباء بجير بن أبى بجير حليف بنى النجار، بحاث (1) بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة البلوى حليف الانصار، بسبس بن عمرو بن ثعلبة بن خرشة بن زيد ابن عمرو بن سعيد بن ذبيان بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهنى حليف بنى ساعدة، وهو أحد العينين هو وعدى بن أبى الزغباء كما تقدم، بشر بن البراء بن معرور الخزرجي الذى مات بخيبر من الشاة المسمومة، بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي والد النعمان بن بشير، ويقال إنه أول من بايع الصديق، بشير بن عبد المنذر أبو لبابة الاوسي، رده عليه السلام من الروحاء واستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره.
حرف التاء تميم بن يعار بن قيس بن عدى بن أمية بن جدارة بن عوف بن الحارث بن
__________
(1) ويقال له: نحاب وهى رواية ابن إسحاق.
وما هنا قول ابن هشام.
(*)

الخزرج، تميم مولى خراش بن الصمة، تميم مولى بنى غنم بن السلم.
وقال ابن هشام: هو مولى سعد بن خيثمة.
حرف الثاء ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدى بن العجلان، ثابت بن ثعلبة، ويقال لثعلبة هذا: الجذع بن زيد بن الحارث بن حرام بن غنم بن كعب بن سلمة.
ثابت بن خالد بن النعمان بن خنساء بن عسيرة بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك ابن النجار النجارى، ثابت بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدى بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار النجارى.
ثابت بن عمرو بن زيد بن عدى بن سواد بن مالك بن غنم بن عدى بن النجار النجارى، ثابت بن هزال الخزرجي، ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن الاوس، ثعلبة بن عمرو بن عبيد بن مالك النجارى، ثعلبة بن عمرو بن محصن الخزرجي، ثعلبة بن عنمة (1) بن عدى بن نابى السلمى، ثقف بن عمرو من بنى حجر آل بنى سليم، وهو من حلفاء بنى كثير بن غنم بن دودان بن أسد.
حرف الجيم جابر بن خالد بن [ مسعود بن ] عبد الاشهل بن حارثة بن دينار بن النجار النجارى، جابر بن عبدالله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدى بن غنم بن كعب بن سلمة السلمى أحد الذين شهدوا العقبة.
قلت: فأما جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام السلمى أيضا، فذكره البخاري
فيهم في مسند عن سعيد بن منصور عن أبى معاوية عن الاعمش، عن أبى سفيان عن جابر، قال: كنت أمتح لاصحابي الماء يوم بدر.
__________
(1) ويقال: ابن غنمة كما في الاستيعاب.
(*)

وهذا الاسناد على شرط مسلم، لكن قال محمد بن سعد: ذكرت لمحمد بن عمر يعنى الواقدي، هذا الحديث فقال: هذا وهم من أهل العراق.
وأنكر أن يكون جابر شهد بدرا.
وقال الامام أحمد بن حنبل: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ولم أشهد بدرا ولا أحدا، منعنى أبى، فلما قتل أبى يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزاة.
ورواه مسلم عن أبى خيثمة عن روح.
جبار بن صخر السلمى، جبر بن عتيك الانصاري، جبير بن إياس الخزرجي.
حرف الحاء الحارث بن أنس بن رافع الخزرجي، الحارث بن أوس بن معاذ بن أخى سعد بن معاذ الاوسي، الحارث بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن الاوس، رده عليه السلام من الطريق وضرب له بسهمه وأجره، الحارث بن خزمة بن عدى بن أبى غنم ابن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج حليف لبنى زعورا بن عبد الاشهل، الحارث بن الصمة الخزرجي، رده عليه السلام لانه كسر من الطريق، وضرب له بسهمه وأجره، الحارث بن عرفجة الاوسي، الحارث بن قيس بن خلدة أبو خالد الخزرجي، الحارث ابن النعمان بن أمية الانصاري، حارثة بن سراقة النجارى أصابه سهم غرب وهو في النظارة فرفع إلى الفردوس، حارثة بن النعمان بن رافع الانصاري حاطب بن ابى بلتعة
اللخمى حليف بنى أسد بن عبدالعزى بن قصى.
حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية الاشجعى من بنى دهمان.
هكذا ذكره ابن هشام عن غير ابن إسحاق.
وقال الواقدي: حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود،

كذا ذكره ابن عائذ في مغازيه.
وقال ابن أبى حاتم: حاطب بن عمرو بن عبد شمس، سمعته من أبى وقال: هو رجل مجهول.
الحباب بن المنذر الخزرجي، ويقال كان لواء الخزرج معه يومئذ.
حبيب بن أسود مولى بنى حرام من بنى سلمة، وقال موسى بن عقبة: حبيب ابن سعد بدل أسود، وقال ابن أبى حاتم: حبيب بن أسلم مولى آل جشم بن الخزرج، أنصارى بدرى.
حريث بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الانصاري، أخو عبدالله بن زيد الذى أرى النداء، الحصين بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حرف الخاء خالد بن البكير أخو إياس المتقدم.
خالد بن زيد أبو أيوب النجارى، خالد بن قيس بن مالك بن العجلان الانصاري، خارجة بن الحمير حليف بنى خنساء من الخزرج، وقيل اسمه حارثة بن الحمير وسماه ابن عائذ خارجة.
فالله أعلم.
خارجة بن زيد الخزرجي صهر الصديق، خباب بن الارت حليف بنى زهرة، وهو من المهاجرين الاولين وأصله من بنى تميم ويقال من خزاعة، خباب مولى عتبة بن غزوان من المهاجرين الاولين، خراش بن الصمة السلمى، خبيب بن إساف بن عنبة الخزرجي، خريم بن فاتك ذكره البخاري فيهم، خليفة بن عدى الخزرجي، خليد بن قيس بن النعمان بن سنان بن عبيد الانصاري السلمى، خنيس بن حذافة بن قيس بن عدى بن
سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى السهمى، قتل يومئذ فتأيمت منه حفصة بنت عمر بن الخطاب، خوات بن جبير الانصاري ضرب له بسهمه وأجره لم يشهدها بنفسه، خولى بن أبى خولى العجلى حليف بنى عدى من المهاجرين الاولين،

خلاد بن رافع، وخلاد بن سويد، وخلاد بن عمرو بن الجموح الخزرجيون.
حرف الذال ذكوان بن عبد قيس الخزرجي، ذو الشمالين بن عبد بن عمرو بن نضلة من غبشان ابن سليم بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من بنى خزاعة حليف لبنى زهرة قتل يومئذ شهيدا.
قال ابن هشام: واسمه عمير وإنما قيل له ذو الشمالين لانه كان أعسر.
حرف الراء رافع بن الحارث الاوسي، رافع بن عنجدة.
قال ابن هشام: هي أمه، رافع بن المعلى بن لوذان الخزرجي قتل يومئذ، ربعى بن رافع بن الحارث بن زيد بن حارثة بن الجد بن عجلان بن ضبيعة وقال موسى بن عقبة: ربعى بن أبى رافع، ربيع بن إياس الخزرجي، ربيعة بن أكثم بن سخبرة بن عمرو بن لكيز بن عامر بن غنم دودان ابن أسد بن خزيمة حليف لبنى عبد شمس بنى عبد مناف وهو من المهاجرين الاولين، رخيلة بن ثعلبة بن خالد بن ثعلبة بن عامر بن بياضة الخزرجي، رفاعة بن رافع الزرقى أخو خلاد بن رافع، رفاعة بن عبد المنذر بن زنير الاوسي أخو أبى لبابة، رفاعة بن عمرو بن زيد الخزرجي.
حرف الزاى الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصى، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه.
زياد بن عمرو.
وقال موسى بن عقبة: زياد بن الاخرس بن عمرو الجهنى.
وقال الواقدي: زياد بن كعب بن عمرو بن عدى بن رفاعة بن كليب بن برذعة بن

عدى بن عمرو بن الزبعرى بن رشدان بن قيس بن جهينة.
زياد بن لبيد الزرقى، زياد بن المزين بن قيس الخزرجي، زيد بن أسلم بن ثعلبة ابن عدى بن عجلان بن ضبيعة، زيد بن حارثة بن شرحبيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى الله عنه، زيد بن الخطاب بن نفيل أخو عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، زيد بن سهل بن الاسود بن حرام النجارى أبو طلحة رضى الله عنه.
حرف السين سالم بن عمير الاوسي، سالم بن [ غنم بن ] عوف الخزرجي، سالم بن معقل مولى أبى حذيفة، السائب بن عثمان بن مظعون الجمحى، شهد مع أبيه، سبيع بن قيس بن عيشة الخزرجي، سبرة بن فاتك ذكره البخاري، سراقة بن عمرو النجارى، سراقة بن كعب النجارى أيضا، سعد بن خولة مولى بنى عامر بن لؤى من المهاجرين الاولين، سعد بن خيثمة الاوسي قتل يومئذ شهيدا، سعد بن الربيع الخزرجي الذى قتل يوم أحد شهيدا، سعد بن زيد بن مالك الاوسي، وقال الواقدي: سعد بن زيد بن الفاكه الخزرجي، سعد بن سهيل بن عبد الاشهل النجارى، سعد بن عبيد الانصاري، سعد بن عثمان بن خلدة الخزرجي أبو عبادة، وقال ابن عائذ: أبو عبيدة.
سعد بن معاذ الاوسي وكان لواء الاوس معه.
سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي، ذكره غير واحد منهم عروة والبخاري وابن أبى حاتم والطبراني فيمن شهد بدرا، ووقع في صحيح مسلم ما يشهد بذلك حين شاور النبي صلى الله عليه وسلم في ملتقى النفير من قريش، فقال سعد بن عبادة: كأنك تريدنا يا رسول الله الحديث.
والصحيح أن ذلك سعد بن معاذ.
والمشهور أن أسعد بن عبادة رده من الطريق، قيل: لاستنابته على المدينة وقيل لذعته حية فلم يتمكن من الخروج إلى بدر.

حكاه السهيلي عن بن قتيبة فالله أعلم.
سعد بن أبى وقاص.
مالك بن أهيب الزهري أحد العشرة، سعد بن مالك أبو سهل، قال الواقدي: تجهز ليخرج فمرض فمات قبل الخروج سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوى ابن عم عمر بن الخطاب، يقال: قدم من الشام بعد مرجعه من بدر فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
سفيان بن بشر بن عمرو الخزرجي، سلمة بن أسلم بن حريش الاوسي، سلمة بن ثابت بن وقش بن زغبة، سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة، سليم بن الحارث النجارى، سليم بن عمرو السلمى، سليم بن قيس بن فهد الخزرجي، سليم بن ملحان أخو حرام بن ملحان النجارى، سماك بن أوس بن خرشة أبو دجانة، ويقال سماك بن خرشة، سماك بن سعد بن ثعلبة الخزرجي وهو أخو بشير بن سعد المتقدم.
سهل بن حنيف الاوسي، سهل بن عتيك النجارى، سهل بن قيس السلمى، سهيل بن رافع النجارى الذى كان له ولاخيه موضع المسجد النبوى كما تقدم، سهيل بن وهب الفهرى، وهو ابن بيضاء وهى أمه، سنان بن أبى سنان بن محصن بن حرثان من المهاجرين حليف بنى عبد شمس بن عبد مناف، سنان بن صيفي السلمى، سواد بن زريق بن زيد الانصاري.
وقال الاموى: سواد بن رزام.
سواد بن غزية بن أهيب البلوى، سويبط بن سعد بن حرملة العبدرى، سويد بن مخشى أبو مخشى الطائى حليف بنى عبد شمس، وقيل اسمه أزيد بن حمير.
حرف الشين شجاع بن وهب بن ربيعة الاسدي، أسد بن خزيمة حليف بنى عبد شمس من
المهاجرين الاولين.
شماس بن عثمان المخزومى.
قال ابن هشام: واسمه عثمان بن عثمان وإنما (32 - السيرة 2)

سمى شماسا لحسنه وشبهه شماسا كان في الجاهلية، شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: لم يسهم له وكان على الاسرى فأعطاه كل رجل ممن له في الاسرى شيئا، فحصل له أكثر من سهم.
حرف الصاد صهيب بن سنان الرومي من المهاجرين الاولين، صفوان بن وهب بن ربيعة الفهرى أخو سهيل بن بيضاء، قتل شهيدا يومئذ، صخر بن أمية بن خنساء السلمى.
حرف الضاد ضحاك بن حارثة بن زيد السلمى، ضحاك بن عبد عمرو النجارى، ضمرة بن عمرو الجهنى.
وقال موسى بن عقبة: ضمرة بن كعب بن عمرو حليف الانصار، وهو أخو زياد بن عمرو.
حرف الطاء طلحة بن عبيد الله التيمى أحد العشرة قدم من الشام بعد مرجعهم من بدر، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، طفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف من المهاجرين، وهو أخو حصيب وعبيدة، طفيل بن مالك بن خنساء السلمى طفيل بن النعمان بن خنساء السلمى ابن عم الذى قبله، طليب بن عمير بن وهب بن أبى كبير بن عبد بن قصى.
ذكره الواقدي.
حرف الظاء ظهير بن رافع الاوسي ذكره البخاري.

حرف العين عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح الانصاري، الذى حمته الدبر (1) حين قتل بالرجيع عاصم بن عدى بن الجد بن عجلان، رده عليه السلام من الروحاء وضرب له بسهمه وأجره، عاصم بن قيس بن ثابت الخزرجي، عاقل بن البكير أخو إياس وخالد وعامر، وعامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس النجارى، عامر بن الحارث الفهرى كذا ذكره سلمة عن ابن اسحاق وابن عائذ.
وقال موسى بن عقبة وزياد عن ابن إسحاق: عمرو بن الحارث، عامر بن ربيعة بن مالك العنزي حليف بنى عدى من المهاجرين، عامر بن سلمة بن عامر ابن عبدالله البلوى القضاعى حليف بنى سالم بن مالك بن سالم بن غنم.
قال ابن هشام: ويقال عمر بن سلمة، عامر بن عبدالله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة من المهاجرين الاولين، عامر بن فهيرة مولى أبى بكر، عامر بن مخلد النجارى، عائذ بن ماعض بن قيس الخزرجي، عباد بن بشر بن وقش الاوسي، عباد بن قيس بن عامر الخزرجي، عباد بن قيس بن عيشة الخزرجي أخو سبيع المتقدم، عباد بن الخشخاش القضاعى، عبادة بن الصامت الخزرجي، عبادة بن قيس بن كعب بن قيس، عبدالله بن أمية بن عرفطة، عبدالله بن ثعلبة بن خزمة أخو بحاث المتقدم، عبدالله بن جحش بن رئاب الاسدي، عبدالله بن جبير ابن النعمان الاوسي.
عبدالله بن الجد بن قيس السلمى، عبدالله بن حق بن أوس الساعدي.
وقال موسى بن عقبة والواقدى وابن عائذ: عبد رب بن حق، وقال ابن هشام: عبد ربه بن حق.
__________
(1) الدبر: النحل.
(*)

عبدالله بن الحمير حليف لبنى حرام، وهو أخو خارجة بن الحمير من أشجع، عبدالله
ابن الربيع بن قيس الخزرجي، عبدالله بن رواحة الخزرجي عبدالله بن زيد بن عبد ربه ابن ثعلبة الخزرجي، الذى أرى النداء.
عبدالله بن سراقة العدوى لم يذكره موسى بن عقبة ولا الواقدي ولا ابن عائذ، وذكره ابن إسحاق وغيره.
عبدالله بن سلمة بن مالك العجلان حليف الانصار، عبدالله بن سهل بن رافع أخو بنى زعورا، عبدالله بن سهيل بن عمرو خرج مع أبيه والمشركين ثم فر من المشركين إلى المسلمين فشهدها معهم، عبدالله بن طارق بن مالك القضاعى حليف الاوس، عبدالله بن عامر من بلى، ذكره ابن إسحاق.
عبدالله بن عبدالله بن أبى بن سلول الخزرجي وكان أبوه رأس المنافقين، عبدالله ابن عبد الاسد بن هلال بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم أبو سلمة زوج أم سلمة، قتل يومئذ، عبدالله بن عبد مناف بن النعمان السلمى، عبدالله بن عبس، عبدالله بن عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن تيم بن مرة بن كعب أبو بكر الصديق رضى الله عنه، عبدالله بن عرفطة بن عدى الخزرجي.
عبدالله بن عمر بن حرام السلمى أبو جابر، عبدالله بن عمير بن عدى الخزرجي، عبدالله بن قيس بن خالد النجارى، عبدالله بن قيس بن صخر بن حرام السلمى.
عبدالله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، جعله النبي صلى الله عليه وسلم مع عدى بن أبى الزغباء على النفل يوم بدر.
عبدالله بن مخرمة بن عبدالعزى من المهاجرين الاولين، عبدالله بن مسعود الهذلى حليف بنى زهرة من المهاجرين الاولين، عبدالله بن مظعون الجمحى من المهاجرين الاولين، عبدالله بن النعمان بن بلدمة السلمى، عبدالله بن أنيسة بن النعمان السلمى،

عبد الرحمن بن جبر بن عمرو أبو عبيس الخزرجي، عبدالرحمن بن عبدالله بن
ثعلبة أبو عقيل القضاعى البلوى.
عبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب الزهري أحد العشرة رضى الله عنهم، عبس بن عامر بن عدى السلمى، عبيد بن التيهان أخو أبو الهيثم بن التيهان، ويقال عتيك بدل عبيد.
عبيد بن ثعلبة من بنى غنم بن مالك، عبيد بن زيد بن عامر بن عمرو بن العجلان بن عامر، عبيد بن أبى عبيد.
عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف أخو الحصين والطفيل، وكان أحد الثلاثة الذين بارزوا يوم بدر فقطعت يده ثم مات بعد المعركة، رضى الله عنه.
عتبان بن مالك بن عمرو الخزرجي، عتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية البهرانى حليف بنى أمية بن لوذان، عتبة بن عبدالله بن صخر السلمى، عتبة بن غزوان بن جابر من المهاجرين الاولين.
عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الاموى أمير المؤمنين أحد الخلفاء الاربعة وأحد العشرة، تخلف على زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرضها حتى ماتت فضرب له بسهمه وأجره.
عثمان بن مظعون الجمحى أبو السائب، أخو عبدالله وقدامة من المهاجرين الاولين عدى بن أبى الزغباء الجهنى، وهو الذى أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسبس بن عمرو بين يديه عينا.
عصمة بن الحصين بن وبرة بن خالد بن العجلان، عصيمة حليف لبنى الحارث بن سوار من أشجع، وقيل من بنى أسد بن خزيمة، عطية بن نويرة بن عامر بن عطية الخزرجي، عقبة بن عامر بن نابى السلمى، عقبة بن عثمان بن خلدة الخزرجي أخو سعد بن عثمان.

عقبة بن عمرو أبو مسعود البدرى، وقع في صحيح البخاري أنه شهد بدرا وفيه نظر
عند كثير من أصحاب المغازى، ولهذا لم يذكروه.
عقبة بن وهب بن ربيعة الاسدي، أسد خزيمة، حليف لبنى عبد شمس وهو أخو شجاع بن وهب من المهاجرين الاولين، عقبة بن وهب بن كلدة حليف بنى غطفان.
عكاشة بن محصن الغنمى من المهاجرين الاولين، وممن لا حساب عليه.
على بن أبى طالب الهاشمي أمير المؤمنين، أحد الخلفاء الاربعة، وأحد الثلاثة الذين بارزوا يومئذ رضى الله عنه.
عمار بن ياسر العنسى المذحجي من المهاجرين الاولين، عمارة بن حزم بن زيد النجارى.
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أحد الخلفاء الاربعة وأحد الشيخين المقتدى بهما رضى الله عنهما.
عمر بن عمرو بن إياس من أهل اليمن حليف لبنى لوذان بن عمرو بن سالم، وقيل هو أخو ربيع وورقة، عمرو بن ثعلبة بن وهب بن عدى بن مالك بن عدى بن عامر أبو حكيم.
عمرو بن الحارث بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبشة بن الحارث بن فهر الفهرى، عمرو بن سراقة العدوى من المهاجرين، عمرو بن أبى سرح الفهرى من المهاجرين.
وقال الواقدي وابن عائذ: معمر بدل عمرو.
عمرو بن طلق بن زيد بن أمية بن سنان بن كعب بن غنم، وهو في بنى حرام، عمرو ابن الجموح بن حرام الانصاري، عمرو بن قيس بن زيد بن سواد بن مالك بن غنم.
ذكره الواقدي والاموى.
عمرو بن قيس بن مالك بن عدى بن خنساء بن عمرو بن مالك بن عدى بن عامر أبو خارجة، ولم يذكره موسى بن عقبة.

عمرو بن عامر بن الحارث الفهرى ذكره موسى بن عقبة، عمرو بن معبد بن
الازعر الاوسي، عمرو بن معاذ الاوسي أخو سعد بن معاذ، عمير بن الحارث بن ثعلبة ويقال عمرو بن الحارث بن لبدة بن ثعلبة السلمى، عمير بن حرام بن الجموح السلمى، ذكره ابن عائذ والواقدى.
عمير بن الحمام بن الجموح ابن عم الذى قبله، قتل يومئذ شهيدا، عمير بن عامر بن مالك ابن الخنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن أبو داود المازنى.
عمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو، وسماه الاموى وغيره: عمرو بن عوف.
وكذا وقع في الصحيحين في حديث بعث أبى عبيدة إلى البحرين.
عمير بن مالك بن أهيب الزهري أخو سعد بن أبى وقاص قتل يومئذ شهيدا، عنترة مولى بنى سليم وقيل إنه منهم، فالله أعلم.
عوف بن الحارث بن رفاعة بن الحارث النجارى وهو ابن عفراء بنت عبيد بن ثعلبة النجارية قتل يومئذ شهيدا، عويم بن ساعدة الانصاري من بنى أمية بن زيد، عياض بن غنم الفهرى من المهاجرين الاولين.
رضى الله عنهم أجمعين.
حرف الغين غنام بن أوس الخزرجي.
ذكره الواقدي وليس بمجمع عليه.
حرف الفاء الفاكه بن بشر بن الفاكه الخزرجي، فروة بن عمرو بن ودفة (1) الخزرجي.
حرف القاف قتادة بن النعمان الاوسي.
قدامة بن مظعون الجمحى من المهاجرين أخو عثمان وعبد الله
__________
(1) في الاشتقاق 461: ابن وذقة.
قال: والوذقة زعموا الروضة.
(*)

قطبة بن عامر بن حديدة السلمى.
قيس بن السكن النجارى، قيس بن أبى صعصعة عمرو بن زيد المازنى كان على الساقة يوم بدر.
قيس بن محصن بن خالد الخزرجي، قيس ابن مخلد بن ثعلبة النجارى.
حرف الكاف كعب بن حمان (1) ويقال جمار ويقال جماز.
وقال ابن هشام: كعب بن غبشان (2) ويقال: كعب بن مالك بن ثعلبة بن جماز.
وقال الاموى: كعب بن ثعلبة بن حبالة بن غنم الغساني من حلفاء بنى الخزرج بن ساعدة.
كعب بن زيد بن قيس النجارى، كعب بن عمرو أبو اليسر السلمى، كلفة بن ثعلبة أحد البكائين ذكره موسى بن عقبة، كناز بن حصين بن يربوع أبو مرثد الغنوى، من المهاجرين الاولين.
حرف الميم مالك بن الدخشم ويقال ابن الدخشن الخزرجي، مالك بن أبى خولى الجعفي حليف بنى عدى، مالك بن ربيعة أبو أسيد الساعدي، مالك بن قدامة الاوسي، مالك بن عمرو أخو ثقف بن عمرو وكلاهما مهاجري، وهما من حلفاء بنى تميم بن دودان بن أسد، مالك بن قدامة الاوسي، مالك بن مسعود الخزرجي، مالك بن ثابت بن نميلة المزني حليف لبنى عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر بن زنبر الاوسي أخو أبى لبابة ورفاعة، قتل يومئذ شهيدا، المجذر بن ذياد (3) البلوى مهاجري، محرز بن عامر النجارى، محرز ابن نضلة الاسدي حليف بنى عبد شمس مهاجري، محمد بن مسلمة حليف بنى عبد
__________
(1) ابن هشام: ابن حمار.
(2) ابن هشام: ويقال: كعب بن جماز وهو من غبشان.
(3) الاصل زياد.
وهو تحريف وما أثبته عن الاشتقاق لابن دريد 550.
(*)

الاشهل، مدلج ويقال مدلاج بن عمرو أخو ثقف بن عمرو مهاجري، مرثد بن أبى مرثد الغنوى، مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف من المهاجرين الاولين، وقيل اسمه عوف، مسعود بن أوس الانصاري النجارى، مسعود بن خلدة الخزرجي، مسعود بن ربيعة القارى حليف بنى زهرة مهاجري، مسعود بن سعد ويقال
ابن عبد سعد بن عامر بن عدى بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث، مسعود بن سعد بن قيس الخزرجي، مصعب بن عمير العبدرى مهاجري كان معه اللواء يومئذ، معاذ بن جبل الخزرجي، معاذ بن الحارث النجارى وهذا هو ابن عفراء أخو عوف ومعوذ، معاذ بن عمرو بن الجموح الخزرجي، معاذ بن ماعض الخزرجي أخو عائذ.
معبد بن عباد بن قشير بن القذم (1) بن سالم بن غنم، ويقال معبد بن عبادة بن قيس وقال الواقدي: قشعر بدل قشير.
وقال ابن هشام: قشعر أبو خميصة.
معبد بن قيس بن صخر السلمى أخو عبدالله بن قيس، معتب بن عبيد بن إياس البلوى القضاعى، معتب بن عوف الخزاعى، حليف بنى مخزوم من المهاجرين، معتب بن قشير الاوسي، معقل بن المنذر السلمى، معمر بن الحارث الجمحى من المهاجرين، معن ابن عدى الاوسي، معوذ بن الحارث الجمحى وهو ابن عفراء، أخو معاذ بن عوف، معوذ ابن عمرو بن الجموح السلمى لعله أخو معاذ بن عمرو، المقداد بن عمرو البهرانى، وهو المقداد ابن الاسود من المهاجرين الاولين وهو ذو المقال المحمود، ابن المتقدم ذكره وكان أحد الفرسان يومئذ، مليل بن وبرة الخزرجي، المنذر بن عمرو بن خنيس الساعدي، المنذر بن قدامة بن عرفجة الحزرجى، المنذر بن محمد بن عقبة الانصاري من بنى جحجبى مهجع مولى عمر بن الخطاب أصله من اليمن وكان أول قتيل من المسلمين يومئذ.
__________
(1) الاصل: الفدم.
وما أثبته من الاشتقاق 459.
والقذم: السيد المعطاء.
(*)

حرف النون نصر بن الحارث بن عبد رزاح بن ظفر بن كعب، نعمان بن عبد عمرو النجارى، وهو أخو الضحاك.
نعمان بن عمرو بن رفاعة النجارى، نعمان بن عصر بن الحارث حليف لبنى الاوس، نعمان بن مالك بن ثعلبة الخزرجي، ويقال له قوقل، نعمان بن يسار مولى لبنى عبيد، ويقال نعمان بن سنان.
نوفل بن عبيد الله بن نضلة الخزرجي.
حرف الهاء هانئ بن نيار أبو بردة البلوى، خال البراء بن عازب.
هلال بن أمية الواقفى، وقع ذكره في أهل بدر في الصحيحين في قصة كعب بن مالك، ولم يذكره أحد من أصحاب المغازى.
هلال بن المعلى الخزرجي، أخو رافع بن المعلى.
حرف الواو واقد بن عبدالله التميمي، حليف بنى عدى من المهاجرين، وديعة بن عمرو بن جراد الجهنى، ذكره الواقدي وابن عائذ، ورقة بن إياس بن عمرو الخزرجي أخو ربيع بن إياس، وهب بن سعد بن أبى سرح، ذكره موسى بن عقبة وابن عائذ والواقدى في بنى عامر بن لؤى ولم يذكره ابن اسحاق.
حرف الياء يزيد بن الاخنس بن جناب بن حبيب بن جرة السلمى.
قال السهيلي: شهد هو وأبوه وابنه يعنى بدرا، ولا يعرف لهم نظير في الصحابة، ولم يذكرهم ابن إسحاق والاكثرون، لكن شهدوا معه بيعة الرضوان.

يزيد بن الحارث بن قيس الخزرجي، وهو الذى يقال له ابن فسحم (1) وهى أمه، قتل يومئذ شهيدا ببدر، يزيد بن عامر بن حديدة أبو المنذر السلمى، يزيد بن المنذر بن سرح السلمى وهو أخو معقل بن المنذر.
باب الكنى أبو أسيد مالك بن ربيعة تقدم، أبو الأعور بن الحارث بن ظالم النجارى، وقال ابن هشام: أبو الأعور الحارث بن ظالم.
وقال الواقدي: أبو الأعور كعب بن الحارث ابن جندب بن ظالم، أبو بكر الصديق عبدالله بن عثمان، تقدم، أبو حبة بن عمرو بن
ثابت، أحد بنى ثعلبة بن عمرو بن عوف الانصاري.
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة من المهاجرين وقيل اسمه مهشم، أبو الحمراء مولى الحارث بن رفاعة بن عفراء، أبو خزيمة ابن أوس بن أصرم النجارى، أبو سبرة مولى أبى رهم بن عبدالعزى من الهاجرين، أبو سنان بن محصن بن حرثان، أخو عكاشة ومعه ابنه سنان من المهاجرين.
أبو الصياح بن النعمان وقيل: عمير بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس ابن ثعلبة، رجع من الطريق وقتل يوم خيبر، رجع لجرح أصابه من حجر فضرب له بسهمه، أبوعرفجة من حلفاء بنى جحجبى، أبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو لبابة بشير بن عبد المنذر، تقدم، أبو مرثد الغنوى كناز بن حصين تقدم، أبو مسعود البدرى عقبة بن عمرو تقدم، أبو مليل بن الازعر بن زيد الاوسي.
فصل فكان جملة من شهد بدرا من المسلمين ثلثمائة وأربعة عشر رجلا، منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الاصل: قسحم.
وصوابه عن القاموس.
وفسحم أمه.
(*)

كما قال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، سمعت البراء بن عازب يقول: حدثنى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم ممن شهد بدرا، أنهم كانو عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، بضعة عشر وثلاثمائة.
قال البراء: لا والله ما جاوز معه النهر إلا مؤمن.
ثم رواه البخاري من طريق إسرائيل وسفيان الثوري، عن أبى إسحاق عن البراء نحوه.
قال ابن جرير: وهذا قول عامة السلف أنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا.
وقال أيضا: حدثنا محمود، حدثنا وهب، عن شعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء،
قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والانصار نيفا وأربعين ومائتين.
هكذا وقع في هذه الرواية.
وقال ابن جرير: حدثنى محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا أبو مالك الجبنى، عن الحجاج، وهو ابن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: كان المهاجرون يوم بدر سبعين رجلا، وكان الانصار مائتين وستة وثلاثين رجلا، وكان حامل راية النبي صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، وحامل راية الانصار سعد بن عبادة.
وهذا يقتضى أنهم كانوا ثلثمائة وستة رجال.
قال ابن جرير: وقيل: كانوا ثلثمائة وسبعة رجال.
قلت: وقد يكون هذا عد معهم النبي صلى الله عليه وسلم والاول عدهم بدونه فالله أعلم.
وقد تقدم عن ابن إسحاق أن المهاجرين كانوا ثلاثة وثمانين رجلا، وأن الاوس أحد وستون رجلا.
والخزرج مائة وسبعون رجلا وسردهم.

وهذا مخالف لما ذكره البخاري، ولما روى عن ابن عباس فالله أعلم.
وفى الصحيح، عن أنس أنه قيل له: شهدت بدرا ؟ فقال: وأين أغيب.
وفى سنن أبى داود عن سعيد بن منصور، عن أبى معاوية، عن الاعمش، عن أبى سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام أنه قال: كنت أمتح لاصحابي الماء يوم بدر.
وهذان لم يذكرهما البخاري ولا الضياء.
فالله أعلم.
* * * قلت: وفى الذين عدهم ابن إسحاق في أهل بدر من ضرب له بسهم في مغنمها وإنه
لم يحضرها، تخلف عنها لعذر أذن له في التخلف بسببها، وكانوا ثمانية أو تسعة وهم: عثمان بن عفان تخلف على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرضها حتى ماتت فضرب له بسهمه وأجره، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كان بالشام فضرب له بسهمه وأجره.
وطلحة بن عبيد الله كان بالشام أيضا فضرب له بسهمه وأجره.
وأبو لبابة بشير بن عبد المنذر رده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء حين بلغه خروج النفير من مكة، فاستعمله على المدينة وضرب له بسهمه وأجره.
والحارث بن حاطب بن عبيد بن أمية، رده رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا من الطريق وضرب له بسهمه وأجره.
والحارث بن الصمة، كسر بالروحاء فرجع فضرب له بسهمه زاد الواقدي: وأجره.
وخوات بن جبير لم يحضر الوقعة وضرب له بسهمه وأجره.
وأبو الصياح بن ثابت، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب ساقه فصيل حجر فرجع وضرب له بسهمه وأجره.
قال الواقدي: وسعد أبو مالك، تجهز ليخرج فمات وقيل: إنه مات بالروحاء فضرب له بسهمه وأجره.

وكان الذين استشهدوا من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا، من المهاجرين ستة وهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، قطعت رجله فمات بالصفراء رحمه الله، وعمير بن أبى وقاص، أخو سعد بن أبى وقاص الزهري قتله العاص بن سعيد وهو ابن ست عشرة سنة، ويقال إنه كان قد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع لصغره فبكى فأذن له في الذهاب فقتل رضى الله عنه، وحليفهم ذو الشمالين ابن عبد عمرو الخزاعى، وصفوان بن بيضاء، وعاقل بن البكير الليثى حليف بنى عدى، ومهجع مولى عمر بن الخطاب وكان
أول قتيل قتل من المسلمين يومئذ.
ومن الانصار ثمانية وهم: حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فمات، ومعوذ وعوف ابنا عفراء، ويريد بن الحارث، ويقال: ابن فسحم، وعمير بن الحمام، ورافع بن المعلى بن لوذان، وسعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر رضى الله عن جميعهم.
وكان مع المسلمين سبعون بعيرا كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وكان معهم فرسان على أحدهما المقداد بن الاسود واسمها بعزجة، ويقال سبحة، وعلى الاخرى الزبير بن العوام واسمها اليعسوب.
وكان معهم لواء يحمله مصعب بن عمير، ورايتان يحمل إحداهما للمهاجرين على ابن أبى طالب، والتى للانصار يحملها سعد بن عبادة.
وكان رأس مشورة للمهاجرين أبو بكر الصديق، ورأس مشورة الانصار سعد ابن معاذ.
* * * وأما جمع المشركين: فأحسن ما يقال فيهم: إنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الالف وقد نص عروة وقتادة أنهم كانوا تسعمائة وثلاثين رجلا.

وقال الواقدي: كانوا تسعمائة وثلاثين رجلا.
وهذا التحديد يحتاج إلى دليل، وقد تقدم في بعض الاحاديث أنهم كانوا أزيد من ألف، فلعله عدد أتباعهم معهم والله أعلم.
وقد تقدم الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء أنه قتل منهم سبعون وأسر سبعون.
وهذا قول الجمهور، ولهذا قال كعب بن مالك في قصيدة له:
فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والاسود وقد حكى الواقدي الاجماع على ذلك.
وفيما قاله نظر، فإن موسى بن عقبة وعروة ابن الزبير قالا خلاف ذلك، وهما من أئمة هذا الشأن، فلا يمكن حكاية الاتفاق بدون قولهما، وإن كان قولهما مرجوحا بالنسبة إلى الحديث الصحيح.
والله أعلم.
وقد سرد أسماء القتلى والاسارى ابن إسحاق وغيره، وحرر ذلك الحافظ الضياء في أحكامه جيدا.
وقد تقدم في غضون سياقات القصة ذكر أول من قتل منهم، وهو الاسود بن عبد الاسد المخزومى، وأول من فر وهو خالد بن الاعلم الخزاعى، أو العقيلى، حليف بنى مخزوم، وما أفاده ذلك، فإنه أسر، وهو القائل في شعره: ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا يقطر الدم فما صدق في ذلك.
وأول من أسروا عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث، قتلا صبرا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الاسارى، وقد اختلف في أيهما قتل أولا على قولين.
وأنه عليه السلام أطلق جماعة من الاسارى مجانا بلا فداء، منهم أبو العاص بن

الربيع الاموى، والمطلب بن حنطب بن الحارث المخزومى، وصيفى بن أبى رفاعة كما تقدم، وأبو عزة الشاعر، ووهب بن عمير بن وهب الجمحى كما تقدم، وفادى بقيتهم حتى عمه العباس أخذ منه أكثر مما أخذ من سائر الاسرى، لئلا يحابيه لكونه عمه، مع أنه قد سأله الذين أسروه من الانصار أن يتركوا له فداءه فأبى عليهم ذلك، وقال: لا تتركوا منه درهما.
وقد كان فداؤهم متفاوتا، فأقل ما أخذ أربعمائة، ومنهم من أخذ منه أربعون
أوقية من ذهب.
قال موسى بن عقبة: وأخذ من العباس مائة أوقية من ذهب.
ومنهم من استؤجر على عمل بمقدار فدائه كما قال الامام أحمد: حدثنا على بن عاصم، قال: قال داود: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: كان ناس من الاسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الانصار الكتابة، قال: فجاء غلام يوما يبكى إلى أمه فقالت: ما شأنك ؟ فقال: ضربني معلمي فقالت: الخببث يطلب بذحل (1) بدر ! والله لا تأتيه أبدا.
انفرد به أحمد وهو على شرط السنن.
وتقدم بسط ذلك كله ولله الحمد والمنة.
فصل في فضل من شهد بدرا من المسلمين قال البخاري في هذا الباب: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد، سمعت أنسا يقول: أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منى فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الاخرى فترى ما أصنع.
فقال: " ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس ".
__________
(1) الذحل: الثأر.
وفى الاصل: بدخل.
محرفة.
(*)

تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقد روى من غير هذا الوجه من حديث ثابت وقتادة عن أنس، وأن حارثة كان في النظارة وفيه: " إن ابنك أصاب الفردوس الاعلى ".
وفى هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا الذى لم يكن في بحبوحة القتال (1) ولا في حومة الوغى، بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس التى هي أعلى الجنان وأوسط
الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة التى أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة أن يسألوه إياها.
فإذا كان هذا حال هذا، فما ظنك بمن كان واقفا في نحر العدو، وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عددا وعددا ؟ ! ثم روى البخاري ومسلم جميعا عن إسحاق بن راهويه، عن عبدالله بن إدريس، عن حصين بن عبدالرحمن، عن سعد بن عبيدة، عن أبى عبد الرحمن السلمى، عن على بن أبى طالب قصة حاطب بن أبى بلتعة وبعثه الكتاب إلى أهل مكة عام الفتح، وأن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
ولفظ البخاري: " أليس من أهل بدر ؟ ولعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو قد غفرت لكم ".
فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
__________
(1) تبحبح: تمكن في المقام والحلول.
وبحبوحة المكان وسطه.
وفى الاصل: بحبحة.
محرفة (*) (33 - السيرة 2)

وروى مسلم عن قتيبة، عن الليث، عن أبى الزبير، عن جابر، أن عبدا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا قال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبت، لا يدخلها، إنه شهد بدرا والحديبية ".
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنى
الاعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل النار رجل شهد بدرا أو الحديبية ".
تفرد به أحمد وهو على شرط مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبى النجود، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال: إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
ورواه أبو داود عن أحمد بن سنان، وموسى بن إسماعيل، كلاهما عن يزيد ابن هارون به.
وروى البزار في مسنده: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا عكرمة، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى لارجو أن لا يدخل النار من شهد بدرا إن شاء الله ".
ثم قال: لا نعلمه يروى عن أبى هريرة إلا من هذا الوجه.
قلت: وقد تفرد البزار بهذا الحديث ولم يخرجوه، وهو على شرط الصحيح.
والله أعلم.
وقال البخاري في باب شهود الملائكة بدرا: حدثنا إسحاق بن إبراهيم،

حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقى، عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها.
قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة انفرد به البخاري.

فصل في قدوم زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة من مكة إلى المدينة بعد وقعة بدر بشهر، بمقتضى ما كان شرط زوجها أبو العاص للنبى صلى الله عليه وسلم كما تقدم قال ابن إسحاق: ولما رجع أبو العاص إلى مكة وقد خلى سبيله، يعنى كما تقدم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الانصار مكانه فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها فتأتياني بها.
فخرجا مكانهما وذلك بعد بدر بشهر أو شيعه (1).
فلما قدم ابو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت تجهز.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبى بكر، قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز لقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا ابنة محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟ قالت: فقلت: ما أردت ذلك.
فقالت: أي ابنة عم، لا تفعلي، إن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطنى (2) منى فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال.
قالت: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل.
قالت: ولكني خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك.
قال ابن إسحاق: فتجهزت، فلما فرغت من جهازها قدم إليها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقود بها وهى في هودج لها، وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذى طوى، وكان أول
__________
(1) شيعه: قريب منه.
(2) لا تضطنى: لا تنقبضي منى.
وأصله: اضطنأ.
(*)

من سبق إليها هبار بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى الفهرى، فروعها هبار
بالرمح وهى في الهودج، وكانت حاملا فيما يزعمون فطرحت، وبرك حموها كنانة ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنو منى رجل إلا وضعت فيه سهما.
فتكركر الناس عنه.
وأتى أبو سفيان في جلة من قريش فقال: يا أيها الرجل كف عنا نبلك حتى نكلمك.
فكف، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذ خرجت بابنته إليه علانية على رءوس الناس من بين إظهرنا، أن ذلك عن ذل أصابنا، وأن ذلك ضعف منا ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها من أبيها من حاجة وما لنا من ثؤرة (1)، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الاصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسلها سرا وألحقها بأبيها.
قال: ففعل.
وقد ذكر ابن إسحاق أن أولئك النفر الذين ردوا زينب لما رجعوا إلى مكة قالت هند تذمهم على ذلك: أفى السلم أعيارا جفاء وغلظة * وفى الحرب أشباه النساء العوارك (2) وقد قيل إنها قالت ذلك للذين رجعوا من بدر بعد ما قتل منهم الذين قتلوا.
قال ابن إسحاق: فأقامت ليالى، حتى إذا هدأت الاصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها ليلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * وقد روى البيهقى في الدلائل من طريق عمر بن عبدالله بن عروة بن الزبير، عن
__________
(1) الثؤرة: طلب الثأر.
(2) العوارك: الحوائض.
(*)

عروة، عن عائشة فذكر قصة خروجها وردهم لها ووضعها ما في بطنها، وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة وأعطاه خاتمه لتجئ معه فتلطف زيد فأعطاه راعيا من مكة فأعطى الخاتم لزينب، فلما رأته عرفته فقالت: من دفع إليك هذا ؟ قال: رجل في ظاهر مكة.
فخرجت زينب ليلا فركبت وراءه حتى قدم بها المدينة.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي أفضل بناتى أصيبت في ".
قال: فبلغ ذلك على بن الحسين بن زين العابدين، فأتى عروة فقال: ما حديث بلغني أنك تحدثته ؟ فقال عروة: والله ما أحب أن لى ما بين المشرق والمغرب وأنى أنتقص فاطمة حقا هو لها، وأما بعد ذلك أن لا أحدث به أبدا.
قال ابن إسحاق: فقال في ذلك عبدالله بن رواحة أو أبو خيثمة أخو بنى سالم بن عوف.
قال ابن هشام: هي لابي خيثمة: أتانى الذى لا يقدر الناس قدره * لزينب فيهم من عقوق ومأثم وإخراجها لم يخز فيها محمد * على مأقط وبيننا عطر منشم (1) وأمسى أبو سفيان من حلف ضمضم * ومن حربنا في رغم أنف ومندم قرنا ابنه عمرا ومولى يمينه * بذى حلق جلد الصلاصل محكم (2) فأقسمت لا تنفك منا كتائب * سراة خميس من لهام مسوم (3) نروع قريش الكفر حتى نعلها (4) * بخاطمة فوق الانوف بميسم
__________
(1) المأقط: معترك الحرب، وعطر منشم: كناية عن شدة الحرب.
ومنشم: كانت امرأة تبيع العطر فيشترى منها للموتى، حتى تشاءموا بها.
(2) ذو حلق: أراد به الغل.
والصلاصل جمع صلصلة، وهى صلصلة الحديد.
(3) اللهام: الكثير.
والمسوم: المعلم.
(4) نروع: نفزع.
ونعلها: نذيقها الحرب مرة بعد مرة.
(*)

ننزلهم أكناف نجد ونخلة * وإن يتهموا بالخيل والرجل نتهم يد (1) الدهر حتى لا يعوج سربنا * ونلحقهم آثار عاد وجرهم ويندم قوم لم يطيعوا محمدا * على أمرهم وأى حين تندم فأبلغ أبا سفيان إما لقيته * لئن أنت لم تخلص سجودا وتسلم فأبشر بخزى في الحياة معجل * وسربال قار خالدا في جهنم قال ابن إسحاق: ومولى يمين أبى سفيان الذى عناه الشاعر هو عامر بن الحضرمي.
وقال ابن هشام: إنما هو عقبة بن عبد الحارث بن الحضرمي، فأما عامر بن الحضرمي فإنه قتل يوم بدر.
* * * قال ابن إسحاق: وقد حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن بكير بن عبدالله بن الاشج، عن سليمان بن يسار، عن أبى إسحاق الدوسى، عن أبى هريرة.
قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها فقال: " إن ظفرتم بهبار بن الاسود والرجل الذى سبق معه إلى زينب فحرقوهما بالنار ".
فلما كان الغد بعث إلينا فقال: إنى قد كنت أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموها، ثم رأيت أنه لا ينبغى لاحد أن يحرق بالنار إلا الله عزوجل، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما ".
تفرد به ابن إسحاق وهو على شرط السنن ولم يخرجوه.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا الليث، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبى هريرة أنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار " ثم قال حين أردنا الخروج: إنى أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما.
__________
(1) يد الدهر: مد زمانه.
وفى الاصل: يدى.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

وقد ذكر ابن إسحاق أن أبا العاص أقام بمكة على كفره واستمرت زينب عند أبيها بالمدينة، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص في تجارة لقريش، فلما قفل من الشام لقيته سرية فأخذوا ما معه وأعجزهم هربا، وجاء تحت الليل إلى زوجته زينب فاستجار بها فأجارته.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح وكبر وكبر الناس صرخت من صفة النساء: أيها الناس أجرت أبا العاص بن الربيع فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: " أيها الناس هل سمعتم الذى سمعت ؟ " قالوا: نعم.
قال: " أما والذى نفس محمد بيده ما علمت بشئ حتى سمعت ما سمعتم، وإنه يجير على المسلمين أدناهم ".
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب فقال: " أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له " قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثهم على رد ما كان معه، فردوه بأسره لا يفقد منه شيئا.
فأخذه أبو العاص فرجع به إلى مكة، فأعطى كل إنسان ما كان له ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لاحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ قالوا: لا فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما.
قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعنى عن الاسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت.
ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الاول ولم يحدث شيئا.

وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث محمد ابن إسحاق، وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس.
ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء من قبل حفظ داود بن الحصين وقال السهيلي: لم يقل به أحد من الفقهاء فيما علمت.
وفى لفظ: ردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ست سنين، وفى رواية: بعد سنتين بالنكاح الاول، رواه ابن جرير.
وفى رواية: لم يحدث نكاحا.
وهذا الحديث قد أشكل على كثير من العلماء، فإن القاعدة عندهم أن المرأة إذا أسلمت وزوجها كافر، فإن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة، وإن كان بعده انتظر إلى انقضاء العدة، فإن أسلم فيها استمر على نكاحها، وإن انقضت ولم يسلم انفسخ نكاحها وزينب رضى الله عنها أسلمت حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجرت بعد بدر بشهر، وحرم المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست، وأسلم أبو العاص قبل الفتح سنة ثمان فمن قال: ردها عليه بعد ست سنين، أي من حين هجرتها فهو صحيح.
ومن قال: بعد سنتين.
أي من حين حرمت المسلمات على المشركين فهو صحيح أيضا.
وعلى كل تقدير فالظاهر انقضاء عدتها في هذه المدة التى أقلها سنتان من حين التحريم أو قريب منها، فكيف ردها عليه بالنكاح الاول ؟ * * * فقال قائلون: يحتمل أن عدتها لم تنقض، وهذه قصة يمين يتطرق إليها الاحتمال.
وعارض آخرون هذا الحديث بالحديث الاول الذى رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد بنته على أبى العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد.

قال الامام أحمد: هذا حديث ضعيف واه ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمى، والعرزمى لا يساوى حديثه شيئا، والحديث الصحيح الذى روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على النكاح الاول.
وهكذا قال الدار قطني: لا يثبت هذا الحديث، والصواب حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الاول.
وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال.
و [ الذى ] العمل عليه عند أهل العلم، أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها ثم أسلم زوجها أنه أحق بها ما كانت في العدة، وهو قول مالك والاوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال آخرون: بل الظاهر انقضاء عدتها، ومن روى أنه جدد لها نكاحا فضعيف.
* * * ففى قضية زينب، والحالة هذه، دليل على أن المرأة إذا أسلمت وتأخر إسلام زوجها حتى انقضت عدتها، فنكاحها لا ينفسخ بمجرد ذلك، بل يبقى بالخيار إن شاءت تزوجت غيره وإن شاءت تربصت وانتظرت إسلام زوجها أي وقت كان، وهى امرأته ما لم تتزوج.
وهذا القول فيه قوة وله حظ من جهة.
الفقه والله أعلم.
ويستشهد لذلك بما ذكره البخاري حيث قال: نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن عباس، كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركي أهل الحرب يقاتلونهم ويقاتلونه، ومشركى أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه.
فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه، وإن هاجر عبد منهم أو

أمة فهما حران ولهما ما للمهاجرين.
ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد.
هذا لفظه بحروفه.
فقوله: " فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر " يقتضى أنها كانت تستبرئ بحيضة لا تعتد بثلاثة قروء، وقد ذهب قوم إلى هذا.
وقوله: فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه، يقتضى أنه وإن هاجر بعد انقضاء مدة الاستبراء والعدة أنها ترد إلى زوجها الاول ما لم تنكح زوجا غيره، كما هو الظاهر من قصة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ذهب إليه من ذهب من العلماء.
والله أعلم.

فصل فيما قيل من الاشعار في غزوة بدر العظمى (1) فمن ذلك ما ذكره ابن إسحاق، عن حمزة بن عبدالمطلب، وأنكرها ابن هشام: ألم تر أمرا كان من عجب الدهر * وللحين أسباب مبينة الامر وما ذاك إلا أن قوما أفادهم (2) * فحانوا (3) تواص بالعقوق وبالكفر عشية راحوا نحو بدر بجمعهم * وكانوا رهونا للركية من بدر (4) وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها * فساروا إلينا فالتقينا على قدر فلما التقينا لم تكن مثنوية (5) * لنا غير طعن بالمثقفة السمر وضرب ببيض يختلى الهام حدها * مشهرة الالوان بينة الاثر (6) ونحن تركنا عتبة الغى ثاويا * وشيبة في قتلى تجرجم في الجفر (7) وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم * فشقت جيوب النائحات على عمرو جيوب نساء من لؤى بن غالب * كرام تفرعن الذوائب من فهر
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم * وخلوا لواء غير محتضر النصر لواء ضلال قاد إبليس أهله * فخاس بهم إن الخبيث إلى غدر وقال لهم إذ عاين الامر واضحا * برئت إليكم ما بى اليوم من صبر
__________
(1) أكثر ما ذكره ابن اسحق من الاشعار التى قيلت في غزوة بدر مصنوع مختلق، لا تبدو عليه مسحة ذلك العصر، كما نبه على ذلك ابن هشام، وهو من صنع بعض النظامين الذين كانوا يتصورون الحادث ثم يصوغون الاشعار على مقتضاه.
(2) أفادهم: أهلكهم.
(3) الاصل: فخافوا.
وما أثبته عن ابن هشام.
(4) رهونا: جمع رهن، والركبة: البئر التى لم تطو بالحجارة.
(5) المثنوية: أراد الرجوع.
(6) يختلى: يقطع.
والاثر: فرند السيف.
(7) تجرجم: تسقط.
والجفر: البئر لم تطو.
(*)

فإنى أرى ما لا ترون وإنني * أخاف عقاب الله والله ذو قسر فقدمهم للحين حتى تورطوا * وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا * ثلاث مئين كالمسدمة (1) الزهر وفينا جنود الله حين يمدنا * بهم في مقام ثم مستوضح الذكر فشد بهم جبريل تحت لوائنا * لدا مأزق فيه مناياهم تجرى وقد ذكر ابن إسحاق جوابها من الحارث بن هشام تركناها عمدا.
* * * وقال على بن أبى طالب وأنكرها ابن هشام: ألم تر أن الله أبلى رسوله * بلاء عزيز ذى اقتدار وذى فضل بما أنزل الكفار دار مذلة * فلاقوا هوانا من أسار ومن قتل فأمسى رسول الله قد عز نصره * وكان رسول الله أرسل بالعدل فجاء بفرقان من الله منزل * مبينة آياته لذوى العقل
فآمن أقوام بذاك وأيقنوا * فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم * فزادهم ذو العرش خبلا على خبل وأمكن منهم يوم بدر رسوله * وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل بأيديهم بيض خفاف عصوا بها * وقد حادثوها بالجلاء والصقل فكم تركوا من ناشئ ذى حمية * صريعا ومن ذى نجدة منهم كهل تبيت عيون النائحات عليهم * تجود بأسبال الرشاش وبالوبل (2) نوائح تنعى عتبة الغى وابنه * وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل وذا الرجل (3) تنعى وابن جدعان فيهم * مسلبة حرى مبينة الثكل
__________
(1) المسدم: الفحل الهائج.
والزهر: المشرقة اللون.
(2) الرشاش: المطر الضعيف.
والوبل: الكثير.
استعاره للدمع.
(3) يريد بذى الرجل الاسود بن عبد الاسد الذى قطعت رجله وهو يقتحم الحوض.
(* (

ثوى منهم في بئر بدر عصابة * ذوو نجدات في الحروب وفى المحل دعا الغى منهم من دعا فأجابه * وللغى أسباب مرمقة الوصل (1) فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل * عن الشغب والعدوان في أسفل السفل (2) وقد ذكر ابن إسحاق نقيضتها من الحارث أيضا تركناها قصدا.
* * * وقال كعب بن مالك: عجبت لامر الله والله قادر * على ما أراد ليس لله قاهر قضى يوم بدر أن نلاقى معشرا * بغوا وسبيل البغى بالناس جائر وقد حشدوا واستنفروا من يليهم * من الناس حتى جمعهم متكاثر وسارت إلينا لا تحاول غيرنا * بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والاوس حوله * له معقل منهم عزيز وناصر وجمع بنى النجار تحت لوائه * يمشون في الماذى (3) والنقع ثائر فلما لقيناهم وكل مجاهد * لاصحابه مستبسل النفس صابر شهدنا بأن الله لا رب غيره * وأن رسول الله بالحق ظاهر وقد عريت بيض خفاف كأنها * مقاييس يزهيها لعينيك شاهر بهن أبدنا جمعهم فتبددوا * وكان يلاقى الحين من هو فاجر فكب أبو جهل صريعا لوجهه * وعتبة قد غادرته وهو عاثر وشيبة والتيمي غادرت في الوغى * وما منهم إلا بذى العرش كافر فأمسوا وقود النار في مستقرها * وكل كفور في جهنم صائر
__________
(1) مرمقة: ضعيفة واهية.
(2) ابن هشام: في أشغل الشغل.
(3) الماذى: الدرع اللينة السهلة، وتطلق على السلاح كله.
(*)

تلظى عليهم وهى قد شب حميها * بزبر الحديد والحجارة ساجر وكان رسول الله قد قال أقبلوا * فولوا وقالوا إنما أنت ساحر لامر أراد الله أن يهلكوا به * وليس لامر حمه الله زاجر وقال كعب في يوم بدر: ألا هل أتى غسان في نأى دارها * وأخبر شئ بالامور عليمها بأن قد رمتنا عن قسى عداوة * معد معا جهالها وحليمها لانا عبدنا الله لم نرج غيره * رجاء الجنان إذ أتانا زعيمها نبى له في قومه إرث عزة * وأعراق صدق هذبتها أرومها فساروا وسرنا فالتقينا كأننا * أسود لقاء لا يرجى كليمها
ضربناهم حتى هوى في مكرنا * لمنخر سوء من لؤى عظيمها فولوا ودسناهم ببيض صوارم * سواء علينا حلفها وصميمها وقال كعب أيضا: لعمر أبيكا يا بنى لؤى * على زهو لديكم وأنتحاء لما حامت فوارسكم ببدر * ولا صبروا به عند اللقاء وردناه ونور الله يجلو * دجى الظلماء عنا والغطاء رسول الله يقدمنا بأمر * من امر الله أحكم بالقضاء فما ظفرت فوارسكم ببدر * وما رجعوا إليكم بالسواء فلا تعجل أبا سفيان وارقب * جياد الخيل تطلع من كداء بنصر الله روح القدس فيها * وميكال فيا طيب الملاء * * * وقال حسان بن ثابت، قال ابن هشام ويقال هي لعبد الله بن الحارث السهمى:

مستشعرى حلق الماذى يقدمهم * جلد النحيزة ماض غير رعديد (1) أعنى رسول إله الخلق فضله * على البرية بالتقوى وبالجود وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم * وماء بدر زعمتم غير مورود [ ثم وردنا ولم نسمع لقولكم * حتى شربنا رواء غير تصريد (2) ] مستعصمين بحبل غير منجذم * مستحكم من حبال الله ممدود فينا الرسول وفينا الحق نتبعه * حتى الممات ونصر غير محدود واف وماض شهاب يستضاء به * بدر أنار على كل الاماجيد وقال حسان بن ثابت أيضا: ألا ليت شعرى هل أتى أهل مكة * إبادتنا الكفار في ساعة العسر
قتلنا سراة القوم عند مجالنا * فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر قتلنا أبا جهل وعتبة قبله * وشيبة يكبو لليدين وللنحر قتلنا سويدا ثم عتبة بعده * وطعمة أيضا عند ثائرة القتر (3) فكم قد قتلنا من كريم مسود (4) * له حسب في قومه نابه الذكر تركناهم للعاويات ينبنهم (5) * ويصلون نارا بعد حامية القعر لعمرك ما حامت فوارس مالك * وأشياعهم يوم التقينا على بدر وقال عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب في يوم بدر، في قطع رجله في مبارزته هو وحمزة وعلى مع عتبة وشيبة والوليد بن عتبة.
وأنكرها ابن هشام: ستبلغ عنا أهل مكة وقعة * يهب لها من كان عن ذاك نائيا
__________
(1) الماذى: الدروع اللينة.
والمستشعر: اللابس على جسمه بغير حاجز.
والنحيزة: الطبيعة.
والرعديد: الجبان.
(2) من ابن هشام.
(3) القتر: الغبار.
(4) ابن هشام: مرزأ.
(5) ينبنهم: يعاودنهم.
(*)

بعتبة إذ ولى وشيبة بعده * وما كان فيها بكر عتبة راضيا فإن تقطعوا رجلى فإنى مسلم * أرجى بها عيشا من الله دانيا مع الحور أمثال التماثيل أخلصت * من الجنة العليا لمن كان عاليا وبعت بها عيشا تعرفت صفوه * وعاجلته حتى فقدت الا دانيا فأكرمني الرحمن من فضل منه * بثوب من الاسلام غطى المساويا وما كان مكروها إلى قتالهم * غداة دعا الاكفاء من كان داعيا ولم يبغ إذ سألوا النبي سواءنا * ثلاثتنا حتى حضرنا المناديا لقيناهم كالاسد تخطر بالقنا * نقاتل في الرحمن من كان عاصيا
فما برحت أقدامنا من مقامنا * ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا (1) * * * وقال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضا يذم الحارث بن هشام على فراره يوم بدر وتركه قومه لا يقاتل دونهم: تبلت فؤادك في المنام خريدة (2) * تشفى (3) الضجيع ببارد بسام كالمسك تخلطه بماء سحابة * أو عاتق كدم الذبيح مدام نفج الحقيبة بوصها متنضد * بلهاء غير وشيكة الاقسام (4) بنيت على قطن أجم كأنه * فضلا إذا قعدت مداك رخام (5) وتكاد تكسل أن تجئ فراشها * في جسم خرعبة (6) وحسن قوام
__________
(1) المنائيا: المنايا، فزيدت فيه الهمزة.
(2) الخريدة: الحسناء الناعمة.
(3) رواية الديوان: تسقى.
(4) نفج: عالية.
وأراد بالحقيبة الارداف.
والبوص: الردف.
ومتنضد: يعلو بعضه بعضا.
والبلهاء: الغافلة.
والاقسام: جمع قسم.
أي أنها لا تمضى قسمها.
(5) القطن: الوسط.
والاجم: الذى لا عظام فيه.
وفضلا: نصب على الحال.
والمداك: مدق الطيب.
(6) الخرعبة: الحسنة القوام.
(*) (34 - السيرة 2)

أما النهار فلا أفتر ذكرها * والليل توزعني بها أحلامي أقسمت أنساها وأترك ذكرها * حتى تغيب في الضريح عظامي بل من لعاذلة تلوم سفاهة * ولقد عصيت على الهوى لوامى بكرت إلى بسحرة بعد الكرى * وتقارب من حادث الايام زعمت بأن المرء يكرب عمره * عدم لمعتكر من الاصرام (1)
إن كنت كاذبة الذى حدثتني * فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الاحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام (2) يذر العناجيج الجياد بقفرة * مر الدموك بمحصد ورجام (3) ملات به الفرجين فارمدت به * وثوى أحبته بشر مقام وبنو أبيه ورهطه في معرك * نصر الاله به ذوى الاسلام طحنتهم والله ينفذ أمره * حرب يشب سعيرها بضرام لو لا الاله وجريها لتركنه * جزر السباع ودسنه بحوامى (4) من بين مأسور يشد وثاقه * صقر إذا لاقى الاسنة حامى ومجدل لا يستجيب لدعوة * حتى تزول شوامخ الاعلام بالعار والذل المبين إذا رأى * بيض السيوف تسوق كل همام بيدى أغر إذا انتمى لم يخزه * نسب القصار سميدع (5) مقدام بيض إذا لاقت حديدا صممت * كالبرق تحت ظلال كل غمام
__________
(1) يكرب: يحزن.
والاصرام: جمع الجمع لصرمة، وهى القطعة من الابل ما بين العشرين إلى الاربعين.
والمعتكر: المختلط لا يستطاع عده.
(2) الطمرة: الفرس الجواد.
(3) العناجيج: جياد الخيل.
والدموك: البكرة السريعة المر يسقى بها على السانية.
والمحصد: الحبل المفتول.
والرجام: حجر يشد بطرف الدلو لتسرع في البئر.
يصف الفرس بسرعة الجرى.
هذا وفى الاصل: " مر الذمول " وهو تحريف.
صوابه من ابن هشام والديوان.
(4) الحوامى: ميامن الحافر ومياسره.
(5) السميدع: السيد.
(*)

قال ابن هشام: تركنا في آخرها ثلاث أبيات أقذع فيها.
قال ابن هشام: فأجابه الحارث بن هشام أخو أبى جهل عمرو بن هشام فقال: القوم (1) أعلم ما تركت قتالهم * حتى رموا فرسى (2) بأشقر مزبد
وعرفت أنى إن أقاتل واحدا * أقتل ولا ينكى عدوى مشهدى فصددت عنهم والاحبة فيهم * طمعا لهم بعقاب يوم مفسد وقال حسان أيضا: يا حار قد عولت غير معول * عند الهياج وساعة الاحساب إذ تمتطي سرح اليدين نجيبة * مرطى الجراء طويلة الاقراب (3) والقوم خلفك قد تركت قتالهم * ترجو النجاء وليس حين ذهاب ألا عطفت على ابن أمك إذ ثوى * قعص الاسنة (4) ضائع الاسلاب عجل المليك له فأهلك جمعه * بشنار مخزية وسوء عذاب وقال حسان أيضا: لقد علمت قريش يوم بدر * غداة الاسر والقتل الشديد بأنا حين تشتجر العوالي * حماة الحرب يوم أبى الوليد قتلنا أبنى ربيعة يوم سارا * إلينا في مضاعفة الحديد وفر بها حكيم يوم جالت * بنو النجار تخطر كالاسود وولت عند ذاك جموع فهر * وأسلمها الحويرث من بعيد لقد لاقيتم ذلا وقتلا * جهيزا نافذا تحت الوريد وكل القوم قد ولوا جميعا * ولم يلووا على الحسب التليد
__________
(1) ابن هشام: الله أعلم.
(2) ابن هشام: حتى حبوا مهرى.
(3) السرح: السريعة.
ومرطى الجراء: سريعة الجرى.
والاقراب جمع قرب وهو الخاصرة، أو من الشاكلة إلى مراق البطن.
(4) القعص: أن يصاب برمية فيموت مكانه.
(*)

وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب ترثى عبيدة بن الحارث بن المطلب: لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا * وحلما أصيلا وافر اللب والعقل عبيدة فابكيه لاضياف غربة * وأرملة تهوى لاشعث كالجذل وبكية للاقوام في كل شتوة * إذا احمر آفاق السماء من المحل وبكية للايتام والريح زفزف * وتشبيب قدر طالما أزبدت تغلى فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها * فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل لطارق ليل أو لملتمس القرى * ومستنبح أضحى لديه على رسل * * * وقال الاموى في مغازيه: حدثنى سعيد بن قطن قال: قالت: عاتكة بنت عبدالمطلب في رؤياها التى رأت وتذكر بدرا: ألما تكن رؤياي حقا ويأتكم * بتأويلها فل من القوم هارب رأى فأتاكم باليقين الذى رأى * بعينيه ما تفرى السيوف القواضب فقلتم ولم أكذب عليكم وإنما * يكذبنى بالصدق من هو كاذب وما جاء إلا رهبة الموت هاربا * حكيم وقد اعيت عليه المذاهب أقامت سيوف الهند دون رءوسكم * وخطية (1) فيها الشبا والتغالب كأن حريق النار لمع ظبانها * إذا ما تعاطتها الليوث المشاغب ألا بأبى يوم اللقاء محمدا * إذا عض من عون الحروب الغوارب مرى بالسيوف المرهفات نفوسكم * كفاحا كما تمرى السحاب الجنائب (2) فكم بردت أسيافه من مليكة * وزعزع ورد بعد ذلك صالب
__________
(1) الخطية: الرماح (2) الجنائب: الرياح التى تهب جنوبا، وهو تمرى السحاب تستنزل مطره.
وأصل المرى مسح ضرع الناقة ليدر لبنها.
(*)

فما بال قتلى في القليب ومثلهم * لدى ابن أخى أسرى له ما يضارب فكانوا نساء أم أتى لنفوسهم * من الله حين ساق والحين حالب فكيف رأى عند اللقاء محمدا * بنو عمه والحرب فيها التجارب ألم يغشكم ضربا يحار لوقعة الجبان وتبذو بالنهار الكواكب حلفت لئن عادوا لنصطلينهم * بحارا تردى تجر فيها (1) المقانب كأن ضياء الشمس لمع ظباتها * لها من شعاع النور قرن وحاجب وقالت عاتكة أيضا فيما نقله الاموى: هلا صبرتم للنبى محمد * ببدر ومن يغشى الوغى حق صابر ولم ترجعوا عن مرهفات كأنها * حريق بأيدى المؤمنين بواتر ولم تصبروا للبيض حتى أخذتم * قليلا بأيدى المؤمنين المشاعر ووليتم نفرا وما البطل الذى * يقاتل من وقع السلاح بنافر أتاكم بما جاء النبيون قبله * وما ابن أخى البر الصدوق بشاعر سيكفى الذى ضيعتم من نبيكم * وينصره الحيان عمرو وعامر * * * وقال طالب بن أبى طالب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرثى أصحاب القليب من قريش الذين قتلوا يومئذ من قومه، وهو بعد على دين قومه إذ ذاك: ألا إن عينى أنفدت دمعها سكبا * تبكى على كعب وما إن ترى كعبا ألا إن كعبا في الحروب تخاذلوا * وأرداهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا وعامر تبكى للملمات غدوة * فيا ليت شعرى هل أرى (2) لهم قربا
__________
(1) المطبوعة: تجربتها.
وهو تحريف.
(2) ابن هشام: لهما.
(*)

[ هما أخواى لن يعدا لغية * تعد ولن يستام جارهما غصبا (1) ] فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا (2) * فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا ولا تصبحوا من بعد ود وألفة * أحاديث فيها كلكم يشتكى النكبا ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * وحرب (3) أبى يكسوم إذ ملا والشعبا فلو لا دفاع الله لا شئ غيره * لاصبحتم لا تمنعون لكم سربا فما إن جنينا في قريش عظيمة * سوى أن حمينا خير من وطى التربا أخا ثقة في النائبات مرزا * كريما نثاه لا بخيلا ولا ذربا (4) يطيف به العافون يغشون بابه * يؤمون نهرا لا نزورا ولا صربا (5) فو الله لا تنفك نفسي حزينة * تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا فصل وقد ذكر ابن إسحاق أشعارا من جهة المشركين قوية الصنعة يرثون بها قتلاهم يوم بدر.
فمن ذلك قول ضرار بن الخطاب بن مرداس أخى بنى محارب بن فهر، وقد أسلم بعد ذلك، والسهيلى في روضه يتكلم على أشعار من أسلم منهم بعد ذلك: عجبت لفخر الاوس والحين دائر * عليهم غدا والدهر فيه بصائر وفخر بنى النجار إن كان معشر * أصيبوا ببدر كلهم ثم صائر فإن تك قتلى غودرت من رجالنا * فإنا رجالا بعدهم سنغادر
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل: ونوفل.
وهو تحريف.
(3) ابن هشام: وجيش أبى يكسوم.
(4) النثا: العطاء.
والذرب: الفاسد.
(5) الصرب: المنقطع.
(*)

وتردى بنا الجرد العناجيج (1) وسطكم * بنى الاوس حتى يشفى النفس ثائر
ووسط بنى النجار سوف نكرها * لها بالقنا والدارعين زوافر فنترك صرعى تعصب الطير حولهم * وليس لهم إلا الامانى ناصر وتبكيهم من أرض يثرب نسوة * لهن بها ليل عن النوم ساهر وذلك أنا لا تزال سيوفنا * بهن دم ممن يحاربن مائر (2) فإن تظفروا في يوم بدر فإنما * بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر وبالنفر الاخيار هم أولياؤه * يحامون في اللاواء (3) والموت حاضر يعد أبو بكر وحمزة فيهم * ويدعى على وسط من أنت ذاكر أولئك لا من نتجت من ديارهم * بنو الاوس والنجار حين تفاخر ولكن أبوهم من لؤى بن غالب * إذ عدت الانساب كعب وعامر هم الطاعنون الخيل في كل معرك * غداة الهياج الاطيبون الاكابر فأجابه كعب بن مالك بقصيدته التى أسلفناها وهى قوله: عجبت لامر الله والله قادر * على ما أراد ليس لله قاهر قال ابن إسحاق: وقال أبو بكر واسمه شداد بن الاسود بن شعوب.
قلت: وقد ذكر البخاري أنه خلف على امرأة أبى بكر الصديق حين طلقها الصديق وذلك لما حرم الله المشركات على المسلمين واسمها أم بكر: تحيى بالسلامة أم بكر * وهل لى بعد قومي من سلام فماذا بالقليب قليب بدر * من القينات والشرب الكرام
__________
(1) العناجيج: جياد الخيل.
(2) المائر: السائل.
(3) اللاواء: شدة البأس.
(*)

وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تكلل بالسنام (1) وكم لك بالطوى طوى بدر * من الحومات والنعم المسام (2)
وكم لك بالطوى طوى بدر * من الغايات والدسع (3) العظام وأصحاب الكريم أبى على * أخى الكأس الكريمة والندام وإنك لو رأيت أبا عقيل * وأصحاب الثنية من نعام (4) إذا لظللت من وجد عليهم * كأم السقب جائله المرام (5) يخبرنا الرسول لسوف نحيا * وكيف حياة أصداء وهام قلت: وقد أورد البخاري بعضها في صحيحه ليعرف به حال قائلها.
* * * قال ابن إسحاق: وقال أمية بن أبى الصلت يرثى من قتل من قريش يوم بدر: ألا بكيت على الكرا * م بنى الكرام أولى الممادح كبكا الحمام على فرو * ع الايك في الغصن الجوانح (6) يبكين حرى مستكي * نات يرحن مع الروائح أمثالهن الباكيا * ت المعولات من النوائح من يبكيهم يبكى على * حزن ويصدق كل مادح ماذا ببدر فالعقن * قل من مرازبة جحاجح (7) فمدافع البرقين فالحنان من طرف الاواشح (8)
__________
(1) الشيزى: جفان من خشب.
والسنام لحم ظهر البعير.
وأراد أصحابها المطعمين فيها.
(2) الحومات: جمع حومة، وهو القطعة من الابل.
(3) الدسع: العطايا.
(4) النعام: موضع.
(5) السقب: ولد الناقة حين تضعه.
(6) الجوانح: الموائل.
(7) العقنقل: الكثيب المنعقد من الرمل.
والمرازبة: الرؤساء.
والجحاجح: السادة.
(8) البرقين والحنان والاواشح: مواضع.
(*)

شمط وشبان بها * ليل مغاوير وحاوح (1)
ألا ترون لما أرى * ولقد أبان لكل لامح أن قد تغير بطن مكة فهى موحشة الاباطح من كل بطريق لبطريق نقى الود (2) واضح دعموص أبواب الملو * ك وجائب للخرق فاتح (3) ومن السراطمة الخلا * جمة الملاوثة المناجح (4) القائلين الفاعل * ين الآمرين بكل صالح المطعمين الشحم فو * ق الخبز شحما كالانافح (5) نقل الجفان مع الجفا * ن إلى جفان كالمناضح (6) ليست بأصفار لمن * يعفو ولا رح رحارح (7) للضيف ثم الضيف بعد الضيف والبسط السلاطح (8) وهب المئين من المئي * ن إلى المئين من اللواقح سوق المؤبل للمؤبل صادرات عن بلادح (9) لكرامهم فوق الكرا * م مزية وزن الرواجح كمثاقل الارطال بال * قسطاس بالايدي الموائح خذلتهم فئة وهم * يحمون عورات الفضائح
__________
(1) الوحاوح: جمع وحواح وهو القوى.
(2) ابن هشام: نقى اللون.
(3) الدعموص: دويبة تغوص في الماء.
يصفهم بكثرة الدخول على الملوك.
والخرق: الفلاة الواسعة.
(4) السرامطة: جمع سرطم وهو الواسع الحلق.
والخلاجمة: جمع خلجم وهو الضخم الطويل.
(5) الانافح جمع إنفحة.
وهو شجر كالباذنجان.
والانفحة أيضا: شئ يستخرج من بطن الجدى الرضيع أصفر فيعصر في صوفة فيغلظ كالجبن.
(6) المناضح: الحياض.
(7) الرح: الجفان الواسعة.
والرحارح: جمع رحراح، وهو الواسع
المنبسط، يريد أنها عميقة.
(8) السلاطح: العريضة.
(9) بلادح: موضع.
(*)

الضاربين التقدمي * ة بالمهندة الصفائح (1) ولقد عناني صوتهم * من بين مستسق وصائح لله در بنى على أيم منهم وناكح إن لم يغيروا غارة * شعواء تحجر كل نابح بالمقربات المبعدا * ت الطامحات مع الطوامح مردا على جرد إلى * أسد مكالبة كوالح (2) ويلاق قرن قرنه * مشى المصافح للمصافح بزهاء ألف ثم أل * ف بين ذى بدن ورامح قال ابن هشام: تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * قلت: هذا شعر المخذول المعكوس المنكوس، الذى حمله كثرة جهله وقلة عقله على أن مدح المشركين وذم المؤمنين.
واستوحش بمكة من أبى جهل بن هشام وأضرابه من الكفرة اللئام والجهلة الطغام ولم يستوحش بها من عبدالله ورسوله وحبيبه وخليله، فخر البشر ومن وجهه أنور من القمر، ذى العلم الاكمل والعقل الاشمل، ومن صاحبه الصديق المبادر إلى التصديق، والسابق إلى الخيرات وفعل المكرمات، وبذل الالوف والمئات في طاعة رب الارض والسموات.
وكذلك بقية أصحابه الغر الكرام، الذين هاجروا من دار الكفر والجهل إلى
__________
(1) التقدمية: المقدمة.
يصفهم بالتقدم في القتال أول الجيش.
(2) المكالبة: بهم الشرة والحدة.
والكوالح: جمع كالح.
وهو المتجهم العابس.
(*)

دار العلم والاسلام.
رضى الله عن جميعهم ما اختلط الضياء والظلام.
وما تعاقبت الليالى والايام.
وقد تركنا أشعارا كثيرة أوردها ابن إسحاق رحمه الله خوف الاطالة وخشية الملالة.
وفيما أوردنا كفاية.
ولله الحمد والمنة.
وقد قال الاموى في مغازيه: سمعت أبى، حدثنا سليمان بن أرقم، عن ابن سيرين، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن شعر الجاهلية.
قال سليمان: فذكر ذلك الزهري فقال: عفا عنه إلا قصيدتين، كلمة أمية التى ذكر فيها أهل بدر، وكلمة الاعشى التى يذكر فيها الاخوص.
وهذا حديث غريب، وسليمان بن أرقم هذا متروك.
والله أعلم.
فصل في غزوة بنى سليم في سنة ثنتين من الهجرة النبوية قال ابن إسحاق: وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر في عقب شهر رمضان، أو في شوال.
ولما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سليم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، أو ابن أم مكتوم الاعمى.
قال ابن إسحاق: فبلغ ماء من مياههم يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وأفدى في إقامته تلك جل
الاسارى من قريش.

فصل [ في ] غزوة السويق في ذى الحجة منها، وهى غزوة قرقرة الكدر قال السهيلي: والقرقرة: الارض الملساء.
والكدر: طير في ألوانها كدرة.
قال ابن إسحاق: وكان أبو سفيان كما حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان، ومن لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، وكان من أعلم الانصار، حين رجع إلى مكة ورجع فل قريش من بدر، نذر ألا يمس رأسة ماء من جنابة حتى يغزو محمدا.
فخرج في مائتي راكب من قريش لتبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على بريد أو نحوه.
ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل فأتى حيى بن أخطب فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بنى النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس.
ثم خرج في عقب ليله حتى أتى أصحابه، فبعث رجالا من قريش، فأتوا ناحية منها يقال لها العريض فحرقوا في أصوار من نخل بها، ووجدوا رجلا من الانصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، وانصرفوا راجعين.
فنذر بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر.
قال ابن إسحاق: فبلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه.

ووجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أزوادا كثيرة قد ألقاها المشركون يتخففون منها وعامتها سويق، فسميت غزوة السويق.
قال المسلمون: يا رسول الله أنطمع أن تكون هذه لنا غزوة ؟ قال: نعم.
قال ابن إسحاق: وقال أبو سفيان فيما كان من أمره هذا، ويمدح سلام بن مشكم اليهودي: وإنى تخيرت المدينة واحدا * لحلف فلم أندم ولم أتلوم سقاني فروانى كميتا (1) مدامة * على عجل منى سلام (2) بن مشكم ولما تولى الجيش قلت ولم أكن * لافرحه (3): أبشر بعز ومغنم تأمل فإن القوم سر وإنهم * صريح لؤى لا شماطيط (4) جرهم وما كان إلا بعض ليلة راكب * أتى ساعيا من غير خلة معدم فصل في دخول على بن أبى طالب رضى الله عنه على زوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في سنة ثنتين بعد وقعة بدر، لما رواه البخاري ومسلم من طريق الزهري، عن على بن الحسين، عن أبيه الحسين بن على، عن على بن أبى طالب قال: كانت لى شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا مما أفاء الله من الخمس يومئذ، فلما أردت أبتنى فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم واعدت رجلا
__________
(1) الكميت: الخمر التى فيها سواد وحمرة.
(2) خففت اللام لضرورة الشعر.
(3) لافرحه: لاثقل عليه.
(4) الشماطيط: القوم المفرقة.
(*)

صواغا من بنى قينقاع أن يرتحل معى فنأتي بإذخر، فأردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفى من الاقتاب والغرائر والحبال، وشارفاى مناختان إلى جنب حجرة رجل من الانصار حتى جمعت ما جمعت، فإذا أنا بشار في قد أجبت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عينى حين رأت المنظر، فقلت: من فعل هذا ؟ قالوا: فعله حمزة بن عبدالمطلب، وهو في هذا البيت وهو في شرب من الانصار وعنده قينته وأصحابه، فقالت في غنائها: * ألا يا حمز للشرف النواء * فوثب حمزة إلى السيف فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما.
قال على: فانطلقت حتى أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم الذى لقيت، فقال: ما لك ؟ فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم ! عدا حمزة على ناقتي فأجب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في البيت معه شرب.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فارتداه، ثم انطلق يمشى واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذى فيه حمزة فاستأذن عليه فأذن له، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم، صعد النطر فنظر إلى ركبتيه ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لابي ! فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى فخرج وخرجنا معه.
هذا لفظ البخاري في كتاب المغازى، وقد رواه في أماكن أخر من صحيحه بألفاظ كثيرة.

وفى هذا دليل على ما قدمناه من أن غنائم بدر قد خمست، لا كما زعمه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الاموال " من أن الخمس إنما نزل بعد قسمتها، وقد خالفه في ذلك جماعة منهم البخاري وابن جرير، وبينا غلطه في ذلك في التفسير وفيما تقدم والله أعلم.
وكان هذا الصنع من حمزة وأصحابه رضى الله عنهم قبل أن تحرم الخمر، بل قد قتل حمزة يوم أحد كما سيأتي، وذلك قبل تحريم الخمر.
والله أعلم.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى أن عبارة السكران مسلوبة لا تأثير لها لا في طلاق ولا إقرار ولا غير ذلك، كما ذهب إليه من ذهب من العلماء، كما هو مقرر في كتاب الاحكام.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبى نجيح، عن أبيه، عن رجل سمع عليا يقول: أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فقلت: ما لى من شئ، ثم ذكرت عائدته وصلته فخطبتها إليه، فقال: " هل لك من شئ ؟ " قلت: لا قال: " فأين درعك الحطمية (1) التى أعطيتك يوم كذا وكذا ؟ قال: هي عندي.
قال فأعطنيها.
قال: فأعطيتها إياه.
هكذا رواه أحمد في مسنده، وفيه رجل مبهم.
وقد قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، حدثنا عبدة، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما تزوج على فاطمة رضى الله عنهما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطها شيئا.
قال: ما عندي شئ.
قال: أين درعك الحطمية ؟ ورواه النسائي، عن هارون بن إسحاق، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبى عروبة عن أيوب السختيانى به.
__________
(1) منسوبة إلى بطن من عبدالقيس يقال لهم حطمة بن محارب كانوا يعملون الدروع.
(*)

وقال أبو داود: حدثنا كثير بن عبيد الحمصى، حدثنا أبو حيوة، عن شعيب بن ابى حمزة، حدثنى غيلان بن أنس، من أهل حمص، حدثنى محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن عليا لما تزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدخل بها فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله ليس لى شئ.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أعطها درعك " فأعطاها درعه ثم دخل بها.
وقال البيهقى في الدلائل: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثنى عبدالله بن أبى نجيح، عن مجاهد، عن على، قال: خطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت مولاة لى: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: لا.
قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك.
فقلت: وعندي شئ أتزوج به ! فقالت: إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك.
قال: فو الله ما زالت ترجينى حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أن قعدت بين يديه أفحمت فو الله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما جاء بك ؟ ألك حاجة ؟ " فسكت فقال: " لعلك جئت تخطب فاطمة ؟ "، فقلت: نعم.
فقال: " وهل عندك من شئ تستحلها به ؟ " فقلت: لا والله يا رسول الله.
فقال " ما فعلت درع سلحتكها ؟ ".
فو الذى نفس على بيده إنها لحطمية ما قيمتها أربعة دراهم، فقلت: عندي.
فقال: " قد زوجتكها فابعث إليها بها فاستحلها بها ".
فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فولدت فاطمة لعلى حسنا وحسينا ومحسنا - مات صغيرا - وأم كثلوم وزينب.

ثم روى البيهقى من طريق عطاء بن السائب، عن أبيه عن على قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل وقربة ووسادة أدم حشوها إذخر.
ونقل البيهقى عن كتاب المعرفة لابي عبدالله بن منده، أن عليا تزوج فاطمة بعد سنة من الهجرة وابتنى بها بعد ذلك بسنة أخرى.
قلت: فعلى هذا يكون دخوله بها في أوئل السنة الثالثة من الهجرة، فظاهر سياق حديث الشارفين يقتضى أن ذلك عقب وقعة بدر بيسير، فيكون ذلك كما ذكرناه في أواخر السنة الثانية.
والله أعلم.
فصل في ذكر جمل من الحوادث في سنة ثنتين من الهجرة تقدم ما ذكرناه من تزويجه عليه السلام بعائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، وذكرنا ما سلف من الغزوات المشهورة، وقد تضمن ذلك وفيات أعيان من المشاهير من المؤمنين والمشركين.
فكان ممن توفى فيها: الشهداء يوم بدر، وهم أربعة عشر ما بين مهاجري وأنصاري، تقدم تسميتهم، والرؤساء من مشركي قريش وقد كانوا سبعين رجلا على المشهور، وتوفى بعد الوقعة بيسير أبو لهب عبدالعزى بن عبدالمطلب، لعنه الله.
كما تقدم.
ولما جاءت البشارة إلى المؤمنين من أهل المدينة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بما أحل الله بالمشركين وبما فتح على المؤمنين، وجدوا رقية بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد توفيت وساروا عليها التراب.
وكان زوجها عثمان بن عفان قد أقام عندها يمرضها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك.
ولهذا ضرب له بسهمه في مغانم بدر وأجره عند الله يوم القيامة.
(35 - السيرة - 2)

ثم زوجه بأختها الاخرى أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يقال لعثمان بن عفان ذو النورين.
ويقال: إنه لم يغلق أحد على ابنتى نبى واحدة بعد الاخرى غيره رضى الله عنه وأرضاه.
وفيها حولت القبلة كما تقدم، وزيد في صلاة الحضر، على ما سلف.
وفيها فرض الصيام، صيام رمضان، كما تقدم.
وفيها فرضت الزكاة ذات النصب وفرضت زكاة الفطر.
وفيها خضع المشركون من أهل المدينة واليهود الذين هم بها من بنى قينقاع وبنى النضير وبنى قريظة ويهود بنى حارثة وصانعوا المسلمين، وأظهر الاسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود وهم في الباطن منافقون، منهم من هو على ما كان عليه، ومنهم من انحل بالكلية فبقى مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما وصفهم الله في كتابه.
قال ابن جرير: وفيها كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل (1) وكانت معلقة بسيفه.
قال ابن جرير: وقيل إن الحسن بن على ولد فيها.
قال: وأما الواقدي فإنه زعم أن ابن أبى سبرة حدثه عن إسحاق بن عبدالله عن أبى جعفر، أن على بن أبى طالب بنى بفاطمة في ذى الحجة منها.
قال: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الاول باطل.
وإلى هنا ينتهى الجزء الثاني من السيرة النبوية لابن كثير

ثم زوجه بأختها الاخرى أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يقال لعثمان بن عفان ذو النورين.
ويقال: إنه لم يغلق أحد على ابنتى نبى واحدة بعد الاخرى غيره رضى الله عنه وأرضاه.
وفيها حولت القبلة كما تقدم، وزيد في صلاة الحضر، على ما سلف.
وفيها فرض الصيام، صيام رمضان، كما تقدم.
وفيها فرضت الزكاة ذات النصب وفرضت زكاة الفطر.
وفيها خضع المشركون من أهل المدينة واليهود الذين هم بها من بنى قينقاع وبنى النضير وبنى قريظة ويهود بنى حارثة وصانعوا المسلمين، وأظهر الاسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود وهم في الباطن منافقون، منهم من هو على ما كان عليه، ومنهم من انحل بالكلية فبقى مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما وصفهم الله في كتابه.
قال ابن جرير: وفيها كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل (1) وكانت معلقة بسيفه.
قال ابن جرير: وقيل إن الحسن بن على ولد فيها.
قال: وأما الواقدي فإنه زعم أن ابن أبى سبرة حدثه عن إسحاق بن عبدالله عن أبى جعفر، أن على بن أبى طالب بنى بفاطمة في ذى الحجة منها.
قال: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الاول باطل.
وإلى هنا ينتهى الجزء الثاني من السيرة النبوية لابن كثير ويليه الجزء الثالث، وأوله سنة ثلاث من الهجرة
__________
(1) كتب الرسول بين قريش والانصار كتابا فيه: أنهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الاولى، أي يكونون على ما كانوا عليه في الديات.
(*)

السيرة النبوية - ابن كثير ج 3
السيرة النبوية
ابن كثير ج 3

السيرة النبوية للامام أبى الفداء إسماعيل بن كثير 701 - 774 ه تحقيق مصطفى عبد الواحد الجزء الثالث 1293 ه = 1976 م دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع هاتف 236769 - 246161 ص.
ب 5769 بيروت - لبنان

جميع الحقوق محفوطة

بسم الله الرحمن الرحيم سنة ثلاث من الهجرة في أولها كانت غزوة نجد ويقال لها غزوة ذى أمر.
قال ابن إسحاق: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذى الحجة أو قريبا منها، ثم غزا نجدا يريد غطفان، وهى غزوة ذى أمر (1).
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عثمان بن عفان.
قال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفرا كله، أو قريبا من ذلك، ثم رجع ولم يلق كيدا.
وقال الواقدي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان من بنى ثعلبة ابن محارب تجمعوا بذى أمر يريدون حربه، فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتى عشرة خلت من ربيع الاول سنة ثلاث، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، فغاب أحد عشر يوما، وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا.
وهربت منه الاعراب في رءوس الجبال حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به، وأصابهم مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف، وذلك بمرأى من المشركين، واشتغل المشركون في شئونهم.
__________
(1) ذو أمر: موضع من ديار غطفان.
وقال ابن سعد: بناحية النخيل.
(*)

فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له غورث بن الحارث أو دعثور بن الحارث فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد.
فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد من يمنعك منى اليوم ؟ قال: الله.
ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده.
فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك منى ؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا.
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه.
فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، مالك ؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعا.
وجعل يدعو قومه إلى الاسلام.
قال: ونزل في ذلك قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم (1) " الآية.
قال البيهقى: وسيأتى في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه، فلعلهما قصتان.
قلت: إن كانت هذه محفوظة فهى غيرها قطعا، لان ذلك الرجل اسمه غورث ابن الحارث أيضا لم يسلم بل استمر على دينه، ولم يكن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم ألا يقاتله.
والله أعلم.
غزوة الفرع من بحران قال ابن إسحاق: فأقام بالمدينة ربيعا الاول كله أو إلا قليلا منه ثم غدا (2)
__________
(1) سورة المائدة 11.
(2) ابن هشام: ثم غزا.
(*)

يريد قريشا، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران (1)، وهو معدن بالحجاز من ناحية الفرع (2).
وقال الواقدي: إنما كانت غيبته عليه السلام عن المدينة عشرة أيام.
فالله أعلم.
خبر يهود بنى قينقاع من أهل المدينة وقد زعم الواقدي أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة ثنتين من الهجرة.
فالله أعلم.
وهم المرادون بقوله تعالى: " كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم " (3).
قال ابن إسحاق: وقد كان فيما بين ذلك من غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنى قينقاع.
قال: وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوقهم ثم قال: يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد
عرفتم أنى نبى مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم.
فقالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك ؟ ! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.
قال ابن إسحاق: فحدثني مولى لزيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيها: " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد.
قد كان لكم آية في فئتين التقتا " يعنى أصحاب بدر
__________
(1) بحران: بضم الباء وفتحها وهى أول قرية مارت اسماعيل وأمه التمر بمكة.
(2) الفرع: بضم الفاء والراء وفى المواهب بفتحهما.
(3) سورة الحشر 15.
(*)

من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش: " فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار (1) ".
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بنى قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
قال ابن هشام: فذكر عبدالله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبى عون، قال: كان [ من (2) ] أمر بنى قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بنى قينقاع، وجلست إلى صائغ هناك منهم فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فأغضب (2) المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع.
* * *
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه.
فقام إليه عبدالله بن أبى بن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالى.
وكانوا حلفاء الخزرج.
قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في موالى فأعرض عنه.
قال: فأدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: وكان يقال لها ذات الفضول.
فقال له رسول الله صلى الله
__________
(1) سورة آل عمران 13.
(2) من ابن هشام.
(3) ابن هشام: فغضب.
(*)

عليه وسلم: أرسلني.
وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال: ويحك أرسلني.
قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الاحمر والاسود، تحصدهم في غداة واحدة ! إنى والله امرؤ أخشى الدوائر.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك.
قال ابن هشام: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاصرته إياهم أبا لبابة بشير بن عبد المنذر، وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبى، عن عبادة بن الوليد، عن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبدالله بن أبى وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من بنى عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبدالله بن أبى، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
قال: وفيه وفى عبدالله بن أبى نزلت الآيات من المائدة: " يا أيها الذين آمنوا
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض " الآيات حتى قوله: " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة " يعنى عبدالله ابن أبى إلى قوله " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " يعنى عبادة بن الصامت.
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير.

سرية زيد بن حارثة إلى عير قريش (1) صحبة أبى سفيان أيضا، وقيل صحبة صفوان قال يونس بن (2) بكير، عن ابن إسحاق: وكانت بعد وقعة بدر بستة أشهر.
قال ابن إسحاق: وكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم التى كانو يسلكون إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان ومعه فضة كثيرة، وهى عظم تجارتهم، واستأجروا رجلا من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيان، يعنى العجلى حليف بنى سهم، ليدلهم على تلك الطريق.
قال ابن إسحاق: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فلقيهم على ماء يقال له القردة (3)، فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال في ذلك حسان بن ثابت: دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الاوارك (4) بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك (5) قال ابن هشام: وهذه القصيدة في أبيات لحسان، وقد أجابه فيها أبو سفيان ابن الحارث.
وقال الواقدي: كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية مستهل جمادى الاولى
على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، وكان رئيس هذه العير صفوان بن أمية.
__________
(1) ابن هشام: إلى القردة.
(2) الاصل: عن بكير.
وهو تحريف.
(3) القردة: ماء من مياه نجد.
(4) الفلجات جمع فلجة، وهى النهر الصغير.
وقال السهيلي: الفلجات جمع فلج وهو العين الجارية.
قال: والمخاض: واحدتها خلفة من غير لفظها، وهى الحامل، وقد قيل في الواحد: ماخض.
والاوارك: التى رعت الاراك واشتكت من أكله.
(5) الغور: ما انخفض من الارض.
وعالج: موضع كثير الرمل.
(*)

وكان سبب بعثه زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة ومعه خبر هذه العير وهو على دين قومه، واجتمع بكنانة بن أبى الحقيق في بنى النضير ومعهم سليط بن النعمان من أسلم، فشربوا، وكان ذلك قبل أن تحرم الخمر، فتحدث بقضية العير نعيم بن مسعود وخروج صفوان بن أمية فيها وما معه من الاموال، فخرج سليط من ساعته فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث من وقته زيد بن حارثة فلقوهم فأخذوا الاموال وأعجزهم الرجال، وإنما أسروا رجلا أو رجلين، وقدموا بالعير فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ خمسها عشرين ألفا، وقسم أربعة أخماسها على السرية.
وكان فيمن أسر الدليل فرات بن حيان، فأسلم.
رضى الله عنه.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أن في ربيع من هذه السنة تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخلت عليه في جمادى الآخرة منها.
مقتل كعب بن الاشرف اليهودي وكان من بنى طئ، ثم أحد بنى نبهان ولكن أمه من بنى النضير.
هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بنى النضير، وذكره البخاري والبيهقي بعد قصة بنى النضير، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق، لما سيأتي، فإن بنى النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد، وفى محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه: " قتل كعب بن الاشرف " حدثنا على بن عبدالله،
حدثنا سفيان، قال عمرو: سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الاشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله.
فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال: نعم.
قال: فأذن لى أن أقول شيئا.
قال: قل.

فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنانا (1) وإنى قد أتيتك أستسلفك.
قال: وأيضا والله لتملنه.
قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شئ يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا (2).
قال: نعم أرهنوني.
قلت: أي شئ تريد ؟ قال: أرهنوني نساءكم.
فقالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ! قال: فأرهنونى أبناءكم.
قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين ! هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللامة.
قال سفيان: يعنى السلاح (3).
فواعده أن يأتيه ليلا، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة (4) وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة ؟ وقال غير عمرو (5): قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم.
قال: إنما هو أخى محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعى إلى طعنة بليل لاجاب ! قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، فقال: إذا ما جاء فإبى مائل (6) بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه.
وقال: مرة، ثم أشمكم (7).
فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب فقال (8): ما رأيت كاليوم ريحا، أي أطيب.
وقال غير عمرو: قال (9): عندي أعطر نساء العرب
وأجمل العرب.
__________
(1) عنانا: أتعبنا.
(2) زاد في بعض روايات البخاري: وسقا أو وسقين.
(3) اللامه في اللغة: الدرع.
وإطلاق السلاح عليها من إطلاق اسم الكل على البعض.
وقصدوا من ذلك ألا ينكر عليهم السلاح حين يأتونه به.
(4) هو سلكان بن سلامة.
(5) غير عمرو: أي رواية أخرى غير رواية عمرو بن دينار.
(6) وتروى: قائل بشعره.
أي آخذ.
(7) أشمكم: أمكنكم من الشم.
(8) أي محمد بن مسلمة.
(9) أي كعب.
(*)

قال عمرو: فقال: أتأذن لى أن أشم رأسك ؟ قال: نعم.
فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لى ؟ قال: نعم.
فلما أستمكن منه قال: دونكم.
فقتلوه.
ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه.
* * * وقال محمد بن إسحاق: كان من حديث كعب بن الاشرف، وكان رجلا من طئ ثم أحد بنى نبهان وأمه من بنى النضير، أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر حين قدم زيد بن حارثة و عبدالله بن رواحة، قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الارض خير من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر خرج إلى مكة، فنزل على المطلب بن أبى وداعة بن ضبيرة السهمى، وعنده عاتكة بنت أبى العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فأنزلته وأكرمته، وجعل يحرض على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الاشعار ويندب من قتل من المشركين يوم بدر.
فذكر ابن إسحاق قصيدته التى أولها: طحنت رحى بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر تستهل وتدمع وذكر جوابها من حسان بن ثابت رضى الله عنه ومن غيره.
ثم عاد إلى المدينة فجعل يشبب بنساء المسلمين ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الاشرف أحد بنى النضير أو فيهم، قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء وركب إلى قريش فاستغراهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه ؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق ؟ إنا نطعم الجزور الكوماء ونسقى اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال.

فقال له كعب بن الاشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا ! قال فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " وما بعدها.
قال موسى ومحمد بن إسحاق: وقدم المدينة يعلن بالعداوة ويحرض الناس على الحرب، ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يشبب بأم الفضل بن الحارث وبغيرها من نساء المسلمين.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثنى عبدالله بن المغيث ابن أبى بردة: من لابن الاشرف ؟ فقال له محمد بن مسلمة أخو بنى عبد الاشهل: أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله.
قال: فافعل إن قدرت على ذلك.
قال: فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: لم تركت الطعام
والشراب ؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدرى هل أفى لك به أم لا.
قال: إنما عليك الجهد.
قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا أن نقول.
قال: فقولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك.
قال: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة أحد بنى عبد الاشهل، وكان أخا كعب بن الاشرف من الرضاعة، وعبد ؟ بن بشر بن

وقش أحد بنى عبد الاشهل، والحارث بن أوس بن معاذ أحد بنى عبد الاشهل وأبو عبس بن جبر أخو بنى حارثة.
قال: فقدموا بين أيديهم إلى عدو الله كعب سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة فتناشدا شعرا، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال: ويحك يابن الاشرف ! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عنى.
قال: أفعل.
قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبيل، حتى ضاع العيال وجهدت الانفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا.
فقال كعب: أنا ابن الاشرف ! أما والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة أن الامر يصير إلى ما أقول.
فقال له سلكان: إنى قد أرذت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك.
قال: ترهنوني أبناءكم ؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، إن معى أصحابا لى على مثل رأيى، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء.
وأراد سلكان ألا ينكر السلاح إذا جاءوا بها.
فقال: إن في الحلقة لوفاء.
قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: " انطلقوا على

اسم الله، اللهم أعنهم " ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه.
فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني.
فقالت: والله إنى لاعرف في صوته الشر.
قال: يقول لها كعب: لو دعى الفتى لطعنة أجاب ! فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الاشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه ؟ قال: إن شئتم.
فخرجوا فمشوا ساعة.
ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط.
ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفودى رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله ! فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا (1) في سيفى فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال: فوضعته في ثنته (2) ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته (3)، فوقع عدو الله.
وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه أصابه بعض سيوفنا.
قال: فخرجنا حتى سلكنا على بنى أمية بن زيد ثم على بنى قريظة ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلى، فسلمنا عليه، فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله وتفل رسول الله صلى
__________
(1) المغول: فصل طويل.
(2) الثنة: ما بين السرة والعانة.
(3) الاكتفا: غايته.
(*)

الله عليه وسلم على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودى إلا وهو خائف على نفسه.
قال ابن جرير: وزعم الواقدي أنهم جاءوا برأس كعب بن الاشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وفى ذلك يقول كعب بن مالك: فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير فما كره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور قال ابن هشام: وهذه الابيات في قصيدة له في يوم بنى النضير ستأتي.
قلت: كان قتل كعب بن الاشرف على يدى الاوس بعد وقعة بدر، ثم إن الخزرج قتلوا أبا رافع بن أبى الحقيق بعد وقعة أحد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبه الثقة.
وقد أورد ابن إسحاق شعر حسان بن ثابت: لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الاشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين لكل أمر مجحف قال محمد بن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ".
فوثب عند ذلك محيصة بن مسعود الاوسي على ابن سنينة، رجل من تجار يهود

كان يلابسهم ويبايعهم، فقتله، وكان أخوه حويصة بن مسعود أسن منه ولم يسلم بعد، فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته ؟ ! أما والله لرب شحم في بطنك من ماله ! قال محيصة: فقلت والله لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لضربت عنقك ! قال: فو الله إن كان لاول إسلام حويصة وقال: والله لو أمرك محمد بقتلى لتقتلني ؟ قال: نعم، والله لو أمرنى بضرب عنقك لضربتها ! قال: فو الله إن دينا بلغ بك هذا لعجب ! فأسلم حويصة.
قال ابن إسحاق: حدثنى بهذا الحديث مولى لبنى حارثة عن ابنة محيصة، عن أبيها.
وقال في ذلك محيصة: يلوم ابن أم (1) لو أمرت بقتله * لطبقت ذفراه بأبيض قارب (2) حسام كلون الملح أخلص صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب وما سرنى أنى قتلتك طائعا * وأن لنا ما بين بصرى ومأرب وحكى ابن هشام، عن أبى عبيدة، عن أبى عمرو المدنى، أن هذه القصة كانت بعد مقتل بنى قريظة، فإن المقتول كان كعب بن يهوذا، فلما قتله محيصة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بنى قريظة قال له أخوه حويصة ما قال، فرد عليه
محيصة بما تقدم، فأسلم حويصة يومئذ.
فالله أعلم.
تنبيه: ذكر البيهقى والبخاري قبله خبر بنى النضير قبل وقعة أحد، والصواب إيرادها بعد ذلك، كما ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره من أئمة المغازى.
وبرهانه: أن الخمر حرمت ليالى حصار بنى النضير، وثبت في الصحيح أنه اصطبح
__________
(1) ابن هشام: ابن أمي.
(2) الذفرى: عظم ناتئ خلف الاذن وفى ابن هشام: قاضب.
وهو القاطع.
(*)

الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا، فدل على أن الخمر كانت إذ ذاك حلالا، وإنما حرمت بعد ذلك، فتبين ما قلناه من أن قصة بنى النضير بعد وقعة أحد.
والله أعلم.
تنبيه آخر: خبر يهود بنى قينقاع بعد وقعة بدر.
كما تقدم.
وكذلك قتل كعب ابن الاشرف اليهودي على يدى الاوس.
وخبر بنى النضير بعد وقعة أحد كما سيأتي.
وكذلك مقتل أبى رافع اليهودي تاجر أهل الحجاز على يدى الخزرج.
وخبر يهود بنى قريظة بعد يوم الاحزاب وقصة الخندق.
كما سيأتي.

غزوة أحد في شوال سنة ثلاث " فائدة " ذكرها المؤلف في تسمية أحد.
قال: سمى أحد أحدا لتوحده من بين تلك الجبال.
وفى الصحيح: " أحد جبل يحبنا ونحبه " قيل: معناه أهله.
وقيل: لانه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره، كما يفعل المحب.
وقيل: على ظاهره كقوله: " وإن منها لما يهبط من خشية الله ".
وفى الحديث عن أبى عبس بن جبر: " أحد يحبنا ونحبه، وهو على باب الجنة،
وعير يبغضنا ونبغضه.
وهو على باب من أبواب النار ".
قال السهيلي مقويا لهذا الحديث: وقد ثبت أنه عليه السلام قال: " المرء مع من أحب ".
وهذا من غريب صنع السهيلي.
فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس، ولا يسمى الجبل امرءا.
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث.
قاله الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق ومالك.
قال ابن إسحاق: للنصف من شوال.
وقال قتادة: يوم السبت الحادى عشر منه.
قال مالك: وكانت الوقعة في أول النهار، وهى على المشهور التى أنزل الله فيها قوله تعالى: " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم.
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون.
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن

يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين.
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " الآيات وما بعدها إلى قوله: " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب (1) ".
وقد تكلمنا على تفاصيل ذلك كله في كتاب التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
ولنذكر هاهنا ملخص الوقعة مما ساقه محمد بن إسحاق وغيره من علماء هذا الشأن رحمه الله.
* * *
وكان من حديث أحد، كما حدثنى محمد بن مسلم الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم أحد، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت.
قالوا - أو من قال منهم -: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبدالله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان ابن أمية، في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثارا.
ففعلوا.
قال ابن إسحاق: ففيهم كما ذكر لى بعض أهل العلم أنزل الله تعالى: " إن الذين
__________
(1) سورة آل عمران 121 - 179 (*)

كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون (1) ".
قالوا: فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة.
وكان أبو عزة عمرو بن عبدالله الجمحى قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان فقيرا ذا عيال وحاجة، وكان في الاسارى، فقال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك واخرج معنا.
فقال: إن محمدا قد من على فلا أريد أن أظاهر عليه.
قال: بلى، فأعنا بنفسك، فلك الله إن رجعت أن أغنيك، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتى يصيبهن ما أصابهن من
عسر ويسر.
فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بنى كنانة ويقول: أيا (2) بنى عبد مناة الرزام (3) * أنتم حماة وأبوكم حام لا يعدونى نصركم بعد العام * لا تسلموني لا يحل إسلام قال: وخرج نافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بنى مالك بن كنانة يحرضهم ويقول: يا مال (4) مال الحسب المقدم * أنشد ذا القربى وذا التذمم من كان ذا رحم ومن لم يرحم * الحلف وسط البلد المحرم عند حطيم الكعبة المعظم قال: ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقال له وحشى يقذف بحربة له قذف
__________
(1) سورة الانفال 36.
(2) ابن هشام: إيها.
(3) الرزام: جمع رازم، وهو الذى يثبت في الحرب لا يبرح.
(5) يا مال: يريد يا مالك فحذف آخره للترخيم.
(*)

الحبشة، قلما يخطئ بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمى طعيمة بن عدى فأنت عتيق.
* * * قال: فخرجت قريش بحدها وحديدها وجدها وأحابيشها، ومن تابعها من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن (1) التماس الحفيظة وألا يفروا.
وخرج أبو سفيان صخر بن حرب، وهو قائد الناس، ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة.
وخرج عكرمة بن أبى جهل بزوجته ابنة عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة.
وخرج عمه الحارث بن هشام بزوجته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة.
وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وخرج عمرو ابن العاص بربطة بنت منبه بن الحجاج، وهى أم ابنه عبدالله بن عمرو.
وذكر غيرهم ممن خرج بامرأته.
قال: وكان وحشى كلما مر بهند بنت عتبة أو مرت به تقول: ويها أبا دسمة اشف واشتف.
يعنى تحرضه على قتل حمزة بن عبدالمطلب.
قال: فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال لهم: " قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى في درع حصينة.
فأولتها المدينة ".
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم جميعا عن أبى كريب، عن أبى أسامة، عن
__________
(1) الظعن: جمع ظعينة وهى المرأة ما دامت في هودج.
(*)

بريد بن عبدالله بن أبى بردة، عن أبى بردة، عن أبى موسى الاشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى (1) إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب.
ورأيت في رؤياي هذه أنى هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضا بقرا، والله خير (2)، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذى أتانا بعد يوم بدر ".
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، أخبرنا الاصم، أخبرنا محمد بن عبدالله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن أبى الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله بن
عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: تعقل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر.
قال ابن عباس: وهو الذى رأى فيه الرؤيا يوم أحد.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه المشركون يوم أحد كان رأيه أن يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: نخرج يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد.
ورجوا أن يصيبهم من الفضيلة ما أصاب أهل بدر.
فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله أقم، فالرأى رأيك.
فقال لهم: ما ينبغى لنبى أن يضع أداته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه.
قال: وكان قال لهم يومئذ قبل أن يلبس الاداة: إنى رأيت أنى في درع حصينة،
__________
(1) وهلى: أول ظنى.
(2) قال القسطلانى: والله خير: رفع مبتدأ أو خبر، وفيه حذف تقديره: وصنع الله خير.
(*)

فأولتها المدينة، وأنى مردف كبشا وأولته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفى ذا الفقار فل، فأولته فلا فيكم، ورأيت بقرا يذبح، فبقر (1)، والله خير.
رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبدالرحمن بن أبى الزناد عن أبيه به.
وروى البيهقى من طريق حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن أنس مرفوعا قال: رأيت فيما يرى النائم كأنى مردف كبشا، وكأن ضبة سيفى انكسرت، فأولت أنى أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفى قتل رجل من عترتي.
فقتل حمزة، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة، وكان صاحب اللواء.
* * * وقال موسى بن عقبة: ورجعت قريش فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب،
وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر، حتى نزلوا ببطن الوادي الذى قبلى أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة، وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر.
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله علينا أمنيتنا.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى ليلة الجمعة رؤيا فأصبح، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم: " رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير، ورأيت سيفى ذا الفقار انقصم من عند ضبته، أو قال: به فلول، فكرهته، وهما مصيبتان، ورأيت أنى في درع حصينة وأنى مردف كبشا ".
فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه، قالوا: يا رسول الله، ماذا
__________
(1) يريد بالبقر هنا: مصدر بقره يبقره بقرا، أي شق بطنه.
(*)

أولت رؤياك ؟ قال: " أولت البقر الذى رأيت بقرا فينا وفى القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي ".
ويقول رجال: كان الذى رأى بسيفه: الذى أصاب وجهه، فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وقصموا رباعيته وخرقوا شفته، يزعمون أن الذى رماه عتبة بن أبى وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ.
وقال: أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذرارى في الآطام، فإن دخل علينا القوم في الازقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت.
وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى [ صارت ] كالحصن.
فقال الذين لم يشهدوا بدرا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله
إلينا وقرب المسير.
وقال رجل من الانصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا ؟ وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم نمنع الحرب بروع ؟ وقال رجال قولا صدقوا به ومضوا عليه، منهم حمزة بن عبدالمطلب، قال: والذى أنزل عليك الكتاب لنجادلهم.
وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة، وهو أحد بنى سالم: يا نبى الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لادخلنها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ؟ قال: بأنى أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت.
واستشهد يومئذ.
وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذى أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر.

وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا، قد علموا الذى سبق لاصحاب بدر من الفضيلة.
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة وعظ الناس وذكرهم، وأمرهم بالجد والجهاد، ثم انصرف من خطبته وصلاته، فدعا بلامته فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج.
فلما رأى ذلك رجال من ذوى الرأى قالوا: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة وهو أعلم بالله وما يريد ويأتيه الوحى من السماء.
فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا.
فقال: ما ينبغى لنبى إذا أخذ لامة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم
إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فسلكوا على البدائع وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأحد.
ورجع عنه عبدالله بن أبى بن سلول في ثلاثمائة، فبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
قال البيهقى: هذا هو المشهور عند أهل المغازى، أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل.
قال: والمشهور عن الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل.
كذلك رواه يعقوب بن سفيان عن أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وقيل عنه بهذا الاسناد سبعمائة.
فالله أعلم.
قال موسى بن عقبة: وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، وكان معهم مائة

فرس، وكان لواؤه مع عثمان بن طلحة.
قال: ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة.
ثم ذكر الواقعة كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
* * * وقال محمد بن إسحاق: لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه قال لهم: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان رأى عبدالله بن أبى بن سلول مع رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألا يخرج إليهم.
فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته
بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.
فقال عبدالله بن أبى: يا رسول الله لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه.
فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لامته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بنى النجار يقال له مالك ابن عمرو، فصلى عليه ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك.
فلما خرج عليهم قالوا: يا رسول الله إن شئت فاقعد.
فقال: ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبدالله بن

أبى بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس.
فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام السلمى والد جابر بن عبدالله، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم.
قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغنى الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
قلت: وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى: " وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا.
قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (1) ".
يعنى أنهم كاذبون في قولهم: لو نعلم قتالا لاتبعناكم.
وذلك لان وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح لا خفاء ولا شك فيه.
وهم الذين أنزل الله فيهم: " فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا (2) " الآية.
وذلك أن طائفة قالت: نقاتلهم.
وقال آخرون: لا نقاتلهم.
كما ثبت وبين في الصحيح.
وذكر الزهري أن الانصار استأذنوا حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة، فقال: لا حاجة لنا فيهم.
__________
(1) سورة آل عمران 167.
(2) سورة النساء 88.
(*)

وذكر عروة بن موسى بن عقبة أن بنى سلمة وبنى حارثة لما رجع عبدالله بن أبى وأصحابه همتا أن تفشلا، فثبتهما الله تعالى، ولهذا قال: " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ".
قال جابر بن عبدالله: ما أحب أنها لم تنزل والله يقول: " والله وليهما (1) " كما ثبت في الصحيحين عنه.
* * * قال ابن اسحاق: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بنى حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب (2) سيف فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب السيف: شم سيفك.
أي أغمده، فإنى أرى السيوف
ستسل اليوم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لاصحابه: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب - أي من قريب - من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو خيثمة أخو بنى حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله.
فنفذ به في حرة بنى حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لمربع ابن قيظى، وكان رجلا منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثى في وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل في حائطي.
قال ابن إسحاق: وقد ذكر لى أنه أخذ حفنة من التراب في يده ثم قال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك.
فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوه، فهذا الاعمى أعمى القلب أعمى البصر.
وقد
__________
(1) اية 122 سورة آل عمران - أي لما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية.
(2) الكلاب: ذؤابة السيف.
(*)

بدر إليه سعد بن زيد أخو بنى عبد الاشهل قبل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس في رأسه فشجه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد، في عدوة الوادي وفى الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال.
وقد سرحت قريش الظهر والكراع (1) في زروع كانت بالصمغة من قناة كانت للمسلمين، فقال رجل من الانصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بنى قيلة ولما نضارب ؟ ! وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل، وأمر على الرماة
يومئذ عبدالله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا، فقال: انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.
وسيأتى شاهد هذا في الصحيحين إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.
يعنى لبس درعا فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخى بنى عبد الدار.
قلت: وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الغلمان يوم أحد، فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم، منهم: عبدالله بن عمر، كما ثبت في الصحيحين قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأبا ابن خمس عشرة فأجازنى.
وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت والبراء بن عازب، وأسيد بن
__________
(1) الظهر: الابل.
والكراع: الخيل.
(*)

ظهير، وعرابة بن أوس بن قيظى.
ذكره ابن قتيبة وأورده السهيلي، وهو الذى يقول فيه الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين ومنهم ابن سعيد بن خيثمة.
ذكره السهيلي أيضا، وأجازهم كلهم يوم الخندق.
وكان قد رد يومئذ سمرة بن جندب ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، فقيل: يا رسول الله إن رافعا رام فأجازه.
فقيل: يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعا فأجازه.
قال ابن إسحاق: وتعبأت قريش، وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل بن هشام.
* * * وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، فقال: وما حقه يا رسول الله ؟ قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحنى.
قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه.
فأعطاه إياه.
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا يزيد وعفان، قالا حدثنا حماد، هو ابن سلمة، أخبرنا ثابت، عن النبي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال: من يأخذ هذا السيف ؟ فأخذ قوم فجعلوا ينظرون إليه، فقال: من يأخذه بحقه ؟ فأحجم القوم، فقال أبو دجانة سماك: أنا آخذه بحقه.
فأخذه ففلق به هام المشركين.
ورواه مسلم، عن أبى بكر عن عفان به.

قال ابن إسحاق: وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل.
قال: فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها، ثم جعل يتبختر بين الصفين.
قال: فحدثني جعفر بن عبدالله بن أسلم، مولى عمر بن الخطاب، عن رجل من الانصار من بنى سلمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن ! * * * قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لاصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم
على القتال: يا بنى عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا ! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع.
وذلك الذى أراد أبو سفيان.
قال: فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتى معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضن على القتال، فقالت هند فيما تقول: ويها بنى عبد الدار * ويها حماة الادبار ضربا بكل بتار وتقول أيضا: إن تقبلوا نعانق * ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق * فراق غير وامق

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن أبا عامر عبد عمرو بن صيفي ابن مالك بن النعمان أحد بنى ضبيعة، وكان قد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم معه خمسون غلاما من الاوس.
وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر.
وكان يعد قريشا أن لو قد لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان.
فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر في الاحابيش وعبد ان أهل مكة، فنادى: يا معشر الاوس أنا أبو عامر.
قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق.
وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق.
فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدى شر ! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم
أرضخهم بالحجارة.
قال ابن إسحاق: فأقبل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس.
قال ابن هشام: وحدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لانظرن ما يصنع.
فاتبعته، فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الانصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت: وهكذا كانت تقول له إذا تعصب.
فخرج وهو يقول: أنا الذى عاهدني خليلي * ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول * أضرب بسيف الله والرسول وقال الاموى: حدثنى أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلا أتاه وهو يقاتل به، فقال: لعلك إن أعطيتك تقاتل في الكيول ؟ قال: لا.
فأعطاه سيفا فجعل يرتجز ويقول:

أنا الذى عاهدني خليلي * أن لا أقوم الدهر في الكيول وهذا حديث يروى عن شعبة، ورواه إسرائيل كلاهما عن أبى إسحاق، عن هند بنت خالد أو غيره يرفعه.
الكيول: يعنى مؤخر الصفوف.
سمعته من عدة من أهل العلم، ولم أسمع هذا الحرف إلا في هذا الحديث.
قال ابن هشام: فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله.
وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما،
فالتقيا، فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله.
ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم.
وقد رواه البيهقى في الدلائل من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير بن العوام بذلك.
قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضه طلبه منه عمر فأعرض عنه، ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه، فوجدا في أنفسهما من ذلك، ثم عرضه الثالثة فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه فأعطى السيف حقه.
قال: فزعموا أن كعب بن مالك قال: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت مثل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاورت، فإذا رجل من المشركين جمع اللامة يجوز (3 - السيرة - 3)

المسلمين وهو يقول: استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم (1).
قال: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لامته، فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصرى، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيأة.
قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب ؟ أنا أبو دجانة ! مقتل حمزة رضى الله عنه قال ابن إسحاق: وقاتل حمزة بن عبدالمطلب حتى قتل أرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء.
وكذلك قتل عثمان بن أبى طلحة، وهو حامل اللواء، وهو يقول: إن على أهل اللواء حقا * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا فحمل عليه حمزة فقتله (2).
ثم مر به سباع بن عبدالعزى الغبشانى، وكان يكنى بأبى نيار، فقال حمزة: هلم إلى يا ابن مقطعة البظور.
وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، وكانت ختانة بمكة، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله.
فقال وحشى غلام جبير بن مطعم: والله إنى لانظر لحمزة يهد الناس بسيفه ما يليق (3) شيئا يمر به، مثل الجمل الاورق، إذ قد تقدمنى إليه سباع، فقال حمزة: هلم يابن مقطعة البظور.
فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته (4) حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل
__________
(1) استوسقوا: اجتمعوا والجزر: ما يذبح من الشاء واحدتها جزرة.
(2) ليس في ابن هشام.
(3) ما يليق: ما يبقى.
(4) الثنة: بين السرة والعانة.
(*)

نحوى فغلب، فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتى، ثم تنحيت إلى العسكر ولم يكن لى بشئ حاجة غيره.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمرى، قال: خرجت أنا وعبيد الله ابن عدى بن الخيار، أحد بنى نوفل بن عبد مناف في زمان معاوية، فأدر بنا مع الناس، فلما مررنا بحمص وكان وحشى مولى جبير قد سكنها وأقام بها، فلما قدمناها قال عبيد الله بن عدى: هل لك في أن نأتى وحشيا فنسأله عن قتل حمزة كيف قتله ؟ قال قلت له: إن شئت.
فخرجنا نسأل عنه بحمص، فقال لنا رجل ونحن نسأل عنه: إنكما ستجدانه بفناء داره، وهو رجل قد غلبت عليه الخمر، فإن تجداه صاحيا تجدا رجلا عربيا وتجدا عنده بعض ما تريدان وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه، وإن تجداه وبه بعض ما به فانصرفا عنه ودعاه.
قال: فخرجنا نمشي حتى جئناه، فإذا هو بفناء داره على طنفسة له، وإذا شيخ كبير مثل البغاث، وإذا هو صاح لا بأس به، فلما انتهينا إليه سلمنا عليه.
فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدى فقال ابن لعدى بن الخيار أنت ؟ قال: نعم.
قال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التى أرضعتك بذى طوى، فإنى ناولتكها وهى على بعيرها فأخذتك بعرضيك فلمعت لى قدماك حتى رفعتك إليها، فوالله ما هو إلا أن وقفت على فعرفتهما ! قال: فجلسنا إليه فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة، كيف قتلته ؟

فقال: أما إنى سأحدثكما كما حدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألني عن ذلك.
كنت غلاما لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدى قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لى جبير: إن قتلت حمزة عم محمد بعمى فأنت عتيق.
قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطئ بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الاورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شئ، فوالله إنى لا تهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى، إذ تقدمنى إليه سباع بن عبدالعزى، فلما رآه حمزة قال: هلم إلى يابن مقطعة البظور.
قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته، حتى خرجت
من بين رجليه، وذهب لينوء نحوى فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى ثم رجعت إلى العسكر وقعدت فيه، ولم يكن لى بغيره حاجة، إنما قتلته لاعتق.
فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت، حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف، فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعيت على المذاهب، فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد، فوالله إنى لفى ذلك من همى إذ قال لى رجل: ويحك ! إنه والله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق.
قال: فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرعه إلا بى قائما على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رأني قال لى: أوحشي أنت ؟ قلت: نعم يا رسول الله.
قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة ؟

قال: فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثى قال: ويحك غيب عنى وجهك فلا أرينك ! قال: فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يرانى، حتى قبضه الله عزوجل.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتى التى قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما وبيده السيف، وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الانصار من الناحية الاخرى، كلانا يريده، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه، وشد عليه الانصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت شر الناس !
قلت: الانصاري هو أبو دجانة سماك بن خرشة.
وقال الواقدي في الردة: هو عبدالله بن زيد بن عاصم المازنى.
وقال سيف بن عمرو: هو عدى بن سهل.
وهو القائل: ألم تر أنى ووحشيهم * قتلت مسيلمة المفتتن ويسألني الناس عن قتله * فقلت: ضربت وهذا طعن والمشهور أن وحشيا هو الذى بدره بالضربة وذفف عليه أبو دجانة، لما روى ابن إسحاق، عن عبدالله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن ابن عمر قال: سمعت صارخا يوم اليمامة يقول: قتله العبد الاسود.
* * * وقد روى البخاري قصة مقتل حمزة من طريق عبد العزيز بن عبدالله بن أبى سلمة
__________
(1) بالاصل غير منقوطة.
وما أثبته عن الروض الانف 2 / 132.
(*)

الماجشون، عن عبدالله بن الفضل، عن سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمرى، قال: خرجت مع عبدالله بن عدى بن الخيار.
فذكر القصة كما تقدم.
وذكر أن عبيد الله بن عدى كان معتجرا عمامة لا يرى منه وحشى إلا عينيه ورجليه، فذكر من معرفته له ما تقدم.
وهذه قيافة عظيمة، كما عرف مجزز المدلجى أقدام زيد وابنه أسامة مع اختلاف ألوانهما.
وقال في سياقته: فلما أن صف الناس للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز ؟ فخرج إليه حمزة بن عبدالمطلب فقال له: يا سباع يابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله ؟ ! ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب ! قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا منى رميته بحربتي فأضعها في ثنته، حتى
خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذلك آخر العهد به.
إلى أن قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج مسيلمة الكذاب قلت: لاخرج إلى مسيلمة لعلى أقتله فأكافئ به حمزة.
قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان.
قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من [ بين ] (1) كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الانصار فضربه بالسيف على هامته.
قال عبدالله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبدالله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر البيت: واأمير المؤمناه (2) ! قتله العبد الاسود.
قال ابن هشام: فبلغني أن وحشيا لم يزل يحد في الخمر حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت إن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة !
__________
(1) من صحيح البخاري.
(3) البخاري: واأمير المؤمنين.
(*)

قلت: وتوفى وحشى بن حرب، أبو دسمة، ويقال أبو حرب، بحمص، وكان أول من لبس الثياب المدلوكة.
* * * قال ابن إسحاق: وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل.
وكان الذى قتله ابن قمئة الليثى، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش: فقال قتلت محمدا.
قلت: وذكر موسى بن عقبة في مغازيه عن سعيد بن المسيب أن الذى قتل مصعبا هو أبى بن خلف.
فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء على بن أبى طالب.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: كان اللواء أولا مع على بن أبى طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء المشركين مع عبد الدار قال: نحن أحق بالوفاء منهم، أخذ اللواء من على بن أبى طالب فدفعه إلى مصعب بن عمير، فلما قتل مصعب أعطى اللواء على بن أبى طالب.
قال ابن إسحاق: وقاتل على بن أبى طالب ورجال من المسلمين.
قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازنى، قال: لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الانصار، وأرسل إلى على: أن قدم الراية.
فقدم على وهو يقول: أنا أبو القصم.
فناداه أبو سعد بن أبى طلحة، وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة ؟ قال: نعم.
فبرزا بين الصفين، فاختلفا ضربتين، فضربه على فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه.
فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه ؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله.

وقد فعل ذلك على رضى الله عنه يوم صفين مع بسر بن أبى أرطاة لما حمل عليه ليقتله أبدى له عورته فرجع عنه.
وكذلك فعل عمرو بن العاص حين حمل عليه على في بعض أيام صفين أبدى عن عورته فرجع على أيضا.
ففى ذلك يقول الحارث بن النضر: أفى (1) كل يوم فارس غير منته * وعورته وسط العجاجة باديه يكف لها عنه على سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه ! وذكر يونس عن ابن إسحاق، أن طلحة بن أبى طلحة العبدرى حامل لواء المشركين يومئذ دعا إلى البراز فأحجم عنه الناس، فبرز إليه الزبير بن العوام فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الارض فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فأثنى عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لكل نبى حواريا وحواري الزبير " وقال: لو لم يبرز إليه لبرزت أنا إليه لما رأيت من إحجام الناس عنه.
وقال ابن إسحاق: قتل أبا سعد بن أبى طلحة سعد بن أبى وقاص.
وقاتل عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح فقتل نافع بن أبى طلحة وأخاه الحلاس، كلاهما يشعره سهما فيأتى أمه سلافة فيضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بنى من أصابك ؟ فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبى الاقلح.
فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر.
وكان عاصم قد عاهد الله لا يمس مشركا أبدا ولا يمسه.
ولهذا حماه الله منه يوم الرجيع كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: والتقى حنظلة بن أبى عامر، واسمه عمرو، ويقال عبد عمرو بن صيفي، وكان يقال لابي عامر في الجاهلية الراهب، لكثرة عبادته، فسماه رسول الله
__________
(1) الاصل: أتى.
وهو تحريف.
وما أثبته عن الروض الانف 2 / 133.
(*)

صلى الله عليه وسلم الفاسق، لما خالف الحق وأهله وهرب من المدينة هربا من الاسلام ومخالفة للرسول عليه السلام.
وحنظلة الذى يعرف بحنظلة الغسيل، لانه غسلته الملائكة.
كما سيأتي.
هو وأبو سفيان صخر بن حرب، فلما علاه حنظلة رآه شداد بن الاوس، وهو الذى يقال له ابن شعوب، فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن صاحبكم لتغسله الملائكة، فاسألوا أهله ما شأنه ؟ ".
فسئلت صاحبته.
قال الواقدي: هي جميلة بنت أبى بن سلول وكانت عروسا عليه تلك الليلة.
فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك غسلته الملائكة !
وقد ذكر موسى بن عقبة أن أباه ضرب برجله في صدره، فقال: ذنبان أصبتهما، ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنت وصولا للرحم برا بالوالد.
قال ابن إسحاق: وقال ابن شعوب في ذلك: لاحمين صاحبي ونفسي * بطعنة مثل شعاع الشمس وقال ابن شعوب: ولولا دفاعي يابن حرب ومشهدي * لالفيت يوم النعف (1) غير مجيب ولولا مكرى المهر بالنعف فرفرت (2) * عليه ضباع (3) أو ضراء كليب (4) وقال أبو سفيان: ولو شئت نجتنى كميت: طمرة (5) * ولم أحمل النعماء لابن شعوب
__________
(1) النعف: ما انحدر من حزونة الجبل (2) فرفرت: أسرعت وطاشت.
وفى ابن هشام: قرقرت.
بالقاف.
(3) ابن هشام: ضباع عليه (4) الضراء: الضارية من الكلاب.
(5) الطمرة: الفرس السريعة الجرى.
(*)

وما زال مهرى مزجر الكلب منهم * لدن غدوة حتى دنت لغروب أقاتلهم وأدعى يالغالب * وأدفعهم عنى بركن صليب فبكى ولا ترعى مقالة عاذل * ولا تسأمى من عبرة ونحيب أباك وإخوانا له قد تتابعوا * وحق لهم من عبرة بنصيب وسلى الذى قد كان في النفس أننى * قتلت من النجار كل نجيب ومن هاشم قرما (1) كريما ومصعبا * وكان لدى الهيجاء غير هيوب فلو أننى لم أشف نفسي منهم * لكانت شجى في القلب ذات ندوب فآبوا وقد أودى الجلابيب منهم * بهم خدب من معبط وكئيب (2)
أصابهم من لم يكن لدمائهم * كفاء ولا في خطة بضريب فأجابه حسان بن ثابت: ذكرت القروم الصيد من آل هاشم * ولست لزور قلته بمصيب أتعجب أن أقصدت حمزة منهم * نجيبا وقد سميته بنجيب ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه * وشيبة والحجاج وابن حبيب غداة دعا العاصى عليا فراعه * بضربة عضب بله بخضيب فصل قال ابن إسحاق: ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصدقهم وعده، فحشوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، قال: والله لقد رأيتنى أنظر إلى خدم (3) هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب،
__________
(1) القرم: السيد.
(2) الخدب: الهوج.
والمعبط.
الذى يسيل دمه.
(3) الخدم: السوق.
(*)

ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت الرماة على العسكر حين كشفنا القوم عنه وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ وصارخ: ألا إن محمدا قد قتل.
فانكفأنا وانكفأ القوم علينا، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد منهم.
فحدثني بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبنى أبى طلحة حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل به حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم هل أعزرت.
يعنى: اللهم هل أعذرت.
فقال حسان بن ثابت في ذلك: فخرتم باللواء وشر فخر * لواء حين رد إلى صواب جعلتم فخركم فيه لعبد * وألام من يطا عفر التراب ظننتم والسفيه له ظنون * وما إن ذاك من أمر الصواب بأن جلادنا يوم التقينا * بمكة بيعكم حمر العياب أقر العين أن عصبت يداه * وما إن تعصبان على خضاب وقال حسان أيضا في رفع عمرة بنت علقمة اللواء لهم: إذا عضل سيقت إلينا كأنها * جداية شرك معلمات الحواجب (1) أقمنا لهم طعنا مبيرا منكلا * وحزناهم بالضرب من كل جانب فلولا لواء الحارثية أصبحوا * يباعون في الاسواق بيع الجلائب * * * قال ابن إسحاق: فانكشف المسلمون وأصاب منهم العدو، وكان يوم بلاء
__________
(1) الجداية: الغزال.
وشرك: موضع.
(*)

وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه، فأصيبت رباعيته وشج في وجهه وكلمت شفته، وكان الذى أصابه عتبة بن أبى وقاص.
فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله.
فأنزل الله: " ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ".
قال ابن جرير في تاريخه: حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن الفضل، حدثنا
أسباط، عن السدى، قال أتى ابن قمئة الحارثى فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله، وتفرق عنه أصحابه ودخل بعضهم المدينة وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إلى عباد الله، إلى عباد الله.
فاجتمع إليه ثلاثون رجلا، فجعلوا يسيرون بين يديه فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، فحماه طلحة فرمى بسهم في يده فيبست يده، وأقبل أبى بن خلف الجمحى وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل أنا أقتله.
فقال: يا كذاب أين تفر، فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع فجرح جرحا خفيفا فوقع يخور خوار الثور فاحتملوه، وقالوا: ليس بك جراحة فما يجزعك ؟ قال: أليس قال: لاقتلنك ! لو كانت تجتمع ربيعة ومضر لقتلهم.
فلم يلبث إلا يوما أو بعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولا إلى عبدالله بن أبى فيأخذ لنا أمنة من أبى سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.

فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء.
ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل ! وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه يرميه فقال: أنا رسول الله.
ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
فقال الله عزوجل في الذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية.
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذى كانوا عليه وهمهم أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض ".
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم.
فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر.
وذكر تمام القصة.
وهذا غريب جدا وفيه نكارة.
* * * قال ابن هشام: وزعم ربيح بن عبدالرحمن بن أبى سعيد، عن أبيه، عن أبى سعيد، أن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى، وأن عبدالله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن عبدالله بن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله

عليه وسلم في حفرة من الحفر التى عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون فأخذ على بن أبى طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، ومص مالك بن سنان أبو أبي سعيد الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال: من مس دمه دمى لم تمسسه النار.
قلت: وذكر قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع لشقه أغمى عليه، فمر به سالم مولى أبى حذيفة فأجلسه ومسح الدم عن وجهه، فأفاق وهو يقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله.
فأنزل الله: " ليس لك من الامر شئ " الآية.
رواه ابن جرير وهو مرسل، وسيأتى بسط هذا في فصل وحده.
قلت: كان أول النهار للمسلمين على الكفار، كما قال الله تعالى " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم " الآية.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا عبدالرحمن بن أبى الزناد، عن أبيه، عن عبيدالله، عن ابن عباس، أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد.
قال: فأنكرنا ذلك.
فقال: بينى وبين من أنكر ذلك كتاب الله: إن الله يقول في يوم أحد: " ولقد صدقكم الله وعده إذا تحسونهم بإذنه " يقول ابن عباس: والحس القتل " حتى إذا فشلتم " إلى قوله " ولقد عفا عنكم والله ذو فضل

على المؤمنين " وإنما عنى بهذا الرماة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا.
فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا، فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا، وشبك بين أصابع يديه، والتبسوا.
فلما أخل الرماة تلك الخلة التى كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا، فالتبسوا وقتل من المسلمين ناس
كثير، وقد كان لرسول الله وأصحابه أول النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كانت تحت المهراس.
وصاح الشيطان: قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بتكفيه إذا مشى.
قال: ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا.
قال: فرقى نحونا وهو يقول: اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله.
ويقول مرة أخرى: اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا.
حتى انتهى إلينا.
فمكث ساعة فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعل هبل، اعل هبل، مرتين، يعنى آلهته، أين ابن أبى كبشة ؟ أين ابن أبى قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر بن الخطاب: ألا أجيبه ؟ قال: بلى.
قال: فلما قال: اعل هبل قال: الله أعلى وأجل.
قال أبو سفيان: يابن الخطاب قد أنعمت عينها (1)، فعاد عنها، أو فعال عنها.
__________
(1) يريد الحرب.
وفعال: أمر، أي عال عنها وأقصر عن لومها.
(*)

فقال: أين ابن أبى كبشة أين ابن أبى قحافة، أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر، وهأنذا عمر.
قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الايام دول، وإن الحرب سجال.
قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذن وخسرنا ! ثم قال أبو سفيان: أما أنكم سوف تجدون في قتلاكم مثلة، ولم يكن ذلك عن رأى سراتنا.
قال: ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه.
وقد رواه ابن أبى حاتم والحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل من حديث سليمان
ابن داود الهاشمي به.
وهذا حديث غريب، وهو من مرسلات ابن عباس، وله شواهد من وجوه كثيرة سنذكر منها ما تيسر إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وهو المستعان.
قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء، قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبدالله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.
فقال عبدالله: عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا.
فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم (1).
فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان فقال: أفى القوم محمد ؟ فقال: لا تجيبوه.
__________
(1) صرفت وجوههم: تحيروا فلم يدروا أين يذهبون.
(*)

فقال: أفى القوم ابن أبى قحافة ؟ فقال (1): لا تجيبوه.
فقال: أفى القوم ابن الخطاب ؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لاجابوا.
فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يحزنك.
فقال أبو سفيان: اعل هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه.
قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه.
قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وهذا من أفراد البخاري دون مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا موسى، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، أن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟ قال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة.
__________
(1) القائل هو رسول الله صلوات الله عليه.
(4 السيرة 3) (*)

فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذى يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.
فقال أبو سفيان: أفى القوم محمد ؟ أفى القوم محمد ؟ أفى القوم محمد ؟ ثلاثا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه.
ثم قال: أفى القوم ابن أبى قحافة، أفى القوم ابن أبى قحافة ؟ أفى القوم ابن الخطاب، أفى القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم.
فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لاحياء كلهم، وقد بقى لك ما يسوءك.
فقال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم أخذ يرتجز: اعل هبل اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه ؟ قالوا: يا رسول الله وما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
قال: إن العزى لنا ولا عزى لكم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه ؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول ؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
ورواه البخاري من حديث زهير، وهو ابن معاوية، مختصرا.
وقد تقدم روايته له مطولة من طريق إسرائيل عن أبى إسحاق.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت وعلى بن زيد،

عن أنس بن مالك، أن المشركين لما رهقوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سبعة من الانصار ورجل من قريش، قال: يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ فجاء رجل من الانصار فقاتل حتى قتل.
فلما رهقوه أيضا قال: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة ؟ حتى قتل السبعة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنصفنا أصحابنا.
ورواه مسلم عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البيهقى في الدلائل: بإسناده عن عمارة بن غزية، عن أبى الزبير، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقى معه أحد عشر رجلا من الانصار وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل، فلحقهم المشركون فقال: ألا أحد
لهؤلاء ؟ فقال طلحة: أنا يا رسول الله.
فقال: كما أنت يا طلحة، فقال رجل من الانصار: فأنا يا رسول الله.
فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقى معه، ثم قتل الانصاري فلحقوه، فقال: ألا رجل لهؤلاء ؟ فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله.
فقال رجل من الانصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل وأصحابه يصعدون، ثم قتل فلحقوه.
فلم يزل يقول مثل قوله الاول ويقول طلحة: أنا يا رسول الله.
فيحبسه، فيستأذنه رجل من الانصار للقتال فيأذن له فيقاتل مثل من كان قبله.
حتى لم يبق معه إلا طلحة، فغشوهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهؤلاء ؟ فقال طلحة: أنا.
فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله، وأصيبت أنامله فقال: حس، فقال: لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء.
ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون.
وروى البخاري عن عبدالله بن أبى شيبة، عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس بن

أبى حازم، قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
وفى الصحيحين من حديث موسى بن إسماعيل، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبى عثمان النهدي قال: لم يبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الايام التى يقاتل فيهن غير طلحة وسعد عن حديثهما.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم السعدى، سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبى وقاص يقول: نثل لى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: ارم فداك أبى وأمى.
وأخرجه البخاري، عن عبدالله بن محمد، عن مروان به.
وفى صحيح البخاري من حديث عبدالله بن شداد، عن على بن أبى طالب قال:
ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لاحد إلا لسعد بن مالك، فإنى سمعته يقول يوم أحد: يا سعد ارم فداك أبى وأمى.
قال محمد بن إسحاق: حدثنى صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبى وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سعد: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: ارم فداك أبى وأمى ! حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمى به.
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن سعد ابن أبى وقاص قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك ولا بعده.
يعنى جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وقال أحمد: حدثنا عفان، أخبرنا ثابت، عن أنس، أن أبا طلحة كان يرمى بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والنبى صلى الله عليه وسلم خلفه يترس به، وكان

راميا، وكان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول: هكذا، بأبى أنت وأمى يارسول الله لا يصيبك سهم، نحرى دون نحرك.
وكان أبو طلحة يسور نفسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إنى جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك ومرني بما شئت.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر (1)، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز (2)، عن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة (3) له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول (4): انثرها لابي طلحة.
قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبى أنت وأمى لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحرى دون نحرك.
ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان (5) القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم.
ولقد وقع السيف من يدى أبى طلحة إما مرتين وإما ثلاثا.
قال البخاري: وقال لى خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبى طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفى من يدى مرارا، يسقط وآخذه ويسقط وآخذه.
هكذا ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم، ويشهد له قوله تعالى " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق
__________
(1) هو عبدالله بن عمرو العقدى.
(2) هو عبد العزيز بن صهيب.
(3) مجوب: مترس عليه يحميه.
والحجفة: ترس من جلد.
(4) القائل هو النبي صلوات الله وسلامه عليه (5) خدم سوقهما: خلاخيلهما.
قال القسطلانى: وذلك محمول على نظر الفجأة.
وتنقزان: تثبان وتفرغان القرب.
(*)

ظن الجاهلية يقولون: هل لنا من الامر من شئ، قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك، يقولون: لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ها هنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور.
إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ".
قال البخاري: حدثنا عبدان (1) أخبرنا أبو حمزة، عن عثمان بن موهب، قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القعود ؟ قال: هؤلاء قريش قال: من الشيخ ؟ قالوا: ابن عمر.
فأتاه فقال: إنى سائلك عن شئ أتحدثني ؟ قال: أنشدك
بحرمة هذا البيت: أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال: نعم.
قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال: نعم.
قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال: نعم.
قال: فكبر (2).
قال ابن عمر: تعال لاخبرك ولا بين لك عما سألتنى عنه.
أما فراره يوم أحد: فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه.
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان: فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان.
فضرب بها على يده.
فقال: هذه لعثمان.
__________
(1) عبدان: لقب عبدالله بن عثمان المروزى.
(2) كبر: مستحسنا لما أجابه ابن عمر، لمطابقته لما يعتقده في عثمان رضى الله عنه.
(*)

اذهب بهذا (1) الآن معك.
وقد رواه البخاري أيضا في موضع آخر، والترمذي من حدث أبى عوانة، عن عثمان بن عبدالله بن موهب به.
وقال الاموى في مغازيه، عن ابن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد، عن أبيه، عن جده سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وقد كان الناس انهزموا عنه حتى بلغ بعضهم إلى المنقى دون الاعوص، وفر عثمان بن عفان وسعد بن عثمان رجل من الانصار حتى بلغوا الجلعب، جبل بناحية المدينة مما يلى الاعوص، فأقاموا ثلاثا ثم رجعوا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة.
* * * والمقصود أن أحدا وقع فيها أشياء مما وقع في بدر، منها: حصول النعاس حال التحام الحرب، وهذا دليل على طمأنينة القلوب بنصر الله وتأييده وتمام توكلها على خالقها وبارئها.
وقد تقدم الكلام على قوله تعالى في غزوة بدر: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " الآية وقال هاهنا: " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم " يعنى المؤمنين الكمل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: النعاس في الحرب من الايمان، والنعاس في الصلاة من النفاق.
ولهذا قال بعد هذا: " وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " الآية.
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنصر يوم أحد كما استنصر يوم بدر بقوله: " إن تشأ لا تعبد في الارض ".
كما قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد وعفان قالا: حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد: " اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الارض ".
__________
(1) يريد: اذهب بهذه الاجوبة التى أجبتك بها.
(*)

ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن عبد الصمد، عن حماد بن سلمة به.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبدالله قال: قال رجل للنبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل ".
ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به.
وهذا شبيه بقصة عمير بن الحمام التى تقدمت في غزوة بدر رضى الله عنهما وأرضاهما.

فصل فيما لقى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ من المشركين قبحهم الله قال البخاري: ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد.
حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، عن همام بن منبه، سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ".
ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق، حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا يحيى بن سعيد الاموى، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: " اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه وهو يقول: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته، وهو يدعو إلى الله " فأنزل الله: " ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ".
ورواه مسلم عن القعنبى، عن حماد بن سلمة به.
ورواه الامام أحمد، عن هشيم ويزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم " فأنزل الله تعالى: " ليس لك من الامر شئ ".

وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب، عن أبى حازم، أنه سمع سهل بن
سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله إنى لاعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووى، قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله وعلى يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه.
* * * وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن المبارك، عن إسحاق، عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، أخبرني عيسى بن طلحة، عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان أبو بكر إذ ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة ! ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل في سبيل الله دونه، وأراه قال: حمية، قال: فقلت: كن طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلا من قومي أحب إلى، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشى خطفا لا أخطفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليكما صاحبكما " يريد طلحة.
وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله.
قال: وذهبت لانزع ذاك من وجهه، فقال: أقسم عليك بحقى لما تركتني، فتركته فكره تناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه، فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لاصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقى لما تركتني.
قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الاولى، فوقعت ثنيته الاخرى مع الحلقة،

فكان أبو عبيدة رضى الله عنه من أحسن الناس هتما !
فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه.
* * * وذكر الواقدي عن ابن أبى سبرة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبى فروة، عن أبى الحويرث، عن نافع بن جبير، قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول: شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتى من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه، ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد، فجاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع، خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه.
قال الواقدي: ثبت عندي أن الذى رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قمئة، والذى رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبى وقاص.
وقد تقدم عن ابن إسحاق نحو هذا، وأن الرباعية التى كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبى وقاص، قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبى وقاص، وإن كان ما علمت لسيئ الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفانى فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله ".
وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عثمان الحروري، عن مقسم،

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبى وقاص حين كسر رباعيته ودمى
وجهه فقال: " اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا ".
فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.
وقال أبو سليمان الجوزجانى: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنى إبراهيم بن محمد، حدثنى ابن عبدالله بن محمد بن أبى بكر بن حرب، عن أبيه، عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بال.
هذا حديث غريب رأيته في أثناء كتاب المغازى للاموي في وقعة أحد.
* * * ولما نال عبدالله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نال، رجع وهو يقول: قتلت محمدا.
وصرخ الشيطان أزب العقبة يومئذ بأبعد صوت: ألا إن محمدا قد قتل.
فحصل بهتة عظيمة في المسلمين، واعتقد كثير من الناس ذلك، وصمموا على القتال عن حوزة الاسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أنس بن النضر وغيره ممن سيأتي ذكره.
وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه، فقال تعالى: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين.
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا، ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاكرين.
وكأى من نبى قاتل معه ربيون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين.
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا

وانصرنا على القوم الكافرين.
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله
يحب المحسنين.
يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.
بل الله مولاكم وهو خير الناصرين.
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين " (1).
وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في كتابنا التفسير ولله الحمد.
وقد خطب الصديق رضى الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، ثم تلا هذه الآية: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " الآية.
قال: فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد إلا يتلوها.
وروى البيهقى في دلائل النبوة من طريق ابن أبى نجيح، عن أبيه قال: مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الانصار وهو يتشحط في دمه.
فقال له: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل، فقال الانصاري: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم ! فنزل: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية.
ولعل هذا الانصاري هو أنس بن النضر رضى الله عنه، وهو عم أنس بن مالك.
قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس، أن عمه غاب عن قتال بدر، فقال غبت عن أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرين ما أصنع.
فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إنى أعتذر إليك عما صنع
__________
(1) سورة آل عمران.
(*)

هؤلاء، يعنى أصحابه، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المشركين، ثم تقدم
فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد: أنا معك.
قال سعد: فلم أستطع أصنع ما صنع.
فوجد فيه بضع وثمانون، من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم.
قال: فكنا نقول: فيه وفى أصحابه نزلت: " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ".
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، والنسائي عن إسحاق بن راهويه، كلاهما عن يزيد بن هارون به.
وقال الترمذي: حسن.
قلت: بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا بهز، وحدثنا هاشم، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: قال أنس: عمى.
قال هاشم: أنس بن النضر.
سميت به، ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
قال: فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، ولئن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع.
قال: فهاب أن يقول غيرها.
فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، قال: فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو أين ؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد.
قال: فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية.
قال: فقالت أخته عمتى الربيع بنت النضر: فما عرفت أخى إلا ببنانه.
ونزلت هذه الآية: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا ".
قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه.

ورواه مسلم، عن محمد بن حاتم، عن بهز بن أسد.
ورواه الترمذي والنسائي من
حديث عبدالله بن المبارك.
وزاد النسائي، وأبو داود وحماد بن سلمة، أربعتهم عن سليمان بن المغيرة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أبو الأسود، عن عروة بن الزبير قال: كان أبى بن خلف أخو بنى جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
فلما كان يوم أحد أقبل أبى في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد.
فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بنى عبد الدار يقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبى بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها بالحربة فوقع إلى الارض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم.
فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أجزعك ! إنما هو خدش.
فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتل أبيا، ثم قال: والذى نفسي بيده، لو كان هذا الذى بى بأهل ذى المجاز لماتوا أجمعون.
فمات إلى النار، فسحقا لاصحاب السعير ! وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب نحوه.
وقال ابن إسحاق: لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبى ابن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت.
فقال القوم: يا رسول الله يعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه.

فلما دنا منه: تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة،
فقال بعض القوم، كما ذكر لى، فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
وذكر الواقدي عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر ابن قتادة، عن عبدالله بن كعب بن مالك، عن أبيه.
نحو ذلك.
قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لاسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تأججت، فهبتها وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش، فإذا رجل يقول: لا تسقه، فإنه قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبى بن خلف.
وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ".
ورواه البخاري، من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: " اشتد غضب الله على من قتله رسول لله بيده في سبيل الله ".
* * * وقال البخاري: وقال أبو الوليد، عن شعبة، عن ابن المنكدر، سمعت جابرا قال: لما قتل أبى جعلت أبكى وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهونني والنبى صلى الله عليه وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تبكه أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ".

هكذا ذكر هذا الحديث هاهنا معلقا، وقد أسنده في الجنائز عن بندار عن غندر، عن شعبة.
ورواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به.
وقال البخاري: حدثنا عبدان، أخبرنا عبدالله بن المبارك، عن شعبة، عن سعد ابن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم، أن عبدالرحمن بن عوف أتى بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير منى، كفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاء، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة هو خير منى، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا.
وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
ثم جعل يبكى حتى برد الطعام.
انفرد به البخاري.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا الاعمش، عن شقيق، عن خباب بن الارت، قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نبتغى وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئا، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة (1)، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطى بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الاذخر.
ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها (2).
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن الاعمش به.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون، فصرخ إبليس لعنة الله
__________
(1) النمرة: بردة من صوف.
(2) يهدبها: يجتنيها.
(5 - السيرة - 3) (*)

عليه: أي عباد الله (1) أخراكم.
فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبى أبى ! قال: قالت: فوالله ما احتجزوا حتى
قتلوه.
فقال حذيفة: يغفر الله لكم.
قال عروة: فوالله ما زال في حذيفة بقية خير (2) حتى لقى الله عزوجل.
قلت: كان سبب ذلك أن اليمان وثابت بن وقش كانا في الآطام مع النساء لكبرهما وضعفهما، فقالا: إنه لم يبق من آجالنا إلاظمء (3) حمار.
فنزلا ليحضرا الحرب فجاء طريقهما ناحية المشركين، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ.
وتصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين، ولم يعاتب أحدا منهم، لظهور العذر في ذلك.
* * * فصل قال ابن إسحاق: وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى سقطت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وفى الحديث عن جابر بن عبدالله، أن قتادة بن النعمان أصيبت عينه يوم أحد حتى سالت على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها، فكانت أحسن عينيه وأحدهما، وكانت لا ترمد إذا رمدت الاخرى.
وروى الدارقطني بإسناد غريب، عن مالك، عن محمد بن عبدالله بن أبى صعصعة، عن أبيه، عن أبى سعيد، عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناى يوم أحد فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان.
__________
(1) يريد المسلمين، أي احترزوا من الذين وراءكم متأخرين عنكم، ليقتل بعض المسلمين بعضا.
(2) وقيل: بقية حزن.
القسطلانى 6 / 300 (3) الظمء: ما بين الشربتين والوردين، والمراد: ما بقى إلا يسير، لانه ليس شئ أقصر ظمأ منه.
(*)

والمشهور الاول، أنه أصيبت عينه الواحدة، ولهذا لما وفد ولده على عمر بن
عبد العزيز قال له: من أنت ؟ فقال له مرتجلا: أنا ابن الذى سالت على الخد عينه * فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لاول أمرها * فيا حسنها عينا ويا حسن ما خد فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:.
تلك المكارم لاقعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ! ثم وصله فأحسن جائزته رضى الله عنه.
* * * فصل قال ابن هشام: وقاتلت أم عمارة نسيبة (1) بنت كعب المازنية يوم أحد.
فذكر سعيد بن أبى زيد الانصاري، أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: دخلت على أم عمارة فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك.
فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس، حتى خلصت الجراح إلى.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا ؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا.
فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت
__________
(1) نسيبة، بفتح النون وكسر السين المهملة، كما ضبطها في الاكمال والتبصير والاصابة وغيرهم، وصبطها بالتصغير وهم، إنما هذا في نسيبة أم عطية، فنقله في أم عمارة غلط.
انظر شرح المواهب 2 / 41.
(*)

مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات،
ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
قال ابن إسحاق: وترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه، حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده.
قال ابن إسحاق: وحدثني القاسم بن عبدالرحمن بن رافع، أخو بنى عدى بن النجار، قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدالله، في رجال من المهاجرين والانصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال: فما يجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم استقبل فقاتل حتى قتل، وبه سمى أنس بن مالك.
فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن عبدالرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.
* * * فصل قال ابن إسحاق: وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر لى الزهري، كعب بن مالك

قال: رأيت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن أنصت.
قال ابن إسحاق: فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين، فلما أسند (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبى بن خلف، فذكر قتله عليه السلام أبيا كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وكان أبى بن خلف، كما حدثنى صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن ابن عوف يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العوذ، فرسا، أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه.
فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله.
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم، فقال: قتلني والله محمد.
فقالوا له: ذهب والله فؤادك ! والله إن بك بأس.
قال: إنه قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك.
فوالله لو بصق على لقتلني ! فمات عدو الله بسرف (2)، وهم قافلون به إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك: لقد ورث الضلالة عن أبيه * أبى يوم بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم * وتوعده وأنت به جهول وقد قتلت بنو النجار منكم * أمية إذ يغوث: يا عقيل
__________
(1) أسند: صعد.
أي استند إلى جانب من الجبل.
(2) سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
(*)

وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا * أبا جهل لامهما الهبول وأفلت حارث لما شغلنا * بأسر القوم، أسرته فليل
وقال حسان بن ثابت أيضا: ألا من مبلغ عنى أبيا * فقد (1) ألقيت في سحق السعير تمنى بالضلالة من بعيد * وتقسم أن قدرت مع النذور تمنيك الامانى من بعيد * وقول الكفر يرجع في غرور فقد لاقتك طعنة ذى حفاظ * كريم البيت ليس بذى فجور له فضل على الاحياء طرا * إذا نابت ملمات الامور * * * قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج على ابن أبى طالب حتى ملا درقته ماء من المهراس (2)، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول: " اشتد غضب الله على من دمى وجه نبيه ".
وقد تقدم شواهد ذلك من الاحاديث الصحيحة بما فيه الكفاية.
قال ابن إسحاق: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذ علت عالية من قريش الجبل.
قال ابن هشام: فيهم خالد بن الوليد.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه لا ينبغى لهم أن يعلونا.
فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض
__________
(1) ابن هشام: لقد.
(2) الدرقة: الحجفة، وهى ترس من جلد، والمهراس: ماء بأحد.
(*)

النبي صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها وقد كان بدن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر بين درعين، فلما ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن
عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها.
فحدثني يحيى بن عباد، بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير، عن الزبير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: " أوجب طلحة (2) " حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ما صنع.
قال ابن هشام: وذكر عمر مولى عفرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم أحد قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أ ؟ ؟ لا يدرى من هو يقال له قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر: " إنه لمن أهل النار ".
قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا، فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس، فأثبنته الجراحة، فاحتمل إلى دار بنى ظفر.
قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر.
قال: بماذا أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت ! قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه.
وقد ورد مثل قصة هذا في غزوة خيبر.
كما سيأتي إن شاء الله.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن المسيب، عن أبى هريرة، قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل
__________
(1) بدن: ثقل من السن.
(2) يعنى: أحدث شيئا يستوجب به الجنة.
(*)

ممن يدعى الاسلام: " هذا من أهل النار ".
فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله
الرجل الذى قلت إنه من أهل النار.
قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إلى النار ".
فكاد بعض القوم يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " الله أكبر، أشهد أنى عبد الله ورسوله ".
ثم أمر بلالا فنادى في الناس: " إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ! ".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
* * * قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق، وكان أحد بنى ثعلبة بن الفطيون فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق.
قالوا: إن اليوم يوم السبت.
قال: لا سبت لكم.
فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالى لمحمد يصنع فيه ما شاء.
ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا: " مخيريق خير يهود ".
قال السهيلي: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق، وكانت سبع حوائط، أوقافا بالمدينة لله.

قال محمد بن كعب القرظى: وكانت أول وقف بالمدينة.
وقال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ، عن أبى سفيان مولى ابن أبى أحمد، عن أبى هريرة، أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل
الجنة لم يصل قط.
فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو ؟ فيقول: أصيرم بنى عبد الاشهل، عمرو بن ثابت بن وقش.
قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد: كيف كان شأن الاصيرم ؟ قال: كان يأبى الاسلام على قومه، فلما كان يوم أحد بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة.
قال: فبينما رجال من بنى عبد الاشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للاصيرم ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث.
فسألوه فقالوا: [ ما جاء بك يا عمرو ] (1) أحدب على قومك أم رغبة في الاسلام ؟ فقال: بل رغبة في الاسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفى وغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني.
فلم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنه من أهل الجنة ".
قال ابن إسحاق: وحدثني أبى، عن أشياخ من بنى سلمة، قالوا: كان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الاسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا: إن الله قد عذرك.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن بنى يريدون أن يحبسونى عن هذا
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

الوجه والخروج معك فيه، فوالله إنى لارجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك " وقال لبنيه: " ما عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة ".
فخرج معه فقتل يوم أحد رضى الله عنه.
* * * قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة - كما حدثنى صالح بن كيسان - والنسوة اللائى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد عن الآذان والانوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما (1) وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا.
وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.
وذكر موسى بن عقبة أن الذى بقر عن كبد حمزة وحشى، فحملها إلى هند فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها.
فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت: نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر (2) ما كان لى عن عتبة من صبر * ولا أخى وعمه وبكر شفيت نفسي وقضيت نذري * شفيت وحشى غليل صدري فشكر وحشى على عمرى * حتى ترم أعظمي في قبري قال: فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت: خزيت في بدر وبعد بدر * يا بنت وقاع عظيم الكفر صبحك الله غداة الفجر * م الهاشميين الطوال الزهر
__________
(1) الخدم: الخلاخيل.
(2) السعر بضمتين: الشدة والقرم.
(*)

بكل قطاع حسام يفرى * حمزة ليثى وعلى صقري إذ رام شيب وأبوك غدري * فخضبا منه ضواحي النحر ونذرك السوء فشر نذر
قال ابن إسحاق: وكان الحليس بن زيان أخو بنى الحارث بن عبد مناة - وهو يومئذ سيد الاحابيش - مر بأبى سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبدالمطلب بزج الرمح ويقول: ذق عقق ! فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما ! فقال: ويحك اكتمها عنى فإنها كانت زلة.
* * * قال ابن إسحاق: ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت (1) [ فعال ] (2) إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل أي ظهر دينك (3).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " قم يا عمر فأجبه فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ".
فقال له أبو سفيان: هلم إلى يا عمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: ائته فانظر ما شأنه.
فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدا ؟ فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن.
قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر.
__________
(1) أنعمت: بفتح التاء: خطاب لنفسه.
وبسكونها يريد: الحرب أو الواقعة أو الازلام: " أجابت بنعم " (2) من ابن هشام.
وفعال: اسم للفعل الحسن.
وقال السهيلي: فعال: أمر، أي عال عنها وأقصر عن لومها، تقول العرب: اعل عنى وعال، بمعنى ارتفع عنى ودعني.
(3) ابن هشام: أي: أظهر دينك.
(*)

قال ابن إسحاق: ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مثل (1) والله ما رضيت وما سخطت، وما نهيت ولا أمرت.
قال: ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبى طالب فقال: اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الابل فهم يريدون المدينة.
والذى نفسي بيده إن أرادوها لاسيرن إليهم فيها ثم لاناجزنهم.
قال على: فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الابل ووجهوا إلى مكة.
*
__________
(1) المثل: كالمثلة، التنكيل بالقتلى.
(*)

ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوقعة يوم أحد قال الامام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزارى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكى، عن ابن رفاعة الزرقى، عن أبيه، قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استووا حتى أثنى على ربى عزوجل، فصاروا خلفه صفوفا فقال: " اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إنى أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إنى أسألك النعيم يوم العيلة والامن يوم الخوف.
اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك.
اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق ".
ورواه النسائي في اليوم والليلة، عن زياد بن أيوب، عن مروان بن معاوية، عن عبد الواحد بن أيمن، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه به.

فصل قال ابن إسحاق: وفرغ الناس لقتلاهم، فحدثني محمد بن عبدالله بن عبدالرحمن ابن أبى صعصعة المازنى، أخو بنى النجار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رجل ينظر لى ما فعل سعد بن الربيع أفى الاحياء هو أم في الاموات ؟ فقال رجل من الانصار: أنا.
فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، قال: فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أنظر أفى الاحياء أنت أم في الاموات.
فقال: أنا في الاموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامى وقل له: إن سعد ابن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته.
وأبلغ قومك عنى السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ! قال: ثم لم أبرح حتى مات وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.
قلت: كان الرجل الذى التمس سعدا في القتلى محمد بن سلمة، فيما ذكره محمد بن عمر الواقدي.
وذكر أنه ناداه مرتين فلم يجبه، فلما قال: إن رسول الله أمرنى أن أنظر
خبرك.
أجابه بصوت ضعيف وذكره.
وقال الشيخ أبو عمر في الاستيعاب: كان الرجل الذى التمس سعدا أبى بن كعب.
فالله أعلم.
وكان سعد بن الربيع من النقباء ليلة العقبة رضى الله عنه، وهو الذى آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبدالرحمن بن عوف.
* * *

قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبدالمطلب، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى ما رأى: " لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدى، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لامثلن بثلاثين رجلا منهم ".
فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
قال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان بن فروة الاسلمي، عن محمد بن كعب، وحدثني من لا أتهم عن ابن عباس، أن الله أنزل في ذلك: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " الآية.
قال: فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.
قلت: هذه الآية مكية، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين، فكيف يلتئم هذا ؟ ! فالله أعلم.
قال: وحدثني حميد الطويل، عن الحسن، عن سمرة، قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه حتى يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة.
وقال ابن هشام: ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة قال: " لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت قط موقفا أغيظ إلى من هذا ! ".
ثم قال: " جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة مكتوب في السماوات السبع: " حمزة ابن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ".

قال ابن هشام: وكان حمزة وأبو سلمة بن عبد الاسد أخوى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتهم ثلاثتهم ثويبة مولاة أبى لهب.
ذكر الصلاة على حمزة وقتلى أحد وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببردة ثم صلى عليه، فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة ".
وهذا غريب وسنده ضعيف.
قال السهيلي: ولم يقل به أحد من علماء الامصار.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب، عن الشعبى، عن ابن مسعود، قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أن ليس أحد منا يريد الدنيا حتى أنزل الله: " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم.
".
فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في تسعة: سبعة من الانصار واثنين من قريش وهو عاشرهم، فلما رهقوه قال: رحم الله رجلا ردهم عنا.
فلم يزل يقول ذا حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا.
فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقالوا: الله أعلى وأجل.

فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون.
قال أبو سفيان: قد كانت في القوم مثلة وإن كانت لعن غير ملامنا، ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءنى ولا سرنى.
قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأكلت شيئا ؟ قالوا: لا.
قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار.
قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه وجئ برجل من الانصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه، فرفع الانصاري وترك حمزة.
وجئ بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة.
حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة ".
تفرد به أحمد، وهذا إسناد فيه ضعف أيضا من جهة عطاء بن السائب.
فالله أعلم.
والذى رواه البخاري أثبت حيث قال: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أن جابر بن عبدالله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة.
وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا.
(6 - السيرة - 3)

تفرد به البخاري دون مسلم.
ورواه أهل السنن من حديث الليث بن سعد به.
وقال أحمد: حدثنا محمد، يعنى ابن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت عبد ربه يحدث عن الزهري، عن ابن جابر، عن جابر ابن عبدالله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد: فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة.
ولم يصل عليهم.
وثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك بسنين عديدة قبل وفاته بيسير.
كما قال البخاري: حدثنا محمد بن عبدالرحيم، حدثنا زكريا بن عدى، أخبرنا [ ابن (1) ] المبارك، عن حيوة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير، عن عقبة بن عامر، قال: صلى (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمانى سنين كالمودع للاحياء والاموات، ثم طلع المنبر فقال: " إنى بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإنى لانظر إليه من مقامي هذا، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها.
قال: فكان آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث يزيد ابن أبى حبيب به نحوه.
وقال الاموى: حدثنى أبى، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبى ثابت، قال: قالت عائشة: خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد نستطلع الخبر، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا حمل (3)
__________
(1) ابن المبارك هو عبدالله.
وقد سقطت من الاصل.
وأثبتها من صحيح البخاري في غزوة أحد.
(2) قال القسطلاني: المراد أنه دعا لهم بدعاء صلاة الميت، والاجماع يدل له، لانه لا يصلى عليه - أي القبر - عند الشافعية، وعند أبى حنيفة المخالف: لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام.
إرشاد السارى 6 / 291.
(3) نسبه في تاج العروس 7 / 290 لحمل بن سعدانة الصحابي.
وعجزه: " ما أحسن الموت إذا حان الاجل " وروايته في اللسان 13 / 193: " ضح قليلا يدرك.." وقال: " يعنى به حمل بن بدر ".
(*)

قال: فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذا بعير قد أقبل، عليه امرأة بين وسقين.
قالت: فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو بن الجموح، فقلنا لها: ما الخبر ؟ قالت: دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ من المؤمنين شهداء " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا ".
ثم قالت لبعيرها: حل.
ثم نزلت، فقلنا لها: ما هذا ؟ قالت: أخى وزوجي.
وقال ابن إسحاق: وقد أقبلت صفية بنت عبدالمطلب لتنظر إليه، وكان أخاها لابيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فارجعها لا ترى ما بأخيها.
فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي.
قالت: ولم، وقد بلغني أنه مثل بأخى وذلك في الله، فما أرضانا ما كان من ذلك، لاحتسبن ولاصبرن إن شاء الله.
فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت.
قال ابن إسحاق: ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن، ودفن معه ابن أخته عبدالله بن جحش وأمه أميمة بنت عبدالمطلب، وكان قد مثل به غير أنه لم ينقر عن كبده.
رضى الله عنهما.
قال السهيلي: وكان يقال له المجدع في الله.
قال: وذكر سعد أنه هو و عبدالله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيبت لهما، فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين فيقتله ويستلبه، فكان ذلك.
ودعا عبدالله بن جحش أن يلقاه فارس فيقتله ويجدع أنفه في الله، فكان ذلك.

وذكر الزبير بن بكار أن سيفه يومئذ انقطع، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فصار في يد عبدالله بن جحش سيفا يقاتل به، ثم بيع في تركة بعض ولده بمائتي دينار.
وهذا كما تقدم لعكاشة في يوم بدر.
* * * وقد تقدم في صحيح البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، بل في الكفن الواحد.
وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التى يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد.
ويقدم في اللحد أكثرهما أخذا للقرآن.
وكان يجمع بين الرجلين المتصاحبين في اللحد الواحد، كما جمع بين عبدالله بن عمرو بن حرام والد جابر، وبين عمرو بن الجموح، لانهما كانا متصاحبين.
ولم يغسلوا بل تركهم بجراحهم ودمائهم.
كما روى ابن إسحاق عن الزهري، عن عبدالله بن ثعلبة بن صعير (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن القتلى يوم أحد قال: " أنا شهيد على هؤلاء، أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون دم والريح ريح مسك ".
قال: وحدثني عمى موسى بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " ما من جريج يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة وجرحه يدمى، اللون لون الدم والريح ريح المسك ".
__________
(1) من بنى عذرة حليف بنى زهرة، له رؤبة ولم يثبت له سماع، مات سنة تسع وثمانين وقد قارب التسعين.
(*)

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا على بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالشهداء أن ينزع عنهم الحديد والجلود وقال: " ادفنوهم بدمائهم وثيابهم ".
رواه أبو داود وابن ماجه من حديث على بن عاصم به.
وقال الامام أبو داود في سننه: حدثنا القعنبى، أن سليمان بن المغيرة حدثهم، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر، أنه قال: جاءت الانصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا: قد أصابنا قرح وجهد فكيف تأمر ؟ فقال: " احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في القبر الواحد ".
قيل: يا رسول الله فأيهم يقدم ؟ قال: أكثرهم قرآنا.
ثم رواه من حديث الثوري، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن هشام بن عامر.
فذكره.
وزاد: وأعمقوا.
قال ابن إسحاق: وقد احتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: " ادفنوهم حيث صرعوا ".
وقد قال الامام أحمد: حدثنا على بن إسحاق، حدثنا عبدالله وعتاب، حدثنا عبد الله، حدثنا عمر بن سلمة بن أبى يزيد المدينى، حدثنى أبى، سمعت جابر بن عبد الله يقول: استشهد أبى بأحد، فأرسلني أخواتي إليه بناضح لهن، فقلن: اذهب فاحتمل أباك على هذا الجمل فادفنه في مقبرة بنى سلمة.
فقال: فجئته وأعوان لى، فبلغ ذلك نبى الله وهو جالس بأحد، فدعاني فقال: " والذى نفسي بيده لا يدفن إلا مع إخوته ".

فدفن مع أصحابه بأحد.
تفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الاسود بن قيس، عن نبيح، عن جابر بن عبدالله، أن قتلى أحد حملوا من مكانهم، فنادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم: أن ردوا القتلى إلى مضاجعهم.
وقد رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري، والترمذي، من حديث شعبة والنسائي أيضا، وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، كلهم عن الاسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين يقاتلهم وقال لى أبى عبدالله: يا جابر لا عليك أن تكون في نظارى أهل المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإنى والله لولا أنى أترك بنات لى بعدى لاحببت أن تقتل بين يدى.
قال: فبينا أنا في النظارين إذ جاءت عمتى بأبى وخالى عادلتهما على ناضح، فدخلت
بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادى: ألا إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت.
فرجعنا بهما فدفناهما حيث قتلا.
فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبى سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبدالله، والله لقد أثار أباك عمال معاوية فبدا، فخرج طائفة منه.
فأتيته فوجدته على النحو الذى دفنته لم يتغير، إلا ما لم يدع القتل أو القتيل.
ثم ساق الامام قصة وفائه دين أبيه، كما هو ثابت في الصحيحين.
وروى البيهقى من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين سنة استصرخنا إليهم،

فأتيناهم فأخرجناهم، فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما ! وفى رواية ابن إسحاق عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالامس.
وذكر الواقدي أن معاوية لما أراد أن يجرى العين نادى مناديه: من كان له قتيل بأحد فليشهد.
قال جابر: فحفرنا عنهم فوجدت أبى في قبره كأنما هو نائم على هيئته ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه، فأزيلت عنه فانبعث جرحه دما ! ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك رضى الله عنهم أجمعين.
وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا.
* * * وقد قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا حسين المعلم، عن عطاء، عن جابر قال: لما حضر أحد دعاني أبى من الليل فقال لى: ما أرانى إلا مقتولا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنى لا أترك بعدى أعز على منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن على دينا فاقض واستوص
بأخواتك خيرا.
فأصبحنا، وكان أول قتيل، فدفنت معه آخر في قبره، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع آخر فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هيئة غير أذنه.
وثبت في الصحيحين من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، أنه لما قتل أبوه جعل يكشف عنه الثوب ويبكى، فنهاه الناس فقال رسول الله: " تبكيه أو لا تبكيه، لم تزل الملائكة تظله حتى رفعتموه ".
وفى رواية أن عمته هي الباكية.
وقال البيهقى: حدثنا أبو عبدالله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضى، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا فيض بن وثيق البصري،

حدثنا أبو عبادة الانصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر: " يا جابر ألا أبشرك ؟ قال: بلى، بشرك الله بالخير.
فقال: " أشعرت أن الله أحيا أباك فقال: تمن على عبدى ما شئت أعطكه.
قال: يا رب عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى.
قال: إنه سلف منى أنه إليها لا يرجع ".
وقال البيهقى: حدثنا أبو الحسن محمد بن أبى المعروف الاسفرايينى، حدثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدثنا أحمد بن الحسين بن نصر، حدثنا على بن المدينى، حدثنا موسى ابن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الانصاري، قال: سمعت طلحة بن خراش بن عبدالرحمن بن خراش بن الصمة الانصاري ثم السلمى، قال: سمعت جابر بن عبدالله قال: نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال.
" مالى أراك ميتما ؟ قال: قلت: يا رسول الله قتل أبى وترك دينا وعيالا، فقال: ألا أخبرك ؟ ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا وقال له: يا عبدى سلنى أعطك.
فقال: أسألك أن
تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه سبق منى القول: أنهم إليها لا يرجعون.
قال: يا رب فأبلغ من ورائي.
فأنزل الله " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (1) " الآية.
وقال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبدالله بن محمد بن عقيل، سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أبشرك يا جابر ؟ قلت: بلى، قال: إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبدالله، ما تحب أن أفعل بك ؟ قال: أي رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ".
وقد رواه أحمد عن على بن المدينى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن على بن
__________
(1) سورة آل عمران آية 169.
(*)

ربيعة السلمى، عن ابن عقيل، عن جابر، وزاد: فقال الله: إنى قضيت أنهم إليها لا يرجعون.
وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر، عن عبدالله عن جابر بن عبدالله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، إذا ذكر أصحاب أحد: " أما والله لوددت أنى غودرت مع أصحابه بحضن الجبل " يعنى سفح الجبل.
تفرد به أحمد.
وقد روى البيهقى من حديث عبدالاعلى بن عبدالله بن أبى فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه فدعا له ثم قرأ: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " الآية قال: " أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم، والذى نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إن
يوم القيامة إلا ردوا عليه ".
وهذا حديث غريب.
وروى عن عبيد بن عمير مرسلا.
* * * وروى البيهقى من حديث موسى بن يعقوب، عن عباد بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء، فإذا أتى فرضة الشعب قال: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ثم كان أبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وكان عمر بعد أبى بكر يفعله، وكان عثمان بعد عمر يفعله.

قال الواقدي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورهم كل حول، فإذا بلغ نقرة الشعب يقول: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ثم كان أبو بكر يفعل ذلك كل حول، ثم عمر ثم عثمان، وكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتيهم فتبكى عندهم وتدعو لهم، وكأن سعد يسلم ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم.
ثم حكى زيارتهم عن أبى سعيد، وأبى هريرة، و عبدالله بن عمر، وأم سلمة رضى الله الله عنهم.
وقال ابن أبى الدنيا: حدثنى إبراهيم، حدثنى الحكم بن نافع، حدثنا العطاف بن خالد، حدثتني خالتي قالت: ركبت يوما إلى قبور الشهداء - وكانت لا تزال تأتيهم - فنزلت عند حمزة فصليت ما شاء الله أن أصلى، وما في الوادي داع ولا مجيب، إلا غلاما قائما آخذا برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قلت هكذا بيدى: " السلام عليكم " قالت: فسمعت رد السلام على يخرج من تحت الارض، أعرفه كما أعرف أن الله عزوجل
خلقني، وكما أعرف الليل والنهار، فاقشعرت كل شعرة منى ! وقال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبى الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا على الحرب ولا يزهدوا في الجهاد ؟ فقال الله عزوجل: أنا أبلغهم عنكم.
فأنزل الله في الكتاب قوله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ".

وروى مسلم والبيهقي من حديث أبى معاوية، عن الاعمش، عن عبدالله بن مرة، عن مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآية: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ".
فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في أيها شاءت، ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش، قال: فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك اطلاعة، فقال: اسألوني ما شئتم.
فقالوا: يا ربنا وما نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا.
ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أن لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا نقتل في سبيلك مرة أخرى.
قال: فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا.
فصل في عدد الشهداء قال موسى بن عقبة: جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والانصار تسعة
وأربعون رجلا.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء، أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلا.
فالله أعلم.
وقال قتادة: عن أنس، قتل من الانصار يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أنه كان يقول: قارب السبعين يوم أحد، ويوم بئر معونة، ويوم مؤتة، ويوم اليمامة.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب، قتل من الانصار يوم أحد ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبى عبيدة سبعون.

وهكذا قال عكرمة وعروة والزهرى ومحمد بن إسحاق في قتلى أحد، ويشهد له قوله تعالى " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا (1) " يعنى أنهم قتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين.
وعن ابن إسحاق: قتل من الانصار - لعله من المسلمين - يوم أحد خمسة وستون، أربعة من المهاجرين: حمزة و عبدالله بن جحش ومصعب بن عمير وشماس بن عثمان والباقون من الانصار.
وسرد أسماءهم على قبائلهم.
وقد استدرك عليه ابن هشام زيادة على ذلك خمسة آخرين، فصاروا سبعين على قول ابن هشام.
وسرد ابن إسحاق أسماء الذين قتلوا من المشركين، وهم اثنان وعشرون رجلا.
وعن عروة: كان الشهداء يوم أحد أربعة، أو قال سبعة، وأربعين.
وقال موسى بن عقبة: تسعة وأربعون.
وقتل من المشركين يومئذ ستة عشر رجلا وقال عروة: تسعة عشر.
وقال ابن إسحاق: اثنان وعشرون.
وقال الربيع عن الشافعي: ولم يؤسر من المشركين سوى أبى عزة الجمحى، وقد كان في الاسارى يوم بدر، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فدية واشترط عليه الا يقاتله، فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد امنن على لبناتي، وأعاهد ألا أقاتلك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين.
ثم أمر به فضربت عنقه.
وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ! "
__________
(1) سورة آل عمران 165.
(*)

فصل قال ابن إسحق: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش كما ذكر لى، فلما لقيت الناس نعى إليها أخوها عبدالله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبدالمطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن زوج المرأة منها لبمكان ! " لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها.
وقد قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا إسحاق بن محمد الفروى، حدثنا عبدالله بن عمر، عن ابراهيم بن محمد بن عبدالله بن جحش، عن أبيه، عن حمنة بنت جحش، أنه قيل لها: قتل أخوك.
فقالت: رحمه الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فقالوا: قتل زوجك قالت: واحزناه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشئ " ! قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الواحد بن أبى عون، عن إسماعيل، عن محمد، عن سعد بن أبى وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بنى دينار
وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
قال ابن هشام: الجلل يكون من القليل والكثير، وهو ههنا القليل.
قال امرؤ القيس: لقتل بنى أسد ربهم * ألا كل شئ خلاه جلل أي صغير وقليل.

قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: " اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقنى في هذا اليوم ".
وناولها على بن أبى طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقنى اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن كنت صدقت القتال لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة ".
وقال موسى بن عقبة في موضع آخر: ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف على مخضبا بالدماء قال: " لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف ".
وروى البيهقى عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء على بن أبى طالب بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة: هاك السيف حميدا فإنها قد شفننى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد
أجاده سهل بن حنيف وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة ".
قال ابن هشام: وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا هو ذو الفقار.
قال: وحدثني بعض أهل العلم عن ابن أبى نجيح قال: نادى مناد يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقار (1).
قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى: " لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا ".
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار بنى عبد الاشهل، فسمع
__________
(1) ابن هشام: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا على.
ولا ندرى لماذا أسقطها ابن كثير ! (*)

البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " لكن حمزة لا بواكي له ".
فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير إلى دار بنى عبد الاشهل أمرا نساءهن أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن بعض رجال بنى عبد الاشهل قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن في باب المسجد يبكين فقال: " ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن ".
قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عن النوح، فيما قال ابن هشام.
وهذا الذى ذكره منقطع ومنه مرسل.
وقد أسنده الامام أحمد فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى أسامة بن زيد، حدثنى نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من أحد فجعل نساء الانصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولكن حمزة لا بواكي له ".
قال: ثم نام فاستنبه وهن يبكين قال: " فهن اليوم إذا يبكين يندبن حمزة ".
وهذا على شرط مسلم.
وقد رواه ابن ماجه، عن هارون بن سعيد، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثى، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء بنى عبد الاشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكن حمزة لا بواكي له ".
فجاء نساء الانصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ويحهن ما انقلبن بعد مرورهن، فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم ".

وقال موسى بن عقبة: ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزقة المدينة إذا النوح والبكاء في الدور قال: " ما هذا ؟ " قالوا: هذه نساء الانصار يبكين قتلاهم فقال: " لكن حمزة لا بواكي له " واستغفر له.
فسمع ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعاذ بن جبل و عبدالله بن رواحة، فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية بالمدينة، فقالوا: والله لا تبكين قتلى الانصار حتى تبكين عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة.
وزعموا أن الذى جاء بالنوائح عبدالله بن رواحة، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما هذا ؟ " فأخبر بما فعلت الانصار بنسائهم، فاستغفر لهم وقال لهم خيرا وقال " ما هذا أردت، وما أحب البكاء " ونهى عنه.
وهكذا ذكر ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير سواء.
قال موسى بن عقبة: وأخذ المنافقون عند بكاء المسلمين في المكر والتفريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحزين المسلمين، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق فور المرجل.
وقالت اليهود: لو كان نبيا ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه.
وقال المنافقون مثل قولهم، وقالوا للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذين أصابوا منكم.
فأنزل الله القرآن في طاعة من أطاع ونفاق من نافق وتعزية المسلمين، يعنى فيمن قتل منهم فقال: " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم " الآيات كلها - كما تكلمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.

ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه على ما بهم من القرح والجراح، في أثر أبى سفيان، إرهابا له ولاصحابه حتى بلغ حمراء الاسد، وهى على ثمانية أميال من المدينة قال موسى بن عقبة بعد اقتصاصه وقعة أحد، وذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة: وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أبى سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقى منهم رءوس يجمعون لكم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبهم أشد القرح - بطلب العدو ليسمعوا بذلك، وقال: لا ينطلقن معى إلا من شهد القتال.
فقال عبد الله بن أبى: أنا راكب معك.
فقال: لا.
فاستجابوا لله ولرسوله على الذى بهم من البلاء.
فانطلقوا.
فقال الله في كتابه: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح،
للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " (1).
قال: وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر، حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته.
__________
(1) سورة آل عمران (*)

قال: وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو حتى بلغ حمراء الاسد.
وهكذا روى ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، سواء.
* * * وقال محمد بن إسحاق في مغازيه: وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الاحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه: ألا يخرجن أحد إلا من حضر بومنا ؟ بالامس.
فكلمه جابر بن عبدالله فأذن له.
قال ابن إسحاق: وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذى أصابهم لو يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق رحمه الله: فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبى السائب مولى عائشة بنت عثمان، أن رجلا من بنى عبد الاشهل قال: شهدت أحدا أنا وأخ لى، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لاخى وقال لى: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! والله مالنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل.
فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة (1)، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء
الاسد، وهى من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والاربعاء ثم رجع إلى المدينة.
قال ابن هشام: وقد كان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
__________
(1) العقبة: النوبة.
(*)

قال ابن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر [ أن ] معبد بن أبى معبد الخزاعى، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقتهم (2) معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بحمراء الاسد، فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم.
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الاسد حتى لقى أبا سفيان ابن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ ! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم.
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط.
قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصى الخيل.
قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل شأفتهم.
قال: فإنى أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر.
قال: وما قلت ؟ قال: قلت: كادت تهد من الاصوات راحلتي * إذ سالت الارض بالجرد الابابيل (3)
تردى (4) بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الارض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول
__________
(1) ابن هشام: عيبة نصح لرسول الله.
والعيبة: موضع السر.
(2) صفقتهم: حلفهم.
(3) الجرد: عتاق الخيل.
والابابيل: الجماعات.
(4) تردى: تسرع.
(*)

فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالجيل (1) إنى نذير لاهل البسل (2) ضاحية * لكل ذى إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش (3) قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من عبدالقيس فقال: أين تريدون ؟ قالوا: المدينة.
قال: ولم ؟ قالوا نريد الميرة.
قال: فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا: نعم.
قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.
فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الاسد، فأخبروه بالذى قال أبو سفيان، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكذا قال الحسن البصري.
وقد قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر، عن أبى حصين، عن أبى الضحى، عن ابن عباس: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
تفرد بروايته البخاري.
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن
أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم " قالت لعروة: يابن أختى كان أبواك
__________
(1) تغطمطت: اهتزت.
والجيل: الصف من الناس.
(2) أهل البسل: قريش.
(3) الوخش: الردئ.
وفى ابن هشام: تنابلة.
والقنابل: جمع قنبلة الطائفة من الناس والخيل.
(*)

منهم، الزبير وأبو بكر رضى الله عنهما، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: من يذهب في إثرهم ؟ فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير.
هكذا رواه البخاري.
وقد رواه مسلم مختصرا من وجه عن هشام، وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدى جميعا عن سفيان بن عيينة.
وأخرجه ابن ماجه من طريقه.
، عن هشام بن عروة به.
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق أبى سعيد عن هشام بن عروة به، ورواه من حديث السدى عن عروة، وقال في كل منهما: صحيح ولم يخرجاه.
كذا قال.
وهذا السياق غريب جدا، فإن المشهور عند أصحاب المغازى أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الاسد كل من شهد أحدا، وكانوا سبعمائة، كما تقدم.
قتل منهم سبعون وبقى الباقون.
وقد روى ابن جرير من طريق العوفى، عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبى سفيان الرعب يوم أحد بعد الذى كان منه، فرجع إلى مكة، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون في ذى القعدة المدينة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المسلمين القرح واشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذى أصابهم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا بهم ويتبعوا ما كانوا متبعين وقال لنا: ترتحلون الآن
فتأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى عام قابل.
فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم.
فأبى عليه الناس أن يتبعوه فقال: إنى ذاهب وإن لم يتبعني أحد.
فانتدب معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد و عبدالرحمن بن

عوف وأبو عبيدة وابن مسعود وحذيفة في سبعين رجلا، فساروا في طلب أبى سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ".
وهذا غريب أيضا.
وقال ابن هشام: حدثنا أبو عبيدة، أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد أراد الرجوع إلى المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذى كان، فارجعوا.
فرجعوا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الاسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة: " والذى نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ! ".
قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك قبل رجوعه المدينة، معاوية ابن المغيرة بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس، جد عبدالملك بن مروان لامه عائشة بنت معاوية، وأبا عزة الجمحى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسره ببدر ثم من عليه فقال: يا رسول الله أقلنى، فقال: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدا مرتين.
اضرب عنقه يا زبير.
فضرب عنقه.
قال ابن هشام: وبلغني عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن لا يلدغ من حجر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت " فضرب عنقه.
وذكر ابن هشام: أن معاوية بن المغيرة بن أبى العاص استأمن له عثمان على ألا يقيم بعد ثلاث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال: ستجدانه في مكان كذا وكذا فاقتلاه.
ففعلا رضى الله عنهما.
* * *

قال ابن إسحاق.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبدالله بن أبى كما حدثنى الزهري له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر له شرفا في نفسه وفى قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا.
ثم يجلس..حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت.
فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا (1) أن قمت أشدد أمره ! فلقيه رجال من الانصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك ؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلى رجال من أصحابه يجبذوننى ويعنفونني، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره.
قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: والله ما أبغى أن يستغفر لى.
* * * ثم ذكر ابن اسحاق ما نزل من القرآن في قصة أحد من سورة آل عمران عند قوله
" وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ".
قال: إلى تمام ستين آية.
وتكلم عليها.
وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية.
__________
(1) البجر: الشر والامر العظيم.
(*)

ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم على قبائلهم كما جرت عادته.
فذكر من المهاجرين أربعة: حمزة ومصعب بن عمير و عبدالله بن جحش وشماس ابن عثمان رضى الله عنهم، ومن الانصار إلى تمام خمسة وستين رجلا.
واستدرك عليه ابن هشام خمسة أخرى فصاروا سبعين على قول ابن هشام.
ثم سمى ابن إسحاق من قتل من المشركين وهم اثنان وعشرون رجلا على قبائلهم أيضا.
قلت: ولم يؤسر من المشركين سوى أبى عزة الجمحى، كما ذكره الشافعي وغيره، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بين يديه، أمر الزبير، ويقال: عاصم بن ثابت ابن أبى الافلح، فضرب عنقه.

فصل فيما تقاول به المؤمنون والكفار في وقعة أحد من الاشعار وإنما نورد شعر الكفار لنذكر جوابها من شعر الاسلام، ليكون أبلغ في وقعها من الاسماع والافهام، وأقطع لشبهة الكفرة الطغام.
قال الامام محمد بن إسحاق رحمه الله: وكان مما قيل من الشعر يوم أحد قول هبيرة ابن أبى وهب المخزومى، وهو على دين قومه من قريش، فقال:
ما بال هم عميد بات يطرقني * بالود من هند إذ تعدو عواديها باتت تعاتبني هند وتعذلني * والحرب قد شغلت عنى مواليها مهلا فلا تعذليني إن من خلقي * ما قد علمت وما إن لست أخفيها مساعف لبنى كعب بما كلفوا * حمال عبء وأثقال أعانيها وقد حملت سلاحي فوق مشترف * ساط سبوح إذا تجرى يباريها (1) كأنه إذ جرى عير بفدفدة * مكدم لاحق بالعون يحميها (2) من آل أعوج يرتاح الندى له * كجذع شعراء مستعل مراقيها أعددته ورقاق الحد منتخلا * ومارنا لخطوب قد ألاقيها (4) هذا وبيضاء مثل النهى محكمة * لظت على فما تبدو مساويها (4) سقنا كنانة من أطراف ذى يمن * عرض البلاد على ما كان يزجيها قالت كنانة أنى تذهبون بنا * قلنا النخيل فأموها ومن فيها (5)
__________
(1) مشترف: مشرف.
والساطى: الفرس البعيد الخطو.
والسبوح: الذى يسبح في جريه.
(2) العير: حمار الوحش.
والفدفدة: الفلاة.
والمكدم المعضض.
والعون: جمع عانة وهو القطيع من حمر الوحش.
(3) رقاق الحد: السيوف.
ومنتخلا: متخيرا والمارن: الرمح الصلب اللدن.
(4) البيضاء: يريد بها الدرع.
والمنهى: الغزير ؟ ؟ لظت: لصقت.
(5) النخيل: عين قرب المدينة.
(*)

نحن الفوارس يوم الجر (1) من أحد * هابت معد فقلنا نحن نأتيها هابوا ضرابا وطعنا صادقا خذما * مما يرون وقد ضمت قواصيها (2) ثمت رحنا كأنا عارض برد * وقام هام بنى النجار يبكيها (3) كأن هامهم عند الوغى فلق * من قيض ربد نفته عن أداحيها (4) أو حنظل ذعذعته الريح في غصن * بال تعاوره منها سوافيها (5) قد نبذل المال سحا لا حساب له * ونطعن الخيل شزرا في مآقيها (6)
وليلة يصطلى بالفرث جازرها * يختص بالنقرى المثرين داعيها (7) وليلة من جمادى ذات أندية * جربا جمادية قد بت أسريها (8) لا ينبح الكلب فيها غير واحدة * من القريس ولا تسرى أفاعيها (9) أوقدت فيها لذى الضراء جاحمة * كالبرق ذاكية الاركان أحميها (10) أورثني ذالكم عمرو ووالده * من قبله كان بالمشتى يغاليها (11) كانوا يبارون أنواء النجوم فما * دنت عن السورة العليا مساعيها * * * قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضى الله عنه فقال: قال ابن هشام: وتروى لكعب بن مالك وغيره.
قلت: وقول ابن إسحاق أشهر وأكثر والله أعلم:
__________
(1) الجر: أصل الجبل.
(2) الخذم: القاطع.
(3) العارض: السحاب.
وبرد: به برد، وهو حب الغمام.
(4) القيض: القشرة العليا اليابسة من البيض.
والربد: النعام.
والاداحي: جمع أدحى وهو مبيض النعام.
(5) ذعذعته: حركته.
وتعاوره: تتداوله.
والسوافى: الرياح الشديدة.
(6) سحا: صبا.
والشزر في الطعن: أن يكون من ناحية غير مستقيمة.
(7) يصطلى: يستدفئ.
والنقرى: الدعوة الخاصة، أي يختص الاغنياء طلبا لمكافأتهم، يصف شدة الزمان.
(8) أندية: جمع ندى على غير قياس، وقيل: إنه جمع الجمع، والجرباء: المقحطة.
(9) القريس: البرد الشديد.
(10) الجاحمة: الملتهية.
(11) ابن هشام: بالمثنى.
وما هنا أوضح.
(*)

سقتم كنانة جهلا من سفاهتكم * إلى الرسول فجند الله مخزيها أوردتموها حياض الموت ضاحية * فالنار موعدها والقتل لاقيها جمعتموهم أحابيشا بلا حسب * أئمة الكفر غرتكم طواغيها
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت * أهل القليب ومن ألقينه فيها كم من أسير فككناه بلا ثمن * وجز ناصية كنا مواليها قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يجيب هبيرة بن أبى وهب المخزومى أيضا: ألا هل أتى غسان عنا ودونهم * من الارض خرق سيره متنعنع (1) صحارى وأعلام كأن قتامها * من البعد نقع هامد متقطع (2) تظل به البزل العراميس رزحا * ويحلو به غيث السنين فيمرع (3) به جيف الحسرى يلوح صليبها * كما لاح كتان التجار الموضع (4) به العين والآرام يمشين خلفة * وبيض نعام قيضه يتقلع (5) مجالدنا عن ديننا كل فخمة * مذربة فيها القوانس تلمع (6) وكل صموت في الصوان كأنها * إذا لبست نهى من الماء مترع (7) ولكن ببدر سائلوا من لقيتم * من الناس والانباء بالغيب تنفع وإنا بأرض الخوف لو كان أهلها * سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا إذا جاء منا راكب كان قوله * أعدوا لما يزجى ابن حرب ويجمع
__________
(1) المتنعنع: المضطرب.
(2) الاعلام: الجبال.
والقتام الغبار.
والنقع: الغبار أيضا.
(3) البزل: جمع بازل.
وهى الناقة التى تبلغ التاسعة.
والعراميس: الصلبة.
والرزح: المعيبة.
(4) الصليب: ودك العظام.
والموضع: المبسوط.
(5) العين: بقر الوحش والآرام.
وخلفة: قطعة وراء قطعة.
والقيض: قشور البيض.
ويتقلع: يتشقق (6) مذربة: محددة.
والقوانس: جمع قونس وهى بيضة السلاح.
(7) كل صموت: أراد به الدرع.
جعلها صموتا لشدة نسجها وإحكام صنعتها.
والنهى: الغدير.
والمترع: الملئ.
(*)

فمهما يهم الناس مما يكيدنا * فنحن له من سائر الناس أوسع
فلو غيرنا كانت جميعا تكيده البرية قد أعطوا يدا وتوزعوا نجالد لا تبقى علينا قبيلة * من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا ولما ابتنوا بالعرض قالت سراتنا * علام إذا لم نمنع العرض نزرع (1) وفينا رسول الله نتبع أمره * إذا قال فينا القول لا نتظلع (2) تدلى عليه الروح من عند ربه * ينزل من جو السماء ويرفع نشاوره فيما نريد وقصرنا (3) * إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع وقال رسول الله لما بدوا لنا * ذروا عنكم هول المنيات واطمعوا وكونوا كمن يشرى الحياة تقربا * إلى ملك يحيا لديه ويرجع ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا * على الله إن الامر لله أجمع فسرنا إليهم جهرة في رحالهم * ضحيا علينا البيض لا نتخشع بملمومة فيها السنور والقنا * إذا ضربوا أقدامها لا تورع (4) فجئنا إلى موج من البحر وسطه * أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن نصية * ثلاث مئين إن كثرنا فأربع (5) نغاورهم تجرى المنية بيننا * نشارعهم حوض المنايا ونشرع تهادى قسى النبع فينا وفيهم * وما هو إلا اليثربي المقطع (6) ومنجوفة حرمية صاعدية * يذر عليها السم ساعة تصنع (7)
__________
(1) العرض: سفح الجبل.
وهو جبل أحد.
(2) لا نتظلع: لا نميل عنه (3) قصرنا: غايتنا.
(4) الملمومة: الكتيبة.
والسنور: السلاح.
لا تورع: لا تكف.
(5) النصية: الخيار من القوم.
(6) النبع: شجر للقسى والسهام ينبت في قلة الجبل.
واليثربى: الوتر المنسوب إلى يثرب.
(7) المنجوفة: السهام.
والحرمية: المنسوبة إلى الحرم.
والصاعدية: منسوبة إلى صاعد، كان يصنعها (*)

تصوب بأبدان الرجال وتارة * تمر بأعراض البصار تقعقع (1) وخيل تراها بالفضاء كأنها * جراد صبا في قرة يتريع (2) فلما تلاقينا ودارت بنا الرحا * وليس لامر حمه الله مدفع ضربناهم حتى تركنا سراتهم * كأنهم بالقاع خشب مصرع لدن غدوة حتى استفقنا عشية * كأن ذكانا حر نار تلفع (3) وراحوا سراعا موجعين (4) كأنهم * جهام هراقت ماءه الريح مقلع (5) ورحنا وأخرانا بطاء كأننا * أسود على لحم ببيشة ضلع (6) فنلنا ونال القوم منا وربما * فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع ودارت رحانا واستدارت رحاهم * وقد جعلوا كل من الشر يشبع ونحن أناس لا نرى القتل سبة * على كل من يحمى الذمار ويمنع جلاد على ريب الحوادث لا نرى * على هالك عينا لنا الدهر تدمع بنو الحرب لا نعيا بشئ نقوله * ولا نحن مما جرت الحرب نجزع بنو الحرب إن نظفر فلسنا بفحش * ولا نحن من أظفارنا نتوجع وكنا شهابا يتقى الناس حره * ويفرج عنه من يليه ويسفع (7) فخرت على ابن الزبعرى وقد سرى * لكم طلب من آخر الليل متبع فسل عنك في عليا معد وغيرها * من الناس من أخزى مقاما وأشنع
__________
(1) قال السهيلي: " يقول: تشق أبدان الرجال حتى تبلغ البصار فتقعقع فيها، وهى جمع بصرة، وهى حجارة لينة.
ويجوز أن يكون أراد جمع بصيرة، مثل كريمة وكرام.
والبصيرة: الدرع، وقيل: الترس ".
(2) الصبا: ريح شرقية.
والقرة: الليلة الباردة.
يتريع: يذهب ويجئ.
(3) ذكانا: حرارتنا في الحرب.
(4) ابن هشام: موجفين.
(5) الجهام: السحاب الرقيق.
(6) بيشة: موضع كثير الاسود.
وفى ابن هشام: ظلع.
(7) يفرح عنه: ينكشف.
ويسفع: يلفح.
(*)

ومن هو لم يترك له الحرب مفخرا * ومن خده يوم الكريهة أضرع شددنا بحول الله والنصر شدة * عليكم وأطراف الاسنة شرع تكر القنا فيكم كأن فروعها * عزالى مزاد ماؤها يتهزع (1) عمدنا إلى أهل اللواء ومن يطر * بذكر اللواء فهو في الحمد أسرع فحانوا وقد أعطوا يدا وتخاذلوا * أبى الله إلا أمره وهو أصنع * * * قال ابن إسحاق: وقال عبدالله بن الزبعرى في يوم أحد وهو يومئذ مشرك بعد: يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئا قد فعل إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل (2) والعطيات خساس بينهم * وسواء قبر مثر ومقل كل عيش ونعيم زائل * وبنات الدهر يلعبن بكل أبلغنا حسان عنى آية * فقريض الشعر يشفى ذا الغلل كم ترى بالجر من جمجمة * وأكف قد أترت ورجل (3) وسرابيل حسان سريت * عن كماة أهلكوا في المنتزل كم قتلنا من كريم سيد * ماجد الجدين مقدام بطل صادق النجدة قرم بارع * غير ملتاث لدى وقع الاسل فسل المهراس ما ساكنه * بين أقحاف وهام كالحجل (4) ليت أشياخى ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل
__________
(1) العزالى: جمع عزلي، وهى مصب الماء من الراوية.
والمزاد: جمع مزادة وهى الراوية.
ويتهزع: يتقطع.
(2) القبل: العيان والمواجهة.
(3) الجر: أصل الجبل.
وأترت: قطعت.
(4) المهراس: ماء بأحد.
وفى ابن هشام: من ساكنه.
والاقحاف: جمع قحف.
والهام: الرؤوس.
والحجل: الذكر من القبج.
(*)

حين حكت بقباء بركها (1) * واستحر القتل في عبد الاشل ثم خفوا عند ذاكم رقصا * رقص الحفان يعلو في الجبل (2) فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل لا ألوم النفس إلا أننا * لو كررنا لفعلنا المفتعل بسيوف الهند تعلو هامهم * عللا تعلوهم بعد نهل قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت رضى الله عنه: ذهبت بابن الزبعرى وقعة * كان منا الفضل فيها لو عدل ولقد نلتم ونلنا منكم * وكذك الحرب أحيانا دول نضع الاسياف في أكتافكم * حيث نهوى عللا بعد نهل نخرج الاصبح من أستاهكم * كسلاح النيب يأكلن العصل (3) إذ تولون على أعقابكم * هربا في الشعب أشباه الرسل (4) إذ شددنا شدة صادقة * فأجأناكم إلى سفح الجبل بخناطيل كأشداق الملا * من يلاقوه من الناس يهل (5) ضاق عنا الشعب إذ نجزعه * وملانا الفرط منه والرجل (6) برجال لستم أمثالهم * أيدوا جبريل نصرا فنزل (7)
__________
(1) البرك: الصدر.
وعبد الاشل: هم بنو عبد الاشهل.
(2) الرقص: الخبب في السير، وهو الاسراع.
والحفان: فراخ النعام.
(3) الاصبح: وصف للبن الممذوق المخرج من بطونهم، كما قال السهيلي 2 / 158 وتروى: الاضياح.
وهو اللبن الممزوج بالماء.
والنيب: النوق المسنة.
والعصل: نبات يصلح الابل إذا أكلته.
(4) الرسل: الغنم إذا أرسلها الراعى، والرسل: القطيع من كل شئ.
(5) الخناطيل: الجماعات.
والاشداق: جمع شدق، وهو من الوادي عرضاه وناحيتاه.
والملا: الفلاة ذات حر وسراب.
ويهل: يفزع.
(6) نجزعه: نقطعه عرضا.
والفرط: المرتفع من الارض.
والرجل: المطمئن منها.
(7) أيدوا جبريل: أراد: أيدوا بجبريل.
(*)

وعلونا يوم بدر بالتقى * طاعة الله وتصديق الرسل وقتلنا كل رأس منهم * وقتلنا كل جحجاح رفل (1) وتركنا في قريش عورة * يوم بدر وأحاديث المثل ورسول الله حقا شاهدا * يوم بدر والتنابيل الهبل (2) في قريش من جموع جمعوا * مثل ما يجمع في الخصب الهمل (3) نحن لا أمثالكم ولد استها * نحضر البأس إذا البأس نزل * * * قال ابن إسحاق: وقال كعب يبكى حمزة ومن قتل من المسلمين يوم أحد، رضى الله عنهم: نشجت وهل لك من منشج * وكنت متى تدكر تلجج تذكر قوم أتانى لهم * أحاديث في الزمن الاعوج فقلبك من ذكرهم خافق * من الشوق والحزن المنضج وقتلاهم في جنان النعيم * كرام المداخل والمخرج بما صبروا تحت ظل اللواء * لواء الرسول بذى الاضوج (4) غداة أجابت بأسيافها * جميعا بنو الاوس والخزرج وأشياع أحمد إذ شايعوا * على الحق ذى النور والمنهج
فما برحوا يضربون الكماة * ويمضون في القسطل المرهج (5)
__________
(1) الجحجاح: السيد.
والرفل: الذى يجر ثوبه خيلاء.
(2) التنابيل: القصار.
والهبل: الذين ثقلوا لكثرة اللحم عليهم.
(3) الهمل: الابل المهملة التى تركت دون راع.
(4) الاضوج: جمع ضوج، وهو منعطف الوادي.
(5) القسطل: الغبار.
(*)

كذلك حتى دعاهم مليك * إلى جنة دوحة المولج (1) وكلهم مات جر البلاء * على ملة الله لم يحرج كحمزة لما وفى صادقا * بذى هبة صارم سلجج (2) فلاقاه عبد بنى نوفل * يبربر كالجمل الادعج (3) فأوجره حربة كالشهاب * تلهب في اللهب الموهج ونعمان أوفى بميثاقه * وحنظلة الخير لم يحنج (4) عن الحق حتى غدت روحه * إلى منزل فاخر الزبرج (5) أولئك لا من ثوى منكم * من النار في الدرك المرتج * * * قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة ومن أصيب من المسلمين يوم أحد، وهى على روى قصيدة أمية بن أبى الصلت في قتلى المشركين يوم بدر.
قال ابن هشام: ومن أهل العلم بالشعر من ينكر هذه لحسان.
والله أعلم: يامى قومي فاندبي * بسحيرة شجو النوائح كالحاملات الوقر بالثقل الملحات الدوالح (6) المعولات الخامشا * ت وجوه حرات صحائح
وكأن سيل دموعها الانصاب تخضب بالذبائح ينقضن أشعارا لهن * هناك بادية المسائح (7) وكأنها أذناب خي * - ل بالضحى شمس روامح
__________
(1) الدوحة: الكثيرة الاغصان.
والمولج: المدخل (2) السلجج: المرهف.
(3) عبد بنى نوفل: وحشى قاتل حمزة.
ويبربر: يصيح.
والادعج: الاسود.
(4) لم يحنج: لم يمل.
(5) الزبرج: الوشى.
(6) الدوالح: الحاملات الثقل.
(7) المسائح: ذوائب الشعر.
(8 - السيرة - 3) (*)

من بين مشرور ومج * زور يذعذع بالبوارح (1) يبكين شجوا مسلبات * كدحتهن الكوادح ولقد أصاب قلوبها * مجل له جلب قوارح (2) إذ أقصد الحدثان من * كنا نرجى إذ نشايح (3) أصحاب أحد غالهم * دهر ألم له جوارح من كان فارسنا وحا * مينا إذا بعث المسالح (4) يا حمز لا والله لا * أنساك ماصر اللقائح لمناخ أيتام وأض * - ياف وأرملة تلامح (5) ولما ينوب الدهر في * حرب لحرب وهى لاقح يا فارسا يامدرها * يا حمز قد كنت المصامح (6) عنا شديدات الخطو * ب إذا ينوب لهن فادح ذكرتني أسد الرسو * ل وذاك مدرهنا المنافح عنا وكان يعد إذ * عد الشريفون الجحاجح يعلو القماقم جهرة * سبط اليدين أغر واضح
لا طائش رعش ولا * ذو علة بالحمل آنح (7) بحر فليس يغب جا * را منه سيب أو منادح أودى شباب أولى الحفا * ئظ والثقيلون المراجح المطعمون إذا المشا * تى ما يصفقهن ناضح
__________
(1) المشرور: الذى وضع لحمه على خصفة ليجف.
ويذعذع: يغرق.
والبوارح: الرياح الشديدة.
(2) المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء.
والجلب: جمع جلبة وهو قشرة تعلو الجرح عند البرء.
(3) نشايح: تحذر.
(4) اللقائح: جمع لقحة وهى الناقة ذات اللبن.
(5) تلامح: تنظر لمحة ثم تغض بصرها.
(6) المصامح: المدافع القوى.
(7) آنح: ضعيف واهن.
يقال أنح البعير: إذا حمل الثقل أخرج من صدره صوت المعتصر.
(*)

لحم الجلاد وفوقه * من شحمه شطب شرائح ليدافعوا عن جارهم * مارام ذو الضغن المكاشح لهفى لشبان رزئ * ناهم كأنهم المصابح شم بطارقة غطا * رفة خضارمة مسامح (1) المشترون الحمد بالاموال إن الحمد رابح والجامزون بلجمهم يوما * إذا ما صاح صائح (2) من كان يرمى بالنوا * قر (3) من زمان غير صالح ما إن تزال ركابه * يرسمن في غبر صحاصح (4) راحت تبارى وهو في * ركب صدورهم رواشح حتى تئوب له المعا * لى ليس من فوز السفائح (5) يا حمزة قد أوحدتني * كالعود شذ به الكوافح (6) أشكو إليك وفوقك الترب المكور والصفائح
من جندل يلقيه فوقك * إذ أجاد الضرح ضارح (7) في واسع يحشونه * بالترب سوته المماسح فعزاؤنا أنا نقو * ل وقولنا برح بوارح (8) من كان أمسى وهو عما أوقع الحدثان جانح فليأتنا فلتبك عيناه لهلكانا النوافح (9)
__________
(1) البطارقة: الرؤساء، والغطارفة: السادة.
والخضارفة: المكثرون من العطاء.
والمسامح: الكرام.
(2) الجامزون: الواثبون.
واللجم: جمع لجام.
(3) النواقر: الدواهي والمصائب.
(4) يرسمن: يسرن الرسم، وهو نوع من سير الابل.
والغبر: جمع غبراء وهى الارض: والصحاصح: الارض المستوية: (5) السفائح: جمع سفيح وهو من قداح الميسر.
(6) الكوافح: الذين يتناولونه بالقطع.
(7) الضرح: الحفر للميت.
(8) برح: صعب.
(9) النوافح: من ينفحون بالعطاء والخير.
(*)

القائلين الفاعلين * ذوى السماحة والممادح من لا يزال ندى يديه له طوال الدهر مأخ (1) قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
* * * قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يبكى حمزة وأصحابه: طرقت همومك فالرقاد مسهد * وجزعت أن سلخ الشباب الاغيد ودعت فؤادك للهوى ضمرية * فهواك غورى وصحوك منجد فدع التمادي في الغواية سادرا * قد كنت في طلب الغواية تفند (2) ولقد أنى لك أن تناهى طائعا * أو تستفيق إذا نهاك المرشد
ولفد هددت لفقد حمزة هدة * ظلت بنات الجوف منها ترعد ولو انه فجعت حراء بمثله * لرأيت راسى صخرها يتبدد قرم تمكن في ذؤابة هاشم * حيث النبوة والندى والسؤدد والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت * ريح يكاد الماء منها يجمد والتارك القرن الكمى مجدلا * يوم الكريهة والقنا يتقصد وتراه يرفل في الحديد كأنه * ذو لبدة شثن البراثن أربد (3) عم النبي محمد وصفيه * ورد الحمام فطاب ذاك المورد وأتى المنية معلما في أسرة * نصروا النبي ومنهم المستشهد ولقد إخال بذاك هندا بشرت * لتميت داخل غصة لا تبرد مما صبحنا بالعقنقل قومها * يوما تغيب فيه عنها الاسعد
__________
(1) مائح: طالب مبتغ.
(2) تفند: تعذل وتلام.
(3) ذو لبدة: يريد أسدا.
والشثن: الغليظ.
والبراثن للاسد كالاصابع للانسان.
والاربد: المغبر.
(*)

وببئر بدر إذ يرد وجوههم * جبريل تحت لوائنا ومحمد حتى رأيت لدى النبي سراتهم * قسمين نقتل من نشاء ونطرد فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والاسود وابن المغيرة قد ضربنا ضربة * فوق الوريد لها رشاش مزبد وأمية الجمحى قوم ميله * عضب بأيدى المؤمنين مهند فأتاك فل المشركين كأنهم * والخيل تثفنهم (1) نعام شرد شتان من هو في جهنم ثاويا * أبدا ومن هو في الجنان مخلد * * * قال ابن إسحاق: وقال عبدالله بن رواحة يبكى حمزة وأصحابه يوم أحد.
قال ابن
هشام: وأنشدينها أبو زيد لكعب بن مالك.
فالله أعلم: بكت عينى وحق لها بكاها * وما يغنى البكاء ولا العويل على أسد الاله غداة قالوا * أحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا * هناك وقد أصيب به الرسول أبا يعلى لك الاركان هدت * وأنت الماجد البر الوصول عليك سلام ربك في جنان * مخالطها نعيم لا يزول ألا يا هاشم الاخيار صبرا * فكل فعالكم حسن جميل رسول الله مصطبر كريم * بأمر الله ينطق إذ يقول ألا من مبلغ عنى لؤيا * فبعد اليوم دائلة تدول وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا * وقائعنا بها يشفى الغليل نسيتم ضربنا بقليب بدر * غداة أتاكم الموت العجيل
__________
(1) تثفنهم: تطردهم.
(*)

غداة ثوى أبو جهل صريعا * عليه الطير حائمة تجول وعتبة وابنه خرا جميعا * وشيبة عضه السيف الصقيل ومتركنا أمية مجلعبا * وفى حيزومه لدن نبيل (1) وهام بنى ربيعة سائلوها * ففى أسيافنا منها فلول ألا يا هند فابكى لا تملى * فأنت الواله العبرى الهبول ألا يا هند لا تبدى شماتا * بحمزة إن عزكم ذليل * * * قال ابن إسحاق: وقالت صفية بنت عبدالمطلب تبكى أخاها حمزة بن عبدالمطلب، وهى أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم أجمعين:
أسائلة أصحاب أحد مخافة * بنات أبى من أعجم وخبير فقال الخبير إن حمزة قد ثوى * وزير رسول الله خير وزير دعاه إله الحق ذو العرش دعوة * إلى جنة يحيا بها وسرور فذلك ما كنا نرجى ونرتجى * لحمزة يوم الحشر خير مصير فوالله لا أنساك ما هبت الصبا * بكاء وحزنا محضري ومسيري على أسد الله الذى كان مدرها (2) * يذود عن الاسلام كل كفور فياليت شلوى (3) عند ذاك وأعظمي * لدى أضبع تعتادنى ونسور أقول وقد أعلى النعى عشيرتي * جزى الله خيرا من أخ ونصير قال ابن إسحاق: وقالت نعم، امرأة شماس بن عثمان، تبكى زوجها والله أعلم ولله الحمد والمنة:
__________
(1) مجلعبا: ممتدا على الارض.
والحيزوم: ما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر.
واللدن: اللين من الرماح.
(2) المدره: المدافع المحامي.
(3) الشلو: العضو.
(*)

يا عين جودى بفيض غير إبساس * على كريم من الفتيان لباس صعب البديهة ميمون نقيبته * حمال ألوية ركاب أفراس أقول لما أتى الناعي له جزعا * أودى الجواد وأودى المطعم الكاسى وقلت لما خلت منه مجالسه * لا يبعد الله منا قرب شماس قال: فأجابها أخوها الحكم بن سعيد بن يربوع يعزيها فقال: اقنى حياءك في ستر وفى كرم * فإنما كان شماس من الناس لا تقتلي النفس إذ حانت منيته * في طاعة الله يوم الروع والباس قد كان حمزة ليث الله فاصطبري * فذاق يومئذ من كأس شماس
وقالت هند بنت عتبة امرأة أبى سفيان حين رجعوا من أحد: رجعت وفى نفسي بلابل جمة * وقد فاتني بعض الذى كان مطلبي من اصحاب بدر من قريش وغيرهم * بنى هاشم منهم ومن أهل يثرب ولكننى قد نلت شيئا ولم يكن * كما كنت أرجو في مسيرى ومركبي * * * وقد أورد ابن إسحاق في هذا أشعارا كثيرة تركنا كثيرا منها خشية الاطالة وخوف الملالة، وفيما ذكرنا كفاية.
ولله الحمد.
وقد أورد الاموى في مغازيه من الاشعار أكثر مما ذكره ابن إسحاق كما جرت عادته، ولا سيما هاهنا.
فمن ذلك ما ذكره لحسان بن ثابت أنه قال في غزوة أحد.
فالله أعلم: طاوعوا الشيطان إذ أخزاهم * فاستبان الخزى فيهم والفشل حين صاحوا صيحة واحدة * مع أبى سفيان قالوا اعل هبل فأجبناهم جميعا كلنا * ربنا الرحمن أعلى وأجل

اثبتوا تستعملوها مرة * من حياض الموت والموت نهل واعلموا أنا إذا ما نضحت * عن خيال الموت قدر تشتعل وكأن هذه الابيات قطعة من جوابه لعبد الله بن الزبعرى.
والله أعلم.
" آخر الكلام على وقعة أحد " فصل قد تقدم ما وقع في هذه السنة الثالثة من الحوادث والغزوات والسرايا، ومن أشهرها وقعة أحد كانت في النصف من شوال منها، وقد تقدم بسطها ولله الحمد.
وفيها في أحد توفى شهيدا أبو يعلى، ويقال أبو عمارة أيضا، حمزة بن عبدالمطلب
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الملقب بأسد الله وأسد رسوله، وكان رضيع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو سلمة بن عبد الاسد، أرضعتهم ثويبة مولاة أبى لهب، كما ثبت ذلك في الحديث المتفق عليه.
فعلى هذا يكون قد جاوز الخمسين من السنين يوم قتل رضى الله عنهم، فإنه كان من الشجعان الابطال ومن الصديقين الكبار، وقتل معه يومئذ تمام السبعين.
رضى الله عنهم أجمعين.
وفيها عقد عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أختها رقية، وكان عقده عليها في ربيع الاول منها، وبنى بها في جمادى الآخرة منها.
كما تقدم فيها.
ذكره الواقدي.
وفيها قال ابن جرير: ولد لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن على ابن أبى طالب.
قال: وفيها علقت بالحسين رضى الله عنهم.

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر سنة أربع من الهجرة النبوية في المحرم منها كانت سرية أبى سلمة بن عبد الاسد إلى طليحة الاسدي، فانتهى إلى ما يقال له قطن.
قال الواقدي: حدثنا عمر بن عثمان بن عبدالرحمن بن سعيد اليربوعي، عن سلمة ابن عبدالله بن عمر بن أبى سلمة وغيره، قالوا: شهد أبو سلمة أحدا فجرح جرحا على عضده، فأقام شهرا يداوى، فلما كان المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها.
وعقد له لواء وقال: سر حتى تأتى أرض بنى أسد فأغر عليهم، وأوصاه بتقوى الله
وبمن معه من المسلمين خيرا.
وخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة.
فانتهى إلى أدنى قطن، وهو ماء لبنى أسد، وكان هناك طليحة الاسدي وأخوه سلمة ابنا خويلد، وقد جمعا حلفاء من بنى أسد ليقصدوا حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما تمالاوا عليه فبعث معه أبا سلمة في سريته هذه.
فلما انتهوا إلى أرضهم تفرقوا وتركوا نعما كثيرا لهم من الابل والغنم، فأخذ ذلك كله أبو سلمة وأسر منهم معه ثلاثة مماليك، وأقبل راجعا إلى المدينة، فأعطى ذلك الرجل

الاسدي الذى دلهم نصيبا وافرا من المغنم، وأخرج صفى النبي صلى الله عليه وسلم، عبدا وخمس الغنيمة، وقسمها بين أصحابه.
ثم قدم المدينة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبدالملك بن عبيد، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع، عن عمر بن أبى سلمة قال: كان الذى جرح أبى أبو أسامة الجشمى، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم، يعنى من سنة أربع، إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الاولى.
قال عمر: واعتدت أمي حتى خلت أربعة أشهر وعشر، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى فيه.
قال: وماتت أم سلمة في ذى القعدة سنة تسع وخمسين.
رواه البيهقى.
قلت: سنذكر في أواخر هذه السنة في شوالها تزيج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة، وما يتعلق بذلك من ولاية الابن أمه في النكاح، ومذاهب العلماء في ذلك.
إن شاء الله تعالى.
وبه الثقة.

غزوة الرجيع قال الواقدي: وكانت في صفر يعنى سنة أربع.
بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ليجيزوه.
قال: والرجيع على ثمانية أميال من عسفان.
قال البخاري: حدثنى إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن أبى سفيان الثقفى، عن أبى هريرة، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، وهو جد عاصم (1) بن عمر بن الخطاب.
فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحى من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا: هذا تمر يثرب.
فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم.
فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد (2)، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلا.
فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك.
فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل.
وبقى خبيب وزيد ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق
__________
(1) قال الحافظ عبد العظيم: غلط عبد الرزاق وابن عبد البر فقالا في عاصم هذا: هو جد عاصم بن عمر
ابن الخطاب، وذلك وهم، وإنما هو خال عاصم، لان أم عاصم بن عمر جميلة بنت ثابت، وعاصم هو أخو جميلة، ذكر ذلك الزبير القاضى وعمه مصعب.
إرشاد السارى 6 / 312.
(2) فدفد: رابية مشرفة.
(*)

نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذى معهما: هذا أول الغدر ! فأبى أن يصحبهم.
فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه.
وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات (1) الحارث يستحد بها فأعارته.
قالت: فغفلت عن صبى لى فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك منى، وفى يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لافعل ذلك إن شاء الله.
وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ من ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقا رزقه الله.
فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلى ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بى جزع من الموت لزدت.
فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو.
ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا.
ثم قال: ولست أبالى حين أقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع (2) قال: ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشئ
من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم (3) يوم بدر، فبعث الله
__________
(1) اسمها زينب بنت الحارث: أخت عقبة بن الحارث الذى قتل خبيبا.
(2) أوصال: جمع وصل وهو العضو.
والشلو: الجسد والعضو.
(3) قيل: هو عقبة بن أبى معيط.
(*)

عليه مثل الظلة من الدبر (1) فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شئ.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع جابر بن عبدالله يقول: الذى قتل خبيبا هو أبو سروعة.
قلت: واسمه عقبة بن الحارث وقد أسلم بعد ذلك، وله حديث في الرضاع وقد قيل إن أبا سروعة وعقبة أخوان.
فالله أعلم.
* * * هكذا ساق البخاري في كتاب المغازى من صحيحه قصة الرجيع.
ورواه أيضا في التوحيد وفى الجهاد من طرق، عن الزهري، عن عمرو بن أبى سفيان وأسد ابن حارثة الثقفى جليف بنى زهرة، ومنهم من يقول عمر بن أبى سفيان والمشهور عمرو.
وفى لفظ للبخاري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح.
وساق بنحوه.
وقد خالفه محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة بن الزبير في بعض ذلك.
ولنذكر كلام ابن إسحاق ليعرف ما بينهما من التفاوت والاختلاف، على أن ابن إسحاق إمام في هذا الشأن غير مدافع، كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازى فهو عيال على محمد بن إسحاق ! قال محمد بن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله إن فينا
إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الاسلام.
__________
(1) الظلة: السحابة.
والدبر: ذكور النحل.
(*)

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفرا ستة من أصحابه، وهم مرثد بن أبى مرثد الغنوى، حليف حمزة بن عبدالمطلب.
قال ابن إسحاق: وهو أمير القوم.
وخالد بن البكير الليثى حليف بنى عدى، وعاصم بن ثابت بن أبى الاقلح أخو بنى عمرو بن عوف، وخبيب بن عدى أخو بنى جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة أخو بنى بياضة بن عامر، و عبدالله بن طارق حليف بنى ظفر رضى الله عنهم.
هكذا قال ابن إسحاق أنهم كانوا ستة، وكذا ذكر موسى بن عقبة وسماهم كما قال ابن إسحاق.
وعند البخاري: أنهم كانوا عشرة، وعنده أن كبيرهم عاصم بن ثابت بن أبى الاقلح.
فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: فخرجوا (1) مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدور الهدأة (2) غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلا، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم.
فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا، وقال عاصم بن ثابت.
ولله أعلم ولله الحمد والمنة:
ما علتى وأنا جلد نابل * والقوس فيها وتر عنابل (3)
__________
(1) ابن هشام: فخرج.
(2) الهدأة: موضع بين عسفان ومكة، على سبعة أميال من عسفان.
(3) النابل: صاحب النبل.
والعنابل: الغليظ.
(*)

تزل عن صفحتها المعابل (1) * الموت حق والحياة باطل وكل ما حم الاله نازل * بالمرء والمرء إليه آيل إن لم أقاتلكم فأمي هابل وقال عاصم أيضا: أبو سليمان وريش المقعد * وضالة مثل الجحيم الموقد (2) إذا النواحى افترشت لم أرعد * ومجنأ من جلد ثور أجرد (3) ومؤمن بما على محمد وقال أيضا: أبو سليمان ومثلى رامى * وكان قومي معشرا كراما قال: ثم قاتل حتى قتل وقتل صاحباه.
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن سهيل، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر.
فمنعته الدبر، فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسى فيذهب عنه فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا.
تنجسا.
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن !
__________
(1) المعابل: جمع معبلة وهو نصل عريض طويل.
(2) المقعد: رجل كان يريش السهام.
والضالة: السلاح، أو السهام.
(3) المجنأ: الترس لا حديد فيه.
والاجرد: الاملس.
(*)

كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته ! * * * قال ابن إسحاق: وأما خبيب وزيد الدثنة و عبدالله بن طارق، فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة وأعطوا بأيديهم، فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها.
حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبدالله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدثنة، فقدموا بهما مكة، فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
قال ابن إسحاق: فابتاع خبيبا حجير بن أبى إهاب التميمي حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لامه ليقتله بأبيه.
قال: وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فبعثه مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنى
جالس في أهلى.
قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا !

قال: ثم قتله نسطاس.
قال: وأما خبيب بن عدى: فحدثني عبدالله بن أبى نجيح أنه حدث عن ماوية مولاة حجير بن أبى إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان عندي خبيب حبس في بيتى، فلقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل ! قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة و عبدالله بن أبى نجيح أنهما قالا: قالت: قال لى حين حضره القتل: ابعثى إلى بحديدة أتطهر بها للقتل.
قالت: فأعطيت غلاما من الحى الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل البيت.
فقالت: فوالله إن هو إلا أن ولى الغلام بها إليه فقلت: ماذا صنعت ؟ ! أصاب والله الرجل ثأره، يقتل هذا الغلام فيكون رجلا برجل.
فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلى ! ثم خلى سبيله.
قال ابن هشام: ويقال إن الغلام ابنها.
قال ابن إسحاق: قال عاصم: ثم خرجوا بخبيب حتى جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه.
وقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع.
فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة.
قال: فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين (1).
__________
(1) في هامش الاصل: " حاشية بخط المصنف.
قال السهيلي: وإنما صارت سنة لانها فعلت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واستحسنت من صنيعه، قال: وقد صلاها زيد بن حارثة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
= (9 - السيرة 3) (*)

قال: ثم رفعوه على خشبة فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا.
ثم قتلوه.
وكان معاوية بن أبى سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبى سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الارض فرقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعى عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه.
وفى مغازى موسى بن عقبة: أن خبيبا وزيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوم قتلا وهو يقول: وعليكما أو عليك السلام.
خبيب قتلته قريش ! وذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيمانا وتسليما.
__________
= ثم ساق بإسناده من طريق أبى بكر بن أبى خيثمة، عن يحيى بن معين، عن يحيى بن عبدالله بن بكير، عن الليث بن سعد قال: بلغني أن زيد بن حارثة استأجر من رجل بغلا من الطائف واشترط عليه الكرى أن ينزله حيث شاء، فمال به إلى خربة فإذا بها قتلى كثيرة، فلما هم بقتله قال له زيد: دعني حتى أصلى ركعتين.
فقال: صل ركعتين، فطالما صلى هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا ! قال: فصليت ثم جاء ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، فإذا صارخ يقول: لا تقتله.
فهاب وذهب ينظر
فلم ير شيئا، ثم جاء ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين.
فسمع أيضا الصوت يقول لا تقتله.
فذهب لينظر ثم جاء، فقلت يا أرحم الراحمين، فإذا أنا بفارس على فرس في يده حربة في رأسها شعلة من نار فطعنه بها حتى أنفذه فوقع ميتا، ثم قال: لما دعوت الله في المرة الاولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوته في المرة الثانية كنت في السماء الدنيا، ولما دعوته في الثالثة أتيتك.
قال السهيلي: وقد صلاها حجر بن عدى بن الادبر حين حمل إلى معاوية من العراق ومعه كتاب زياد ابن أبيه وفيه: أنه خرج عليه وأراد خلعه، وفى الكتاب شهادة جماعة من التابعين منهم الحسن وابن سيرين، فلما دخل على معاوية قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
قال: أو أنا أمير المؤمنين ؟ وأمر بقتله.
فصلى ركعتين قبل قتله ثم قتل رحمه الله.
قال: وقد عاتبت عائشة معاوية في قتله فقال: إنما قتله من شهد عليه، ثم قال: دعينى وحجرا فإنى سألقاه على الجادة يوم القيامة !.
قالت: فأين ذهب عنك حلم أبى سفيان ؟ قال: حين غاب مثلك من قومي " اه.
(*)

وذكر عروة وموسى بن عقبة أنهم لما رفعوا خبيبا على الخشبة نادوه يناشدونه: أتحب أن محمدا مكانك ؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفدينى بشوكة يشاكها في قدمه ! فضحكوا منه.
وهذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدثنة.
فالله أعلم.
قال موسى بن عقبة: زعموا أن عمرو بن أمية دفن خبيبا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث، قال: سمعته يقول: والله ما أنا قتلت خبيبا، لانا كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة أخا بنى عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدى، ثم أخذ بيدى وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا قال: كان عمر بن الخطاب استعمل سعيد
ابن عامر بن حذيم الجمحى على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية وهو بين ظهرى القوم، فذكر ذلك لعمر وقيل: إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه فقال: يا سعيد ما هذا الذى يصيبك ؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بى ما بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدى حين قتل، وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبى وأنا في مجلس قط إلا غشى على ! فزادته عند عمر خيرا.
وقد قال الاموى: حدثنى أبى قال: قال ابن إسحاق: وبلغنا أن عمر قال: من سره أن ينظر إلى رجل نسيج وحده فلينظر إلى سعيد بن عامر.
قال ابن هشام: أقام خبيب في أيديهم حتى انسلخت الاشهر الحرم ثم قتلوه.
وقد روى البيهقى من طريق إبراهيم بن إسماعيل، حدثنى جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه عينا وحده قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون، فأطلقته فوقع إلى الارض

ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم التفت فلم أر شيئا، فكأنما بلعته الارض، فلم تذكر لخبيب رمة حتى الساعة.
ثم روى ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما قتل أصحاب الرجيع قال ناس من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لاهم أقاموا في أهلهم ولاهم أدوا رسالة صاحبهم.
فأنزل الله فيهم: " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (1) " وما بعدها.
وأنزل الله في أصحاب السرية " ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (2) ".
* * *
قال ابن إسحاق وكان مما قيل من الشعر في هذه الغزوة قول خبيب حين أجمعوا على قتله.
قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها له: لقد جمع الاحزاب حولي وألبوا * قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدى العداوة جاهد * على لانى في وثاق بمضبع (3) وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم * وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتى ثم كربتي * وما أرصد الاعداء (4) لى عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بى * فقد بضعوا لحمى وقد ياس مطمعى وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع وقد خيرونى الكفر والموت دونه * وقد هملت عيناى من غير مجزع وما بى حذار الموت إنى لميت * ولكن حذارى جحم نار ملفع
__________
(1) سورة البقرة 204.
(2) سورة البقرة 207 (3) ابن هشام: بمصيع.
(4) ابن هشام: الاحزاب.
(*)

فوالله ما أرجو إذا مت مسلما * على أي جنب كان في الله مضجعي فلست بمبد للعدو تخشعا * ولا جزعا إنى إلى الله مرجعي وقد تقدم في صحيح البخاري بيتان من هذه القصيدة وهما قوله: فلست أبالى حين أقتل مسلما * على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الاله وإن يشأ * يبارك على أوصال شلو ممزع * * * وقال حسان بن ثابت يرثى خبيبا فيما ذكره ابن إسحاق: ما بال عينك لا ترقا مدامعها * سحا على الصدر مثل اللؤلؤ القلق (1) على خبيب فتى الفتيان قد علموا * لا فشل حين تلقاه ولا نزق فاذهب خبيب جزاك الله طيبة * وجنة الخلد عند الحور في الرفق
ماذا تقولون إن قال النبي لكم * حين الملائكة الابرار في الافق فيم قتلتم شهيد الله في رجل * طاغ قد اوعث في البلدان والرفق (2) قال ابن هشام: تركنا بعضها لانه أقذع فيها.
وقال حسان يهجو الذين غدروا بأصحاب الرجيع من بنى لحيان، فيما ذكره ابن إسحاق والله أعلم ولله الحمد والمنة والتوفيق والعصمة: إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له * فأت الرجيع فسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم * فالكلب والقرد والانسان مثلان لو ينطق التيس يوما قام يخطبهم * وكان ذا شرف فيهم وذا شان وقال حسان بن ثابت أيضا، يهجو هذيلا وبنى لحيان على غدرهم بأصحاب الرجيع رضى الله تعالى عنهم أجمعين: لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك * أحاديث كانت في خبيب وعاصم
__________
(1) القلق: المتحرك المتساقط.
والاصل: الفلق.
ومن أثبته عن ابن هشام.
(2) الرفق: جمع رفقة.
(*)

أحاديث لحيان صلوا بقبيحها * ولحيان جرامون شر الجرائم أناس هم من قومهم في صميمهم * بمنزلة الزمعان دبر القوادم (1) هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت * أمانتهم ذا عفة ومكارم رسول رسول الله غدرا ولم تكن * هذيل توقى منكرات المحارم فسوف يرون النصر يوما عليهم * بقتل الذى تحميه دون الحرائم أبابيل دبر شمس دون لحمه * حمت لحم شهاد عظيم الملاحم (2) لعل هذيلا أن يروا بمصابه * مصارع قتلى أو مقاما لمأتم ونوقع فيها وقعة ذات صولة * يوافي بها الركبان أهل المواسم
بأمر رسول الله إن رسوله * رأى رأى ذى حزم بلحيان عالم قبيلة ليس الوفاء يهمهم * وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم إذا الناس حلوا بالفضاء رأيتهم * بمجرى مسيل الماء بين المخارم (3) محلهم دار البوار ورأيهم * إذا نابهم أمر كرأى البهائم * * * وقال حسان رضى الله عنه أيضا يمدح أصحاب الرجيع ويسميهم بشعره، كما ذكره ابن إسحاق رحمه الله تعالى: صلى الاله على الذين تتابعوا * يوم الرجيع فأكرموا وأثيبوا رأس السرية مرثد وأميرهم * وابن البكير إمامهم وخبيب وابن لطارق وابن دثنة منهم * وافاه ثم حمامه المكتوب والعاصم المقتول عند رجيعهم * كسب المعالى إنه لكسوب منع المقادة أن ينالوا ظهره * حتى يجالد إنه لنجيب قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان.
__________
(1) الزمعة: هنة زائدة وراء الظلف أو شبه أظفار الغنم في الرسغ وأراد بالقوادم: الايدى.
(2) الابابيل: الجماعات.
والدبر: ذكور النخل.
والشمس: الحامية.
والملاحم: الحروب.
وفى ابن هشام: عظام الملاحم.
(3) المخارم: مسايل الماء.
(*)

سرية عمرو بن أمية الضمرى على أثر مقتل خبيب قال الواقدي: حدثنى إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، و عبدالله بن أبى عبيدة، عن جعفر بن [ الفضل بن الحسن بن (1) ] عمرو بن أمية الضمرى، و عبدالله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبى عوف، وزاد بعضهم على بعض قالوا: كان أبو سفيان بن حرب قد
قال لنفر من قريش بمكة: ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشى في الاسواق فندرك ثأرنا ؟ فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله وقال له: إن أنت وفيتنى خرجت إليه حتى أغتاله، فإنى هاد بالطريق خريت، معى خنجر مثل خافية النسر.
قال: أنت صاحبنا.
وأعطاه بعيرا ونفقة وقال: اطو أمرك فإنى لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد.
قال: قال العربي: لا يعلمه أحد.
فخرج ليلا على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحى يوم سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى فقال له قائل: قد توجه إلى بنى عبد الاشهل.
فخرج الاعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بنى عبد الاشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده.
فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه: إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده.
فوقف وقال: أيكم ابن عبدالمطلب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبدالمطلب.
فذهب ينحنى على رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) هذه الزيادة وما بعدها من أمثالها منقولة عن الطبري 3: 32.
(*)

وسلم كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير وقال: تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بداخل إزاره، فإذا الخنجر، فقال: يا رسول الله هذا غادر.
فأسقط في يد الاعرابي وقال: دمى دمى يا محمد.
وأخده أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدقني ما أنت وما أقدمك، فإن صدقتني نفعك الصدق، وإن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به.
قال العربي: فأنا آمن ؟ قال: وأنت آمن.
فأخبره بخبر أبى سفيان وما جعل له.
فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير، ثم دعا به
من الغد فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت، أو خير لك من ذلك ؟ قال: وما هو ؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به، فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبى سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم.
وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أمية الضمرى ولسلمة بن أسلم بن حريس (2): اخرجا حتى تأتيا أبا سفيان بن حرب، فإن أصبتما منه غرة فاقتلاه.
قال عمرو: فخرجت أنا وصاحبى حتى أتينا بطن يأجج، فقيدنا بعيرنا وقال لى صاحبي: يا عمرو هل لك في أن نأتى مكة فنطوف بالبيت سبعا ونصلي ركعتين فقلت: [ أنا أعلم بأهل مكة منك إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم ثم جلسوا بها و (1) ] إنى أعرف
__________
(1) من تاريخ الطبري: 3 / 32.
(2) الاصل: حريش.
وهو تحريف وما أثبته عن شرح المواهب 2 / 178.
(*)

بمكة من الفرس الابلق.
فأبى على فانطلقنا فأتينا مكة فطفنا أسبوعا (1) وصلينا ركعتين، فلما خرجت لقيني معاوية بن أبى سفيان فعرفني وقال: عمرو بن أمية، واحزناه.
فنذر بنا أهل مكة، فقالوا: ما جاء عمرو في خير.
وكان عمرو فاتكا في الجاهلية.
فحشد أهل مكة وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة وخرجوا في طلبهما واشتدوا في الجبل.
قال عمرو: فدخلت في غار فتغيبت عنهم حتى أصبحت، وباتوا يطلبوننا في الجبل وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له، فلما كان ضحوة الغد أقبل عثمان بن مالك بن عبيدالله
التيمى يختلى لفرسه حشيشا فقلت لسلمة بن أسلم: إذا أبصرنا أشعر بنا أهل مكة وقد انفضوا عنا.
فلم يزل يدنو من باب الغار حتى أشرف علينا، فقال: فخرجت إليه فطعنته طعنة تحت الثدى بخنجري، فسقط وصاح فاجتمع أهل مكة فأقبلوا بعد تفرقهم [ ورجعت إلى مكاني فدخلت فيه ] وقلت لصاحبي: لا تتحرك.
فأقبلوا حتى أتوه وقالوا: من قتلك ؟ قال: عمرو بن أمية الضمرى.
فقال أبو سفيان: قد علمنا أنه لم يأت لخير.
ولم يستطع أن يخبرهم بمكاننا، فإنه كان بآخر رمق فمات، وشغلوا عن طلبنا بصاحبهم فحملوه، فمكثنا ليلتين في مكاننا حتى [ سكن عنا الطلب ثم ] خرجنا [ إلى التنعيم ] فقال صاحبي: يا عمرو بن أمية، هل لك في خبيب بن عدى تنزله ؟ فقلت له: أين هو ؟ قال: هو ذاك مصلوب حوله الحرس.
فقلت: أمهلنى وتنح عنى فإن خشيت شيئا فانح إلى بعيرك فاقعد عليه فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ودعني فإنى عالم بالمدينة.
ثم استدرت عليه حتى وجدته فحملته على ظهرى فما مشيت به إلا عشرين ذراعا حتى استيقظوا فخرجوا في أثرى فطرحت الخشبة فما أنسى وجيبها، يعنى صوتها، ثم أهلت عليه التراب برجلي، فأخذت طريق الصفراء فأعيوا ورجعوا، وكنت لا أدرى مع بقاء نفسي، فانطلق صاحبي إلى البعير فركبه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره،
__________
(1) أسبوعا: سبعا.
(*)

وأقبلت حتى أشرفت على الغليل غليل ضجنان، فدخلت في غار معى قوسى وأسهمي وخنجري، فبينما أنا فيه إذ أقبل رجل من بنى الديل بن بكر أعور طويل يسوق غنما ومعزى، فدخل الغار وقال: من الرجل ؟ فقلت: رجل من بنى بكر.
فقال: وأنا من بنى بكر.
ثم اتكأ ورفع عقيرته يتغنى ويقول: فلست بمسلم ما دمت حيا * ولست أدين دين المسلمينا فقلت في نفسي: والله إنى لارجو أن أقتلك.
فلما نام قمت إليه فقتلته شر قتلة
قتلها أحد قط.
ثم خرجت حتى هبطت، فلما أسهلت في الطريق إذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان الاخبار، فقلت: استأسرا فأبى أحدهما فرميته فقتلته، فلما رأى ذلك الآخر استأسر فشددته وثاقا، ثم أقبلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما قدمت المدينة أتى صبيان الانصار وهم يلعبون، وسمعوا أشياخهم يقولون: هذا عمرو.
فاشتد الصبيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وأتيته بالرجل قد ربطت إبهامه بوتر قوسى، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ! ثم دعا لى بخير.
وكان قدوم سلمة قبل قدوم عمرو بثلاثة أيام.
رواه البيهقى.
وقد تقدم أن عمرا لما أهبط خبيبا لم ير له رمة ولا جسدا، فلعله دفن مكان سقوطه، والله أعلم.
وهذه السرية إنما استدركها ابن هشام على ابن إسحاق، وساقها بنحو من سياق الواقدي لها، لكن عنده أن رفيق عمرو بن أمية في هذه السرية جبار بن صخر، فالله أعلم ولله الحمد.

سرية بئر معونة وقد كانت في صفر منها.
وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال: إنها كانت بعد الخندق.
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء.
فعرض لهم حيان من بنى سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة،
فقال القوم: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبى صلى الله عليه وسلم.
فقتلوهم.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بنحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا عبدالاعلى بن حماد، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن رعلا وذكوان وعصية وبنى لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الانصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب: على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع " بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا ".
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن إسحاق بن عبدالله ابن أبى طلحة، حدثنى أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث حراما،

أخا لام سليم، في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ثلاث خصال فقال: يكون لك أهل السهل ولى أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف.
فطعن عامر في بيت أم فلان (1) فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل فلان، ائتونى بفرسي، فمات على ظهر فرسه.
فانطلق حرام أخو أم سليم، وهو رجل أعرج، ورجل من بنى فلان فقال: كونا قريبا حتى آتيهم، فإن آمنونى كنتم قريبا وإن قتلوني أتيتم أصحابكم.
فقال: أتؤمنوني
حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجعل يحدثهم وأومأوا إلى رجل فأتاه من خلفه فطعنه.
قال همام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح.
فقال: الله أكبر ! فزت ورب الكعبة ! فلحق الرجل فقتلوا كلهم غير الاعرج، وكان في رأس جبل، فأنزل الله علينا ثم كان من المنسوخ: " إنا لقد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا ".
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحا على رعل وذكوان وبنى لحيان وعصية الذين عصوا الله ورسوله.
وقال البخاري: حدثنا حبان، حدثنا عبدالله، أخبرني معمر، حدثنى ثمامة ابن عبدالله بن أنس، أنه سمع أنس بن مالك يقول: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، وقال: فزت ورب الكعبة.
وروى البخاري عن عبيد بن إسماعيل، عن أبى أسامة، عن هشام بن عروة، أخبرني أبى، قال: لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمرى قال له عامر بن الطفيل: من هذا ؟ وأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة قال:
__________
(1) طعن: أصابه الطاعون.
وأم فلان: هي سلول بنت شيبان، امرأة أخيه.
(*)

لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى أنى لانظر إلى السماء بينه وبين الارض ثم وضع.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا.
فأخبرهم عنهم وأصيب يومئذ فيهم عروة بن أسماء بن الصلت فسمى عروة به، ومنذر بن عمرو وسمى به منذر.
هكذا وقع في رواية البخاري مرسلا عن عروة.
وقد رواه البيهقى من حديث يحيى بن سعيد بن أبى أسامة عن هشام، عن أبيه عن عائشة، فساق من حديث الهجرة، وأدرج في آخره ما ذكره البخاري هاهنا، فالله أعلم.
وروى الواقدي عن مصعب بن ثابت، عن أبى الاسود وعن عروة، فذكر القصة وشأن عامر بن فهيرة وإخبار عامر بن الطفيل أنه رفع إلى السماء، وذكر أن الذى قتله جبار بن سلمى الكلابي.
قال: ولما طعنه بالرمح قال: فزت ورب الكعبة.
ثم سأل جبار بعد ذلك: ما معنى قوله: فزت ؟ قالوا: يعنى بالجنة.
فقال: صدق والله.
ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك ! وفى مغازى موسى بن عقبة، عن عروة، أنه قال: لم يوجد جسد عامر بن فهيرة، يرون أن الملائكة وارته.
* * * وقال يونس: عن ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى بعد أحد، بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد.
فحدثني أبى إسحاق بن يسار، عن المغيرة بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام،

و عبدالرحمن بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الاسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فعرض عليه الاسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال صلى الله عليه وسلم: إنى أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو براء: أنا لهم جار.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، المعنق ليموت، في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين، فيهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان أخو بنى عدى بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمى، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعى، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر، في رجال من خيار المسلمين.
فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم، فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في الكتاب حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم، وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا.
فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم، عصية ورعلا وذكوان والقارة، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم ثم قاتلوا القوم حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار، فإنهم تركوه به رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى ورجل من الانصار من بنى عمرو بن عوف فلم ينبئهما بمصاب القوم إلا الطير تحوم حول العسكر فقالا: والله إن لهذه الطير

لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التى أصابتهم واقفة، فقال الانصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى ؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر.
فقال الانصاري: لكنى لم أكن لارغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لاخبر عنه الرجال.
فقاتل القوم حتى قتل، وأخذ عمرو أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فيما زعم !
قال: وخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما ؟ قالا: من بنى عامر.
فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما وقتلهما وهو يرى أن قد أصاب بهما ثأرا من بنى عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بالخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قتلت قتيلين لادينهما " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا عمل أبى براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا ".
فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره.
فقال حسان بن ثابت في إخفار عمار أبا براء ويحرض بنى أبى براء على عامر: بنى أم البنين ألم يرعكم * وأنتم من ذوائب أهل نجد تهكم عامر بأبى براء * ليخفره وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعى فم * ا أحدثت في الحدثان بعدى أبوك أبو الحروب أبو براء * وخالك ماجد حكم بن سعد

قال ابن هشام: أم البنين أم أبى براء، وهى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
قال: فحمل ربيعة بن عامر بن مالك على عامر بن الطفيل فطعنه في فخذه فأشواه (1) ووقع عن فرسه، وقال: هذا عمل أبى براء، إن أمت فدمي لعمى فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيى.
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري نحو سياق محمد بن إسحاق، قال موسى: وكان
أمير القوم المنذر بن عمرو وقيل: مرثد بن أبى مرثد.
وقال حسان بن ثابت يبكى قتلى بئر معونة، فيما ذكره ابن إسحاق رحمه الله، والله أعلم.
على قتلى معونة فاستهلى * بدمع العين سحا غير نزر على خيل الرسول غداة لاقوا * ولاقتهم مناياهم بقدر أصابهم الفناء بعقد قوم * تخون عقد حبلهم بغدر فيالهفى لمنذر إذ تولى * وأعنق في منيته بصبر وكائن قد أصيب غداة ذاكم * من ابيض ماجد من سر عمرو
__________
(1) أشواه: لم يصب مقاتله.
(*)

غزوة بنى النضير وهى التى أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بنى النضير.
وحكى البخاري عن الزهري، عن عروة أنه قال: كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد.
وقد أسنده ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه، عن عبدالله بن صالح، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري به.
وهكذا روى حنبل بن إسحاق، عن هلال بن العلاء، عن عبدالله بن جعفر الرقى، عن مطرف بن مازن اليماني، عن معمر، عن الزهري، فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين.
قال: ثم غزا بنى النضير، ثم غزا أحدا في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع.
وقال البيهقى: وقد كان الزهري يقول: هي قبل أحد.
قال: وذهب آخرون إلى أنها بعدها، وبعد بئر معونة أيضا.
قلت: هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم، فإنه بعد ذكره بئر معونة ورجوع عمرو ابن أمية وقتله ذينك الرجلين من بنى عامر، ولم يشعر بعهدهما الذى معهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد قتلت رجلين لادينهما ".
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بنى عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية، للعهد الذى كان صلى الله (10 السيرة 3)

عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بنى النضير وبين بنى عامر عهد وحلف، فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت.
ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد.
فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقى عليه صخرة ويريحنا منه.
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك.
فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى، فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة.
فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه فقال: رأيته داخلا المدينة.
فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به.
قال الواقدي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام ويعدونهم
النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيى بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهود.
فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم.
قال الواقدي: فحاصروهم خمس عشرة ليلة.
وقال ابن إسحاق: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في شهر ربيع الاول.
قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال، ونزل تحريم الخمر

حينئذ، وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها.
قال: وقد كان رهط من بنى عوف بن الخزرج منهم عبدالله بن أبى ووديعة ومالك وسويد وداعس قد بعثوا إلى بنى النضير: أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم.
فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم إلا الحلقة.
وقال العوفى: عن ابن عباس، أعطى كل ثلاثة بعيرا يعتقبونه [ و ] وسقا (1).
رواه البيهقى.
وروى من طريق يعقوب بن محمد، عن الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بنى النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال.
وروى البيهقى وغيره أنه كانت لهم ديون مؤجلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا.
وفى صحته نظر.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الابل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف (2) بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر: سلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وحيى بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها.
__________
(1) الوسق: حمل البعير.
(2) النجاف: أسكفة الباب.
(*)

فحدثني عبدالله بن أبى بكر أنه حدث أنهم استقبلوا بالنساء والابناء والاموال، معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر، ما رؤى مثله لحى من الناس في زمانهم.
قال: وخلوا الاموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى النخيل والمزارع، فكانت له خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الاولين دون الانصار، إلا أن سهل ابن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما، وأضاف بعضهم إليهما الحارث بن الصمة.
حكاه السهيلي.
قال ابن إسحاق: ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان وهما يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب، فأحرزا أموالهما.
قال ابن إسحاق: وقد حدثنى بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني ؟ فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله لعنه الله.
* * *
قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته وما سلط عليهم به رسوله وما عمل به فيهم.
ثم شرع ابن إسحاق يفسرها.
وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير ولله الحمد.
قال الله تعالى: " سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم، هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فأعتبروا يا أولى الابصار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار.
ذلك

بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.
ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين ".
سبح سبحانه وتعالى نفسه الكريمة، وأخبر أنه يسبح له جميع مخلوقاته العلوية والسفلية وأنه العزيز، وهو منيع الجناب فلا ترام عظمته وكبرياؤه، وأنه الحكيم في جميع ما خلق وجميع ما قدر وشرع، فمن ذلك تقديره وتدبيره وتيسيره لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين في ظفرهم بأعدائهم اليهود الذين شاقوا الله ورسوله وجانبوا رسوله وشرعه، وما كان من السبب المفضى لقتالهم كما تقدم، حتى حاصرهم المؤيد بالرعب والرهب مسيرة شهر، ومع هذا فأسرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال، فذهب بهم الرعب كل مذهب حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به ركابهم، على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم واحتقارا، فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولى الابصار.
ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء وهو التسيير والنفى من جوار الرسول من المدينة لاصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل، مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الاليم المقدر لهم.
ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم وترك ما بقى لهم، وأن ذلك كله سائغ فقال: " ما قطعتم من لينة " وهو جيد التمر " أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله " إن الجميع قد أذن فيه شرعا وقدرا، فلا حرج عليكم فيه ولنعم ما رأيتم من ذلك، وليس هو بفساد كما قاله شرار العباد، إنما هو إظهار للقوة وإخزاء للكفرة الفجرة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بنى النضير وقطع، وهى البويرة، فأنزل

الله: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين ".
وعند البخاري من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بنى النضير وقطع، وهى البويرة، ولها يقول حسان بن ثابت: وهان على سراة بنى لؤى * حريق بالبويرة مستطير فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول: أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها السعير ستعلم أينا منها بستر * وتعلم أي أرضينا نضير * * * قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بنى النضير وقتل كعب بن الاشرف فالله أعلم: لقد خزيت بغدرتها الحبور (1) * كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير وقد أوتوا معا فهما وعلما * وجاءهم من الله النذير نذير صادق أدى كتابا * وآيات مبينة تنير فقالوا ما أتيت بأمر صدق * وأنت بمنكر منا جدير فقال بلى لقد أديت حقا * يصدقني به الفهم الخبير فمن يتبعه يهد لكل رشد * ومن يكفر به يخز الكفور فلما أشربوا غدرا وكفرا * وجد بهم عن الحق النفور أرى الله النبي برأى صدق * وكان الله يحكم لا يجور فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير
__________
(1) الحبور: جمع حبر، وهم علماء اليهود.
(*)

فغودر منهم كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير فما كره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور فتلك بنو النضير بدار سوء * أبارهم بما اجترموا المبير (1) غداة أتاهم في الزحف رهوا (2) * رسول الله وهو بهم بصير وغسان الحماة مؤازروه * على الاعداء وهو لهم وزير فقال السلم ويحكم فصدوا * وخالف أمرهم كذب وزور فذاقوا غب أمرهم وبالا * لكل ثلاثة منهم بعير وأجلوا عامدين لقينقاع * وغودر منهم نخل ودور وقد ذكر ابن إسحاق جوابها لسمال اليهودي، فتركناها قصدا.
* * * قال ابن إسحاق: وكان مما قيل في بنى النضير قول ابن لقيم العبسى، ويقال: قالها قيس بن بحر بن طريف الاشجعي: أهلى فداء لامرئ غير هالك * أحل اليهود بالحسى المزنم (3) يقيلون في جمر العضاه وبدلوا * أهيضب عودا بالودى المكمم (4) فإن يك ظنى صادقا بمحمد * تروا خيله بين الصلا ويرمرم (5) يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم * عدو وما حى صديق كمجرم عليهن أبطال مساعير في الوغى * يهزون أطراف الوشيج المقوم (6)
__________
(1) أبارهم: أهلكهم.
(2) رهوا: سيرا سهلا.
(3) الحسى: ما يحسى من الطعام والمزنم الرجل يكون في القوم ليس منهم.
يريد: أحلهم بأرض غربة في غير عشائرهم.
وانظر الروض الانف ؟ ؟ 2 / 177.
(4) جمر: الاصل خمر.
وما أثبته من ابن هشام.
والعضاه: شجر.
وأهيضب مكان مرتفع.
والودى: صغار النخل.
والمكمم: الذى خرج كمامه.
(5) الصلا: موضع.
ويرمرم جبل.
(6) الوشيج: شجر الرماح.
(*)

وكل رقيق الشفرتين مهند * توورثن من أزمان عاد وجرهم فمن مبلغ عنى قريشا رسالة * فهل بعدهم في المجد من متكرم بأن أخاهم فاعلمن محمدا * تليد الندى بين الحجون وزمزم فدينوا له بالحق تجسم أموركم * وتسمو من الدنيا إلى كل معظم نبى تلافته من الله رحمة * ولا تسألوه أمر غيب مرجم فقد كان في بدر لعمري عبرة * لكم يا قريش والقليب الملمم غداة أتى في الخزرجية عامدا * إليكم مطيعا للعظيم المكرم معانا بروح القدس ينكى عدوه * رسولا من الرحمن حقا بمعلم
رسولا من الرحمن يتلو كتابه * فلما أنار الحق لم يتلعثم أرى أمره يزداد في كل موطن * علوا لامر حمه الله محكم * * * قال ابن إسحاق: وقال على بن أبى طالب، وقال ابن هشام: قالها رجل م المسلمين، ولم أر أحدا يعرفها لعلى: عرفت ومن يعتدل يعرف * وأيقنت حقا ولم أصدف عن الكلم المحكم اللاء من * لدى الله ذى الرأفة الارأف رسائل تدرس في المؤمنين * بهن اصطفى أحمد المصطفى فأصبح أحمد فينا عزيزا * عزيز المقامة والموقف فيا أيها الموعدوه سفاها * ولم يأت جورا ولم يعنف ألستم تخافون أدنى العذاب * وما آمن الله كالاخوف وأن تصرعوا تحت أسيافه * كمصرع كعب أبى الاشرف غداة رأى الله طغيانه * وأعرض كالجمل الاجنف فأنزل جبريل في قتله * بوحى إلى عبده ملطف

فدس الرسول رسولا له * بأبيض ذى هبة مرهف فباتت عيون له معولات * متى ينع كعب لها تذرف وقلن لاحمد ذرنا قليلا * فإنا من النوح لم نشتف فخلاهم ثم قال اظعنوا * دحورا على رغم الآنف وأجلى النضير إلى غربة * وكانوا بدار ذوى زخرف إلى أذرعات ردافا وهم * على كل ذى دبر أعجف وتركنا جوابها أيضا من سمال اليهودي قصدا.
* * * ثم ذكر تعالى حكم الفئ، وأنه حكم بأموال بنى النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملكها له، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراه الله تعالى.
كما ثبت في الصحيحين، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان يعزل نفقة أهله سنة ثم يجعل ما بقى في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عزوجل.
ثم بين تعالى حكم الفئ وأنه للمهاجرين والانصار والتابعين لهم بإحسان على منوا لهم وطريقتهم: " ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كى لا يكون دولة بين الاغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب ".
قال الامام أحمد: حدثنا عارم وعفان، قالا: حدثنا معتمر، سمعت أبى يقول: حدثنا أنس بن مالك، عن نبى الله صلى الله عليه وسلم أن لرجل كان يجعل له من ماله النخلات أو كما شاء الله، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، قال: فجعل يرد بعد ذلك.

قال: وإن أهلى أمروني أن آتى نبى الله صلى الله عليه وسلم فأسأله الذى كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان نبى الله صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن أو كما شاء الله.
قال: فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وجعلت تقول: كلا والله الذى لا إله إلا هو لا أعطيكهن وقد أعطانيهن أو كما قالت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك كذا وكذا.
وتقول: كلا والله.
قال: ويقول لك كذا وكذا.
وتقول: كلا والله.
قال: ويقول لك كذا وكذا حتى أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو قال قريبا من عشرة أمثاله أو كما قال.
أخرجاه بنحوه من طرق عن معتمر به.
ثم قال تعالى: ذاما للمنافقين الذين مالوا إلى بنى النضير في الباطن كما تقدم، ووعدوهم النصر فلم يكن من ذلك شئ، بل خذلوهم أحوج ما كانوا إليهم، وغروهم من أنفسهم فقال: " ألم تر إلى الذين نافقو يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون، لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون ".
ثم ذمهم تعالى على جبنهم وقلة علمهم وخفة عقلهم النافع، ثم ضرب لهم مثلا قبيحا شنيعا بالشيطان حين " قال للانسان: اكفر فلما كفر قال: إنى برئ منك إنى أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين ".

قصة عمرو بن سعدى القرظى حين مر على ديار بنى النضير وقد صارت يبابا ليس بها داع ولا مجيب، وقد كانت بنو النضير أشرف منى بنى قريظة، حتى حداه ذلك على الاسلام وأظهر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة.
قال الواقدي حدثنا ابراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: لما خرجت بنو النضير من المدينة أقبل عمرو بن سعدى فأطاف بمنازلهم، فرأى خرابها وفكر، ثم رجع إلى بنى قريظة فوجدهم في الكنيسة، فنفخ في بوقهم فاجتمعوا فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد أين كنت منذ اليوم لم تزل.
وكان لا يفارق الكنيسة وكان يتأله في اليهودية.
قال: رأيت اليوم عبرا قد عبرنا بها، رأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل والعقل البارع، قد تركوا أموالهم وملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة، وقد أوقع قبل ذلك بابن الاشرف
ذى عزهم ثم بيته في بيته آمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببنى قينقاع فأجلاهم وهم أهل جد يهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم وكلم فيهم فتركهم على أن أجلاهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا، والله إنكم لتعلمون أنه نبى قد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان أبو عمير وابن حراش، وهما أعلم يه ؟ د جاءانا يتوكفان قدومه وأمرانا باتباعه، جاءانا من بيت المقدس وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا هذه.
فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم.
ثم أعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.
فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب باطا، التوراة التى نزلت على موسى، ليس في المثانى الذى أحدثنا.

قال: فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبدالرحمن من اتباعه ؟ قال أنت يا كعب.
قال كعب: فلم ؟ والتوراة ما حلت بينك وبينه قط.
قال الزبير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا فإن اتبعته اتبعناه وإن أبيت أبينا.
فأقبل عمرو بن سعدى على كعب، فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال عمرو: ما عندي في أمره إلا ما قلت: ما تطيب نفسي أن أصير تابعا ! رواه البيهقى.
غزوة بنى لحيان التى صلى فيها صلاة الخوف بعسفان ذكرها البيهقى في الدلائل، وإنما ذكرها ابن إسحاق فيما رأيته من طريق هشام عن زياد عنه في جمادى الاولى من سنة ثنتين من الهجرة بعد الخندق وبنى قريظة وهو أشبه مما ذكره البيهقى والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار وغيره، قالوا: لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طالبا بدمائهم ليصيب من بنى لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بنى لحيان حتى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة ".
فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم (1) ثم انصرفا.
فذكر أبو عياش الزرقى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف.
__________
(1) الغميم: ود أمام عسفان بثمالية أميال.
بضاف إلى كراع، جبل أسود بطرف الحرة ممتد إليه.
(*)

وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم.
ثم قالوا: تأتى الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.
قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ".
قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد بالصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء.
قال: ثم ركع
فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد الصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم.
ثم انصرف.
قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، مرة بأرض عسفان، ومرة بأرض بنى سليم.
ثم رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، عن منصور به، نحوه.
وقد رواه أبو داود عن سعيد بن منصور، عن جرير بن عبدالحميد، والنسائي عن الفلاس، عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن محمد بن المثنى، وأبندار، عن غندر، عن شعبة ثلاثتهم عن منصور به.
وهذا إسناد على شرط الصحيحين، ولم يخرجه واحد منهما.
لكن روى مسلم من طريق أبى خيثمة زهير بن معاوية، عن أبى الزبير، عن جابر

قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من جهينة، فقاتلوا قتالا شديدا، فلما أن صلى الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم.
فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الاولاد " فذكر الحديث كنحو ما تقدم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا هشام، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر بنخل، فهم به المشركون ثم قالوا: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه الصلاة هي أحب إليهم من أبنائهم.
قال: فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصلى بأصحابه صلاة العصر، فصفهم صفين بين أيديهم رسول الله والعدو بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر وكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونهم والآخرون
قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون، ثم تقدم هؤلاء وتأخر هؤلاء، فكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون.
وقد استشهد البخاري في صحيحه برواية هشام هذه عن أبى الزبير، عن جابر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائى (1)، حدثنا عبدالله بن شقيق، حدثنا أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم وهى العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة.
وإن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقيم أصحابه شطرين فيصلى
__________
(1) الهنائى: نسبة إلى هناءة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، بطن من الازد.
اللباب 3 / 294.
(*)

ببعضهم ويقدم الطائفة الاخرى وراءهم، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، ثم تأتى الاخرى فيصلون معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، ليكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسول الله ركعتان.
ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الصمد به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قلت: إن كان أبو هريرة شهد هذا فهو بعد خيبر، وإلا فهو من مرسلات الصحابي، ولا يضر ذلك عند الجمهور.
والله أعلم.
ولم يذكر في سياق حديث جابر عند مسلم ولا عند أبى داود الطيالسي أمر عسفان ولا خالد بن الوليد، لكن الظاهر أنها واحدة.
* * * بقى الشأن في أن غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها ؟ فإن من العلماء، منهم الشافعي، من يزعم أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد يوم الخندق، فإنهم أخروا الصلاة
يومئذ عن ميقاتها لعذر القتال، ولو كانت صلاة الخوف مشروعة إذ ذاك لفعلوها ولم يؤخروها، ولهذا قال بعض أهل المغازى: إن غزوة بنى لحيان التى صلى فيها صلاة الخوف بعسفان كانت بعد بنى قريظة.
وقد ذكر الواقدي بإسناده عن خالد بن الوليد قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليه ثم لم يعزم لنا، فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف.
قلت: وعمرة الحديبية كانت في ذى القعدة سنة ست بعد الخندق وبنى قريظة كما سيأتي.
وفى سياق حديث أبى عياش الزرقى ما يقتضى أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه

الغزوة يوم عسفان، فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها.
والله أعلم.
وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية صلاة الخوف واختلاف الروايات فيها في كتاب " الاحكام الكبير " إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
غزوة ذات الرقاع قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير شهرى ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان واستعمل على المدينة أبا ذر.
قال ابن هشام: ويقال: عثمان بن عفان.
قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل نخلا وهى غزوة ذات الرقاع.
قال ابن هشام: لانهم رقعوا فيها راياتهم، ويقال لشجرة هناك اسمها ذات الرقاع.
وقال الواقدي: بجبل فيه بقع حمر وسود وبيض.
وفى حديث أبى موسى: إنما سميت بذلك لما كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق من شدة الحر.
قال ابن إسحاق: فلقى بها جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف.
وقد أسند ابن هشام حديث صلاة الخوف هاهنا عن عبد الوارث بن سعيد التنورى، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبدالله، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن أبى الزبير، عن جابر، وعن عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع،

عن ابن عمر، ولكن لم يذكر في هذه الطرق غزوة نجد ولا ذات الرقاع، ولم يتعرض لزمان ولا مكان.
وفى كون غزوة ذات الرقاع التى كانت بنجد لقتال بنى محارب وبنى ثعلبة بن غطفان قبل الخندق نظر.
وقد ذهب البخاري إلى أن ذلك كان بعد خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى الاشعري شهدها، كما سيأتي، وقدومه إنما كان ليالى خيبر صحبة جعفر وأصحابه، وكذلك أبو هريرة، وقد قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة نجد صلاة الخوف.
ومما يدل على أنها بعد الخندق أن ابن عمر إنما أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال أول ما أجازه يوم الخندق.
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فذكر صلاة الخوف.
وقول الواقدي: إنه عليه السلام خرج إلى ذات الرقاع في أربعمائة ويقال سبعمائة من
أصحابه ليلة السبت لعشر خلون من المحرم سنة خمس.
فيه نظر.
ثم لا يحصل به نجاة من أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق، لان الخندق كان في شوال سنة خمس على المشهور، وقيل في شوال سنة أربع، فتحصل على هذا القول مخلص من حديث ابن عمر، فأما حديث أبى موسى وأبى هريرة فلا.
قصة غورث بن الحارث قال ابن إسحاق في هذه الغزوة: حدثنى عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن جابر ابن عبدالله، أن رجلا من بنى محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب: (11 - السيرة - 3)

ألا أقتل لكم محمدا ؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله ؟ قال: أفتك به.
قال: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره.
فقال: يا محمد، أنظر إلى سيفك هذا ؟ قال: نعم.
فأخذه ثم جعل يهزه ويهم، فكبته الله.
ثم قال: يا محمد، أما تخافني ؟ قال: لا، ما أخاف منك ؟ قال: أما تخافني وفى يدى السيف ؟ قال: لا، يمنعنى الله منك.
ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه.
فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (1) ".
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش أخى بنى النضير وما هم به.
* * * هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة
الضالة، وهو وإن كان لايتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغى أن يروى عنه لبدعته ودعائه إليها.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه ولله الحمد.
فقد أورد الحافظ البيهقى هاهنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن، وهى ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري عن سنان بن، أبى سنان وأبى سلمة عن جابر، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القائلة في واد كثير العضاه (2)، فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه.
__________
(1) سورة المائدة.
(2) العضاه: شجر عظيم له شوك.
(*)

قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفى وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا (1) فقال: من يمنعك منى ؟ قلت: الله.
فشام السيف وجلس.
ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك.
وقد رواه مسلم أيضا، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن عفان، عن أبان، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل من المشركين، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة، فأخذ سيف رسول الله فاخترطه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تخافني ؟ قال: لا.
قال: فمن يمنعك منى ؟ قال: الله يمنعنى منك.
قال: فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغمد السيف وعلقه.
قال: ونودى بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الاخرى
ركعتين.
قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان.
وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به.
قال البخاري: وقال: مسدد عن أبى عوانة عن أبى بشر، إن اسم الرجل غورث بين الحارث.
وأسند البيهقى من طريق أبى عوانة، عن أبى بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب وغطفان بنخل، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: من يمنعك منى ؟ قال: الله.
فسقط السيف من يده.
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يمنعك منى ؟ فقال: كن خير
__________
(1) صلتا: مجردا من غمده، بمعنى مصلت.
(*)

آخذ.
قال: تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
فخلى سبيله، فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس.
ثم ذكر صلاة الخوف، وأنه صلى أربع ركعات، بكل طائفة ركعتين.
وقد أورد البيهقى هنا طرق صلاة الخوف بذات الرقاع، عن صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبى حثمة، وحديث الزهري، عن سالم عن أبيه، في صلاة الخوف بنجد.
وموضع ذلك كتاب الاحكام.
والله أعلم.
قصة الذى أصيبت امرأته في هذه الغزوة قال محمد بن إسحاق: حدثنى عمى صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن جابر بن عبدالله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا، أتى زوجها وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف لا ينتهى حتى يهريق في أصحاب
محمد دما.
فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فقال: من رجل يكلؤنا ليلتنا ؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الانصار.
فقالا: نحن يا رسول الله، قال: فكونا بفم الشعب من الوادي.
وهما عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فلما خرجا إلى فم الشعب قال الانصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيكه أوله أم آخره ؟ قال: بل اكفني أوله.
فاضطجع المهاجرى فنام وقام الانصاري يصلى.
قال: وأتى الرجل فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم

فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائما.
قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه وثبت قائما.
قال: ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبت.
قال: فوثب الرجل فلما رآهما عرف أنه قد نذرا به، فهرب.
قال: ولما رأى المهاجرى ما بالانصارى من الدماء قال: سبحان الله أفلا أهببتنى أول ما رماك ؟ ! قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها، فلما تابع على الرمى ركعت فأذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها ! هكذا ذكره ابن إسحاق في المغازى.
وقد رواه أبو داود عن أبى توبة، عن عبدالله ابن المبارك، عن ابن إسحاق به.
وقد ذكر الواقدي عن عبدالله العمرى، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه، حديث صلاة الخوف بطوله.
قال: وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبى جارية وضيئة، وكان زوجها يحبها، فحلف ليطلبن محمدا ولا يرجع حتى يصيب دما أو يخلص صاحبته، ثم ذكر من السياق نحو ما أورده محمد بن إسحاق.
قال الواقدي: وكان جابر بن عبدالله يقول: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فأقبل إليه أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه في يدى الذى أخذ فرخه، فرأيت أن الناس عجبوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه ؟ فوالله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه ! !

قصة جمل جابر في هذه الغزوة قال محمد بن إسحاق: حدثنى وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا جابر ؟ قلت: يا رسول الله أبطأ بى جملى هذا.
قال: أنخه.
قال: فأنخته وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك أو اقطع عصا من شجرة.
ففعلت فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال: اركب.
فركبت، فخرج والذى بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة (1).
قال: وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتبيعني جملك هذا يا جابر ؟ قال: قلت: بل أهبه لك.
قال: لا ولكن بعنيه، قال: قلت: فسمنيه، قال: قد أخذته بدرهم، قال: قلت: لا إذا تغبننى يا رسول الله ! قال: فبدرهمين، قال: قلت: لا.
قال: فلم يزل يرفع لى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الاوقية، قال: فقلت: أفقد
رضيت ؟ قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته.
ثم قال: يا جابر هل تزوجت بعد ؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: أثيبا أم بكرا ؟ قال: قلت: بل ثيبا.
قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ! قال: قلت يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن.
قال: أصبت إن شاء الله، أما إنا لو جئنا صرارا (2) أمرنا بجزور فنحرت فأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها.
قال: فقلت: والله يا رسول الله مالنا نمارق.
قال: إنها ستكون فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا.
__________
(1) المواهقة.
المباراة.
(2) صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة.
(*)

قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ودخلنا.
قال: فحدثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك فسمع وطاعة.
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال: ما هذا ؟ قالوا: يا رسول الله هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر، فدعيت له، قال: فقال: يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك.
قال: ودعا بلالا فقال: اذهب بجابر فأعطه أوقية.
قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية وزادني شيئا يسيرا.
قال: فوالله ما زال ينمى عندي ويرى مكانه من بيننا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا.
يعنى يوم الحرة.
وقد أخرجه صاحب الصحيح من حديث عبيد الله بن عمر العمرى، عن وهب بن
كيسان، عن جابر بنحوه.
قال السهيلي: في هذا الحديث إشارة إلى ما كان أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله أن الله أحيا والده وكلمه فقال له: تمن على.
وذلك أنه شهيد وقد قال الله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم " وزادهم على ذلك في قوله: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " ثم جمع لهم بين العوض والمعوض فرد عليهم أرواحهم التى اشتراها منهم فقال: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " والروح للانسان بمنزلة المطية كما قال ذلك عمر بن عبد العزيز قال:

فلذلك اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جابر جمله، وهو مطيته، فأعطاه ثمنه ثم رده عليه وزاده مع ذلك.
قال: ففيه تحقيق لما كان أخبره به عن أبيه.
وهذا الذى سلكه السهيلي هاهنا إشارة غريبة وتخيل بديع.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ترجم الحافظ البيهقى في كتابه " دلائل النبوة " على هذا الحديث في هذه الغزوة فقال: باب ما كان ظهر في غزاته هذه من بركاته وآياته في جمل جابر بن عبدالله رضى الله عنه.
وهذا الحديث له طرق عن جابر وألفاظ كثيرة، وفيه اختلاف كثير في كمية ثمن الجمل وكيفية ما اشترط في البيع.
وتحرير ذلك واستقصاؤه لائق بكتاب البيع من الاحكام والله أعلم.
وقد جاء تقييده بهذه الغزوة، وجاء تقييده بغيرها، كما سيأتي.
ومستبعد تعداد ذلك والله أعلم.

غزوة بدر الآخرة
وهى بدر الموعد التى تواعدوا إليها من أحد كما تقدم.
قال ابن إسحاق: ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبدالله بن عبدا لله بن أبى بن سلول.
قال ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأقام عليه ثمانيا ينتظر أبا سفيان.
وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية الظهران.
وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان ثم بدا له في الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب وإنى راجع فارجعوا.
فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
قال: وأتى مخشى بن عمرو الضمرى وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بنى ضمرة فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال: نعم يا أخا بنى ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال: لا والله يا محمد مالنا بذلك من حاجة.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا.
قال ابن إسحاق: وقد قال عبدالله بن رواحة يعنى في انتظارهم أبا سفيان ورجوعه بقريش عامه ذلك.
قال ابن هشام: وقد أنشدنيها أبو زيد لكعب بن مالك:

وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد * لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو لاقيتنا فلقيتنا * لابت ذميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه * وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم * وأمركم السئ الذى كان غاويا فإنى وإن عنفتموني لقائل * فدى لرسول الله أهلى وماليا أطعناه لم نعد له فينا بغيره * شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك: دعوا فلجات الشام قد حال دونها * جلاد كأفواه المخاض الاوارك (1) بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم * وأنصاره حقا وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالك أقمنا على الرس النزوع ثمانيا * بأرعن جرار عريض المبارك (2) بكل كميت جوزه نصف خلقه * وقب طوال مشرفات الحوارك (3) ترى العرفج العامي تذرى أصوله * مناسم أخفاف المطى الرواتك (4) فإن تلق في تطوافنا والتماسنا * فرات بن حيان يكن رهن هالك وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده * يزد في سواد لونه لون حالك فأبلغ أبا سفيان عنى رسالة * فإنك من غر الرجال الصعالك قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وقد أسلم فيما بعد ذلك: أحسان إنا يا ابن آكلة الفغا * وجدك نغتال الخروق كذلك (5)
__________
(1) الفلجات: جمع فلج، وهو النهر الصغير.
والاوارك: الابل التى رعت الاراك.
(2) الرس: البئر.
والنزوع: القريبة القعر.
والارعن: الجيش ذو الفضول.
(3) الكميت: الفرس.
والجوز: الوسط.
والقب: جمع أقب، وهو الفرس الضامر البطن والحوارك: جمع حارك وهو أعلى الكاهل.
(4) العرفج: شجر سهلى.
والعامي: الذى أتى عليه العام.
والرواتك: المسرعة.
(5) الفغا: شئ كالتبن.
والخروق: القفار.
ونفتال: نقطع.
(*)

خرجنا وما تنجو اليعافير بيننا * ولو وألت منا بشد مدارك (1) إذا ما انبعثنا من مناخ حسبته * مدمن أهل الموسم المتعارك (2) أقمت على الرس النزوع تريدنا * وتتركنا في النخل عند المدارك على الزرع تمشى خيلنا وركابنا * فما وطئت ألصقنه بالدكادك (3) أقمنا ثلاثا بين سلع وفارع * بجرد الجياد والمطى الرواتك (4) حسبتم جلاد القوم عند فنائكم (5) * كمأخذكم بالعين أرطال آنك (6) فلا تبعث الخيل الجياد وقل لها * على نحو قول المعصم المتماسك سعدتم بها وغيركم كان أهلها * فوارس من أبناء فهر بن مالك فإنك لا في هجرة إن ذكرتها * ولا حرمات دينها أنت ناسك (7) قال ابن هشام: تركنا منها أبياتا لاختلاف قوافيها.
وقد ذكر موسى بن عقبة عن الزهري وابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبى سفيان، وانبعث المنافقون في الناس يثبطونهم، فسلم الله أولياءه، وخرج المسلمون صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وأخذوا معهم بضائع وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر.
__________
(1) اليعافير: جمع يعفور وهو ولد الظبية.
ووألت: احتمت.
والشد: الجرى.
(2) المدمن: الموضع به آثار الناس والدواب.
(3) الدكادك: جمع دكدك، ما تكبس واستوى من الرمل، أو أرض فيها غلظ.
(4) الرواتك: التى تقارب في خطوها.
(5) ابن هشام: عند قبابهم.
ورواها ابن سلام في طبقات الشعراء: حول بيوتكم.
(6) العين: المال، والذهب، والدينار.
والآنك: الرصاص الابيض.
وقد ذكر السهيلي عن ابن
سلام أن أبا سفيان بن حرب قال لابي سفيان بن الحارث: يابن أخى لم جعلتها آنك، إن كانت الفضة بيضاء جيدة ! (7) وتروى: ولا حرمات الدين أنت بناسك.
(*)

ثم ذكر نحو سياق ابن إسحاق في خروج أبى سفيان إلى مجنة، ورجوعه، وفى مقاولة الضمرى، وعرض النبي صلى الله عليه وسلم والمنابذة فأبى ذلك.
قال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها في ألف وخمسمائة من أصحابه، واستخلف على المدينة عبدالله بن رواحة.
وكان خروجه إليها في مستهل ذى القعدة، يعنى سنة أربع.
والصحيح قول ابن إسحاق، أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة، ووافق قول موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال: في سنة ثلاث وهذا وهم، فإن هذه توعدوا إليها من أحد وكانت أحد في شوال سنة ثلاث كما تقدم.
والله أعلم.
قال الواقدي: فأقاموا ببدر مدة الموسم الذى كان يعقد فيها ثمانية أيام، فرجعوا وقد ربحوا من الدرهم درهمين.
وقال غيره: فانقلبوا كما قال الله عزوجل: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (1) ".
فصل في جملة من الحوادث الواقعة سنة أربع من الهجرة قال ابن جرير: وفى جمادى الاولى من هذه السنة مات عبدالله بن عثمان بن عفان رضى الله عنه، يعنى من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ست سنين، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حفرته والده عثمان بن عفان رضى الله عنه.
قلت: وفيه توفى أبو سلمة عبدالله بن عبد الاسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن
مخزوم القرشى المخزومى، وأمه برة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتضعا من ثويبة مولاة أبى لهب.
__________
(1) سورة آل عمران 174.
(*)

وكان إسلام أبى سلمة وأبى عبيدة وعثمان بن عفان والارقم بن أبى الارقم قديما في يوم واحد.
وقد هاجر هو وزوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة وقد ولد لهما بالحبشة أولاد، ثم هاجر من مكة إلى المدينة، وتبعته أم سلمة إلى المدينة كما تقدم.
وشهد بدرا وأحدا، ومات من آثار جرح جرحه بأحد.
رضى الله عنه وأرضاه.
له حديث واحد في الاسترجاع عند المصيبة، سيأتي في سياق تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة قريبا.
* * * قال ابن جرير: وفى ليال خلون من شعبان منها ولد الحسين بن على من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم.
قال: وفى شهر رمضان من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبدالله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، الهلالية.
وقد حكى أبو عمر بن عبد البر، عن على بن عبد العزيز الجرجاني أنه قال: كانت أخت ميمونة بنت الحارث.
ثم استغربه وقال: لم أره لغيره.
وهى التى يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم وبرها لهم وإحسانها إليهم.
وأصدقها ثنتى عشرة أوقية ونشا (1) ودخل بها في رمضان، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها.
قال أبو عمر بن عبد البر، عن على بن عبد العزيز الجرجاني: ثم خلف عليها أخوه
عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.
قال ابن الاثير في الغابة: وقيل كانت تحت عبدالله بن جحش فقتل عنها يوم أحد.
__________
(1) النش: نصف أوقية، وهو عشرون درهما.
(*)

قال أبو عمر: ولا خلاف أنها ماتت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت رضى الله عنها.
وقال الواقدي: في شوال من هذه السنة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بنت أبى أمية.
* * * قلت: وكانت قبله عند زوجها أبى أولادها أبى سلمة بن عبد الاسد، وقد كان شهد أحدا كما تقدم، وجرح يوم أحد فداوى جرحه شهرا حتى برئ، ثم خرج في سرية فغنم منها نعما ومغنما جيدا، ثم أقام بعد ذلك سبعة عشر يوما ثم انتقض عليه جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الاولى من هذه السنة.
فلما حلت في شوال خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفسها بنفسه الكريمة وبعث إليها عمر بن الخطاب في ذلك مرارا، فتذكر أنها امرأة غيرى، أي شديدة الغيرة وأنها مصبية، أي لها صبيان يشغلونها عنه ويحتاجون إلى مؤنة تحتاج معها أن تعمل لهم في قوتهم، فقال: أما الصبية فإلى الله وإلى رسوله.
أي نفقتهم ليس إليك، وأما الغيرة فأدعو الله فيذهبها.
فأذنت في ذلك وقالت لعمر آخر ما قالت له: قم فزوج النبي صلى الله عليه وسلم.
تعنى قد رضيت وأذنت.
فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبى سلمة، وقد كان إذ ذاك صغيرا لا يلى مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءا مفردا بينت فيه الصواب في ذلك.
ولله الحمد والمنة.
وأن الذى ولى عقدها عليه ابنها سلمة بن أبى سلمة، وهو أكبر ولدها.
وساغ هذا لان أباه ابن عمها، فللا بن ولاية أمه إذا كان سببا لها من غير جهة البنوة بالاجماع، وكذا إذا كان معتقا أو حاكما.

فأما محض البنوة فلا يلى بها عقد النكاح عند الشافعي وحده، وخالفه الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله.
ولبسط هذا موضع آخر يذكر فيه، وهو كتاب النكاح من الاحكام الكبير.
إن شاء الله.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، يعنى ابن سعد، عن يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد، عن عمرو بن أبى عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة قالت: أتانى أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به، قال: " لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم آجرنى في مصيبتي واخلف لى خيرا منها إلا فعل به ".
قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه.
فلما توفى أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم آجرنى في مصيبتي واخلف لى خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لى خير من أبى سلمة ؟ فلما انقضت عدتي استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لى، فغسلت يدى من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بى أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة بى غيرة شديدة، فأخاف أن ترى منى شيئا يعذبنى الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال.
فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسيذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد
أصابني مثل الذى أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي.
فقالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت أم سلمة: فقد أبدلني الله بأبى سلمة خيرا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عمر بن أبى سلمة، عن أمه أم سلمة عن أبى سلمة به.
وقال الترمذي حسن غريب.
وفى رواية للنسائي عن ثابت عن ابن عمر بن أبى سلمة عن أبيه.
ورواه ابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة عن يزيد بن هارون، عن عبدالملك بن قدامة الجمحى عن أبيه، عن عمر بن أبى سلمة به.
* * * وقال ابن إسحاق: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعنى من بدر الموعد - راجعا إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة وولى تلك الحجة المشركون وهى سنة أربع.
وقال الواقدي: وفى هذه السنة يعنى سنة أربع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود.
قلت: فثبت عنه في الصحيح أنه قال: تعلمته في خمسة عشر يوما.
والله أعلم.

سنة خمس من الهجرة النبوية غزوة دومة الجندل في ربيع الاول منها قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل (1).
قال ابن هشام: في ربيع الاول - يعنى من سنة خمس - واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا، فأقام
بالمدينة بقية سنته.
هكذا قال ابن إسحاق.
وقد قال محمد بن عمر الواقدي بإسناده عن شيوخه عن جماعة من السلف قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنو إلى أداني الشام، وقيل له: إن ذلك مما يفزع قيصر، وذكر له أن بدومة الجندل جمعا كبيرا وأنهم يظلمون من مر بهم، وكان لها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة.
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بنى عذرة يقال له مذكور، هاد خريت (2).
فلما دنا من دومة الجندل أخبره دليله بسوائم بنى تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا،
__________
(1) دومة: بضم الدال عند أهل اللغة، وأصحاب الحديث يفتحونها.
كذا في الصحاح.
قال البكري: سميت بدومى بن إسماعيل، وكان نزلها.
(شرح المواهب 2 / 95).
(2) الخريت: الماهر بالهداية.
(12 - السيرة 3) (*)

فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد فيها أحدا، فأقام بها أياما، وبث السرايا، ثم رجعوا وأخذ محمد بن سلمة رجلا منهم فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس.
فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال الواقدي: وكان خروجه عليه السلام إلى دومة الجندل في ربيع الآخر (1) سنة خمس.
قال: وفيه توفيت أم سعد بن عبادة، وابنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة.
وقد قال أبو عيسى الترمذي في جامعه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أم سعد ماتت والنبى صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر.
وهذا مرسل جيد، وهو يقتضى أنه عليه السلام غاب في هذه الغزوة شهرا فما فوقه على ما ذكره الواقدي رحمه الله.
غزوة الخندق وهى غزوة الاحزاب وقد أنزل الله تعالى فيها صدر سورة الاحزاب.
فقال تعالى: " يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا، وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا
__________
(1) عند ابن جرير عن الواقدي: في ربيع الاول.
وكذلك في شرح المواهب: " وكان في شهر ربيع الاول على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة " وكان رجوعه إلى المدينة في العشرين من ربيع الآخر.
(*)

شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة.
وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد
بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذى يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير، أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الاعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما * ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها وكان الله على كل شئ قديرا ".
وقد تكلمنا على كل من هذه الآيات الكريمات في التفسير ولله الحمد والمنة.

ولنذكر هاهنا ما يتعلق بالقصة إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
* * * وقد كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن إسحاق وعروة بن الزبير وقتادة والبيهقي وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا.
وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الاحزاب في شوال سنة أربع.
وكذلك قال الامام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه.
قال البيهقى: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة، لان مرادهم أن ذلك بعد مضى أربع سنين وقبل استكمال خمس.
ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس.
والله أعلم.
وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين.
ولا خلاف أن أحدا في شوال سنة ثلاث، إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الاول إلى آخرها، كما حكاه البيهقى.
وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوى، وقد صرح بأن بدرا في الاولى، وأحدا في سنة ثنتين، وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع.
وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول

التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك من ربيع الاول سنة الهجرة، فصارت الاقوال ثلاثة والله أعلم.
والصحيح قول الجمهور: أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة والله أعلم.
فأما الحديث المتفق عليه في الصحيحين من طريق عبيدالله عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازنى.
فقد أجاب عنها
جماعة من العلماء منهم البيهقى بأنه عرض يوم أحد في أول الرابعة عشرة، ويوم الاحزاب في أواخر الخامسة عشرة.
قلت: ويحتمل أنه أراد أنه لما عرض عليه في يوم الاحزاب كان قد استكمل خمس عشرة سنة التى يجاز لمثلها الغلمان، فلا يبقى على هذا زيادة عليها.
ولهذا لما بلغ نافع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير.
ثم كتب به إلى الآفاق واعتمد على ذلك جمهور العلماء.
والله أعلم.
* * * وهذا سياق القصة مما ذكره ابن إسحاق وغيره.
قال ابن إسحاق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس.
فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة ومن لا أتهم، عن عبيد (1) الله بن كعب بن مالك ومحمد بن كعب القرظى والزهرى، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبى بكر وغيرهم من علمائنا.
وبعضهم يحدث ما لا يحدث بعض.
قالوا: إنه كان من حديث الخندق: أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبى الحقيق النضرى، وحيى بن أخطب النضرى، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس
__________
(1) ابن هشام: عبدالله بن كعب.
(*)

الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بنى النضير ونفر من بنى وائل، وهم الذين حزبوا الاحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الاول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه.
فهم الذين أنزل الله فيهم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا.
أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (1) " الآيات.
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروهم أنهم يكونون (2) معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك واجتمعوا معهم فيه.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بنى فزارة والحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى في بنى مرة، ومسعر ابن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الامر ضرب الخندق على المدينة.
__________
(1) سورة النساء.
(2) ابن هشام: سيكونون.
(*)

قال ابن هشام: يقال إن الذى أشار به سلمان.
قال الطبري والسهيلى: أول من حفر الخنادق: منوشهر بن أيرج بن أفريدون.
وكان في زمن موسى عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين في الاجر، وعمل معه المسلمون، وتخلف طائفة من المنافقين يعتذرون بالضعف (1)، ومنهم من ينسل خفية بغير إذنه ولا علمه عليه الصلاة والسلام.
وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم * لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيهم عذاب أليم، ألا إن لله ما في السموات والارض قد يعلم ما أنتم عليه، ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم (2) ".
قال ابن إسحاق: فعمل المسلمون فيه حتى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له جعيل سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا، فقالوا فيما يقولون: سماه من بعد جعيل عمرا * وكان للبائس يوما ظهرا (3) وكانوا إذا قالوا: عمرا.
قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرا.
وإذا قالوا: ظهرا قال لهم: ظهرا.
* * *
__________
(1) ابن هشام: وجعلوا يورون بالضعيف من العمل.
(2) سورة النور.
(3) ظهر: قوة ومعونة.
(*)

وقد قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق، عن حميد، سمعت أنسا قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والانصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: " اللهم إن العيش عيش الآخره، فاغفر للانصار والمهاجره " فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا * على الجهاد ما بقينا أبدا
وفى الصحيحين من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة عن أنس.
نحوه.
وقد رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت وحميد عن أنس، بنحوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: جعل المهاجرون والانصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا * على الاسلام ما بقينا أبدا قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم مجيبا لهم: " اللهم إنه لا خير إلا خير الآخره، فبارك في الانصار والمهاجره ".
قال: يؤتون بملء كفى من الشعير فيصنع لهم بإهالة سنخة (1) توضع بين يدى القوم والقوم جياع، وهى بشعة في الحلق ولها ريح منتن ! وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن (2) أبى حازم، عن سهل بن سعد، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الاهالة: الودكة.
والسنخة: المتغيرة الريح الفاسدة الطعم.
(2) البخاري: عن أبى حازم.
وهو أبو عبد العزيز.
(3) الاكتاد: جمع كتد، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر.
(*)

" اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والانصار ".
ورواه مسلم عن القعنبى، عن عبد العزيز به.
وقال البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء ابن عازب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه، أو اغبر بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا إن الالى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوته: أبينا، أبينا.
ورواه مسلم من حديث شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثنى إبراهيم ابن يوسف، حدثنى أبى، عن أبى إسحاق، عن البراء يحدث قال: لما كان يوم الاحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنى التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبدالله بن رواحة وهو ينقل من التراب يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا إن الالى قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا ثم يمد صوته بآخرها.
وقال البيهقى في الدلائل: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن الفضل البجلى، حدثنا إبراهيم بن يوسف البلخى، حدثنا

المسيب بن شريك، عن زياد بن أبى زياد، عن أبى عثمان، عن سلمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق وقال: باسم الله وبه هدينا * ولو عبدنا غيره شقينا يا حبذا ربا وحب دينا وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهم يحفرون الخندق: " اللهم لا خير إلا خير الآخره، فأصلح الانصار والمهاجره ".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث غندر، عن شعبة.
* * * قال ابن إسحاق: وقد كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني، من الله فيها عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.
فمن ذلك: أن جابر بن عبد الله كان يحدث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية (1)، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة.
هكذا ذكره ابن إسحاق منقطعا عن جابر بن عبدالله رضى الله عنه.
وقد قال البخاري رحمه الله: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، قال: أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل.
__________
(1) الكدية: القطعة الصلبة من الارض لا يعمل فيها المعول.
(*)

ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا (1)، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم (2).
فقلت: يا رسول الله ائذن لى إلى البيت.
فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر، فعندك شئ ؟ قالت: عندي شعير وعناق (3)، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة (4)، ثم جئت النبي صلى الله
عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الاثافي (5) قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيم لى (6) فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان.
قال: كم هو ؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتى.
فقال: قوموا.
فقام المهاجرون والانصار.
فلما دخل على امرأته قال: ويحك ! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم.
قالت: هل سألك ؟ قلت: نعم.
فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر (7) البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع.
فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقى بقية.
قال: كلى هذا وأهدى، فإن الناس أصابتهم مجاعة.
تفرد به البخاري.
* * * وقد رواه الامام أحمد، عن وكيع، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه
__________
(1) ذواقا: شيئا من مأكول أو مشروب.
(2) الاهيل أو الاهيم: السائل.
(3) العناق: الانثى من ولد الماعز.
(4) البرمة: القدر.
(5) الاثافي: حجارة ثلاثة توضع عليها القدر.
(6) طعيم: تصغير طعام: لتقليله.
(7) يخمر: يغطى.
(*)

أيمن الحبشى مولى بنى مخزوم، عن جابر بقصة الكدية وربط الحجر على بطنه الكريم.
ورواه البيهقى في الدلائل، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر، بقصة الكدية والطعام.
وطوله أتم من رواية البخاري قال فيه: لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار
الطعام قال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر.
فقاموا، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاءنا بخلق على صاع من شعير وعناق.
دخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعامك ؟ قلت: نعم.
فقالت: الله ورسوله أعلم.
قال: فكشفت عنى غما شديدا، قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خدمي ودعيني من اللحم.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يثرد ويغرف اللحم ويخمر هذا ويخمر هذا، فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين ويعود التنور والقدر أملا ما كانا ! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلى وأهدى.
فلم تزل تأكل وتهدى يومها.
وقد رواه كذلك أبو بكر بن أبى شيبة، عن عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر به وأبسط أيضا، وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمانمائة أو قال: ثلاثمائة.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر.
فذكر القصة بطولها في الطعام فقط وقال: وكانوا ثلاثمائة.
* * * ثم قال البخاري: حدثنا عمرو بن على، حدثنا أبو عاصم، حدثنا حنظلة بن أبى

سفيان، عن أبى الزبير، حدثنا ابن ميناء، سمعت جابر بن عبدالله قال: لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم خمصا (1)، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شئ، فإنى رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا ؟ فأخرجت لى جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن (2)، فذبحتها، فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني
برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحت بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك.
فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سؤرا (3) فحيهلا بكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجئ.
فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك.
فقلت: قد فعلت الذى قلت.
فأخرجت لنا عجينا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبسق وبارك، ثم قال: ادع خبازة فلتخبز معك، واقدحى (4) من برمتك ولا تنزلوها.
وهم ألف، فأقسم بالله لاكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط (5) كما هي وإن عجيننا كما هو.
ورواه مسلم عن حجاج بن الشاعر، عن أبى عاصم به نحوه.
* * *
__________
(1) الخمص: ضمور البطن من الجوع.
(2) البهيمة: بضم الباء تصغير بهمة وهى الصغير ومن أولاد الغنم.
والداجن: ما يربى في البيوت من الغنم ولا تخرج إلى المرعى.
(3) سؤرا: يروى بالهمزة، وفى اليونينية بتركها: وهو الطعام الذى يدعى إليه، وهى لفظة فارسية، وهذا دليل على تكلم الرسول بالفارسية.
والسؤر بالهمز: البقية.
(4) اقدحى: اغرفي.
(5) تغط: تفور بحيث يسمع لها غطيط.
(*)

وقد روى محمد بن إسحاق هذا الحديث وفى سياقه غرابة من بعض الوجوه فقال: حدثنى سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبدالله، قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق، وكانت عندي شويهة غير جد سمينة، قال: فقلت: والله لو صنعناها
لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأمرت امرأتي فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق، قال: وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يا رسول الله إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأنا أحب أن تنصرف معى إلى منزلي.
قال: وإنما أريد أن ينصرف معى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
قال: فلما أن قلت ذلك قال: نعم.
ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبدالله.
قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون !.
قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه، قال: فبرك وسمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
والعجب أن الامام أحمد إنما رواه من طريق سعيد بن ميناء، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق عنه، عن جابر مثله سواء.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني سعيد بن ميناء، أنه قد حدث أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت: دعتني أمي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية اذهبي إلى أبيك وخالك عبدالله بن رواحة بغدائهما.
قالت: فأخذتها وانطلقت بها.

فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالى، فقال: تعالى يا بنية ما هذا معك ؟ قالت: قلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبى بشير بن سعد وخالى عبدالله بن رواحة يتغديانه.
فقال: هاتيه.
قالت: فصببته في كفى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فما ملاتهما.
ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لانسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغداء.
فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
هكذا رواه ابن إسحاق وفيه انقطاع، وهكذا رواه الحافظ البيهقى من طريقه ولم يزد.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثت عن سلمان الفارسى أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت على صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منى، فلما رأني أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدى فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قال: قلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله ! ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب ؟ قال: أوقد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال: قلت: نعم.
قال: أما الاولى فإن الله فتح على باب اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح على باب الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح على بها المشرق.
قال البيهقى: وهذا الذى ذكره ابن إسحاق قد ذكره موسى بن عقبة في مغازيه، وذكره أبو الأسود عن عروة.

ثم روى البيهقى من طريق محمد بن يونس الكديمى وفى حديثه نظر.
لكن رواه ابن جرير في تاريخه عن محمد بن بشار وبندار، كلاهما عن محمد بن خالد بن عثمة، عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، فذكر حديثا فيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الخندق بين كل عشرة أربعين ذراعا قال: واحتق المهاجرون والانصار في سلمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت.
قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة من الانصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة، فكسرت حديدنا وشقت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعنى المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك.
وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك النور، فقال: لقد أضاء لى من الاولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها.
ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها فأبشروا، واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق.
قال: ولما طلعت الاحزاب قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا نستطيعون أن تبرزوا !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطلاق الكامل

 نسخة منقحة ليس فيها درافت بلوجر الملوث للمدونة ومذيلة بموضوع الافتداء كتاب الطلاق المُحْكَم   والكامل 2 .{XWW} 9. الاخير بونط 25. أ...