المقحمات لاشرك

** ب نوشيرك 8.

 الثانوية العامة ٣ثانوي. /عقوبة من قتل نفسه؟وصف الجنة والحور العين /المدونة التعليمبة الثانية أسماء صلاح ٣.ثانوي عام /الفتن ونهاية العالم /المقحمات ا. /قانون الحق الإلهي اا /القرانيون الفئة الضالة اوه /قواعد وثوابت قرانية /مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها اوهو /المسائل الفقهية في النكاح والطلاق والمتعة والرجعة /مدونة  /الصفحات المقتوحة /الخوف من الله الواحد؟ /قانون ثبات سنة الله في الخلق /اللهم ارحم أبي وأمي والصالحين /السيرة النبوية /مدونة {استكمال} مدونة قانون الحق الإلهي /مدونة الحائرين الملتاعين. /الجنة ومتاعها والنار وسوء جحيمها /عياذا بالله الواحد./  لابثين فيها أحقابا /المدونة المفتوحة /نفحات من سورة الزمر/  /أمَاهُ عافاكِ الله ووالدي ورضي عنكما ورحمكما /ترجمة معان القران /مصنفات اللغة العربية /كتاب الفتن علامات القيامة لابن كثير /قانون العدل الإلهي /الفهرست /جامعة المصاحف /قانون الحق الإلهي /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا /تعلم للتفوق بالثانوية العامة /مدونات لاشين /الرافضة /قانون الحق الألهي ٣ /قانون الحق الإلهي٤. /حدود التعاملات /العقائدية بين المسلمين /المقحمات اا. /منصة الصلاة اا /مدونة تخفيف

الثلاثاء، 12 يناير 2021

السيرة النبوية لابن كثير الجزء الثاني ج2.

      التالي

وقال ورقة أيضا: يا للرجال وصرف الدهر والقدر * وما لشئ قضاه الله من غير حتى خديجة تدعوني لاخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر وخبرتني بأمر قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر بأن أحمد يأتيه فيخبره * جبريل أنك مبعوث إلى البشر فقلت عل الذى ترجين ينجزه * لك الاله فرجى الخير وانتظري وأرسليه إلينا كى نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر فقال حين أتانا منطقا عجبا * يقف منه أعالي الجلد والشعر إنى رأيت أمين الله واجهنى * في صورة أكملت من أعظم الصور ثم استمر فكاد الخوف يذعرنى * مما يسلم من حولي من الشجر فقلت ظنى وما أدرى أيصدقني * أن سوف يبعث يتلو منزل السور وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا من ولا كدر هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقى في الدلائل وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم.
وقال ابن إسحاق: حدثنى عبد الملك بن عبد الله بن أبى سفيان بن العلاء بن جارية الثقفى - وكان واعية (1) - عن بعض أهل العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته (2) أبعد حتى يحسر البيوت (3)
__________
(1) المطبوعة داعية.
وهو تحريف.
(2) المطبوعة: لحاجة.
وهو تحريف.
(3) خ ط: الثوب.
وهو تحريف شنيع.
(*)

عنه ويفضى إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
قال: فيلتفت حوله عن يمينه وعن شماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله وهو بحراء في رمضان.
قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، قال سمعت عبد الله ابن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثى: حدثنا يا عبيد: كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل.
قال: فقال عبيد وأنا حاضر، يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث.
قال: وكان ذلك مما تحنث (1) به قريش في الجاهلية، والتحنث: التبرر.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته.
حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه ما أراد من كرامته من السنة التى بعثه فيها، وذلك الشهر رمضان، خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد به جاءه جبريل بأمر الله تعالى.
__________
(1) خ ط: يحبب.
وهو تحريف.
(*)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ.
قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتنى حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتنى حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتنى حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال: اقرأ.
قلت: ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء (1) منه أن يعود لى بمثل ما صنع بى.
فقال: " اقرأ باسم ربك الذى خلق.
خلق الانسان من علق.
اقرأ وربك الاكرم.
الذى علم بالقلم.
علم الانسان ما لم يعلم ".
قال: فقرأتها ثم انتهى وانصرف عنى، وهببت من نومى فكأنما كتب في قلبى كتابا.
قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل.
قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل.
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى عنه في آفاق السماء فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك.
فما زلت واقفا ما أتقدم أمامى وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبى، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عنى.
وانصرفت راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلى.
__________
(1) ط: اقتدا وهو تحريف.
(*)

ثم حدثتها بالذى رأيت فقالت: أبشر يا ابن العم واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لارجو أن تكون نبى هذه الامة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذى نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الاكبر الذى كان يأتي موسى، وإنه لنبى هذه الامة، وقولى له فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة.
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخى، أخبرني بما رأيت وسمعت.
فأخبره، فقال له ورقة: والذى نفسي بيده إنك لنبى هذه الامة، ولقد جاءك الناموس الاكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه (1)، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لانصرن الله نصرا يعلمه.
ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
وهذا الذى ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة، كما تقدم من قول عائشة رضى الله عنها: فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ.
ويحتمل أنه كان بعده بمدة.
والله أعلم.
__________
(1) الهاء هنا للسكت.
(*)

وقال موسى بن عقبة: عن الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: وكان بلغنا أول ما رأى، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، فذكرها لامرأته خديجة، فعصمها الله عن التكذيب وشرح صدرها للتصديق فقالت: أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا.
ثم إنه خرج من عندها ثم رجع إليها، فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر ثم أعيد كما كان.
قالت: هذا والله خير فأبشر.
ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة فأجلسه على مجلس كريم معجب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك (؟) فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عزوجل، حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل اقرأ.
فقال: كيف أقرأ ؟ فقال: " اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الانسان من علق اقرأ وربك الاكرم، الذى علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم ".
قال: ويزعم ناس أن " يا أيها المدثر " أول سورة نزلت عليه والله أعلم.
قال: فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله.
فلما انصرف منقلبا إلى بيته جعل لا يمر على شجر ولا حجر إلا سلم عليه، فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما، فلما دخل على خديجة قال: أرأيتك التى كنت حدثتك أنى رأيته في المنام ؟ فإنه جبريل استعلن إلى، أرسله إلى ربى عزوجل.
وأخبرها بالذى جاءه من الله وما سمع منه، فقالت: أبشر فو الله لا يفعل
__________
(1) الدرنوك: نوع من البسط له خمل.
(*)

الله بك إلا خيرا، وأقبل الذى جاءك من أمر الله فإنه حق، وأبشر فإنك
رسول الله حقا.
ثم انطلقت من مكانها، فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس، نصرانيا من أهل نينوى يقال له عداس فقالت له: يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني: هل عندك علم من جبريل ؟ فقال: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الارض التى أهلها أهل الاوثان.
فقالت: أخبرني بعلمك فيه.
قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام.
فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل، فذكرت له ما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقاه إليه جبريل، فقال لها ورقة: يا بنية أخى، ما أدرى لعل صاحبك النبي الذى ينتظر أهل الكتاب الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل، وأقسم بالله لئن كان إياه ثم أظهر دعواه وأنا حى لا بلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر.
فمات ورقة رحمه الله.
قال الزهري: فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ البيهقى بعد إيراده ما ذكرناه: والذى ذكر فيه من شق بطنه يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعنى شق بطنه عنه حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء.
والله أعلم.
وقد (1) ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمى قال:
__________
(1) من هنا إلى وقال البيهقى حدثنا أبو عبد الله الحافظ ساقط من النسخة ا.
(*)

بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة.
وكان أول شئ اختصه به من النبوة والكرامة رؤيا كان يراها، فقص ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد فقالت له: أبشر فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا.
فبينما هو ذات يوم في حراء، وكان يفر إليه من قومه، إذ نزل عليه جبريل، فدنا منه، فخافه رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره ومن خلفه بين كتفيه، فقال: اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر ! فإنك نبى هذه الامة، اقرأ.
فقال له نبى الله: وهو خائف يرعد: ما قرأت كتابا قط ولا أحسنه، وما أكتب وما أقرأ.
فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه، ثم قال له: اقرأ.
فأعاد عليه مثله.
فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك فرأى فيه من صفائه وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت وقال له: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " الآيات، ثم قال له: لا تخف يا محمد، إنك رسول الله.
ثم انصرف، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم همه، فقال: كيف أصنع وكيف أقول لقومي ؟ ! ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته (1)، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما ملا صدره، فقال له جبريل: لا تخف يا محمد، جبريل رسول الله، جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله فإنك رسول الله.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر على شجر ولا حجر إلا هو ساجد
__________
(1) أي عظمته.
(*)

يقول: السلام عليك يا رسول الله.
فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه.
فلما انتهى
إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه، فأفزعها ذلك، فقامت إليه، فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول: لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم.
فقال: يا خديجة أرأيت الذى كنت أرى في المنام والصوت الذى كنت أسمع في اليقظة وأهال منه ؟ فإنه جبريل قد استعلن لى وكلمني وأقرأني كلاما فزعت منه، ثم عاد إلى فأخبرني أنى نبى هذه الامة، فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر وحجارة فقلن: السلام عليك يا رسول الله.
فقالت خديجة: أبشر فو الله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا، وأشهد أنك نبى هذه الامة الذى تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيري الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة.
فلم تزل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طعم وشرب وضحك.
ثم خرجت إلى الراهب وكان قريبا من مكة فلما دنت منه وعرفها، قال: مالك يا سيدة نساء قريش ؟ فقالت: أقبلت إليك لتخبرنى عن جبريل.
فقال: سبحان الله ربنا القدوس ! ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التى يعبد أهلها الاوثان ؟ ! جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله وهو صاحب موسى وعيسى.
فعرفت كرامة الله لمحمد.
ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له عداس، فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها به الراهب وأزيد، قال: جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون

وقومه، وكان معه حين كلمه الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذى أيده الله به.
ثم قامت من عنده فأتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك.
ثم سألها: ما الخبر ؟ فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها فقالت له: إن ابن عبد الله ذكر لى، وهو صادق أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبى هذه الامة وأقرأه آيات أرسل بها.
قال: فذعر ورقة لذلك وقال: لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الارض لقد نزل على خير أهل الارض، وما نزل إلا على نبى، وهو صاحب الانبياء والرسل يرسله الله إليهم، وقد صدقتك عنه، فأرسلي إلى ابن عبد الله أسأله وأسمع من قوله وأحدثه، فإنى أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بنى آدم ويفسدهم، حتى يصير الرجل بعد العقل الرضى مدلها مجنونا.
فقامت من عنده وهى واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة، فأنزل الله تعالى: " ن.
والقلم وما يسطرون.
ما أنت بنعمة ربك بمجنون " الآيات.
فقال لها: كلا والله إنه لجبريل.
فقالت له: أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه.
فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: هذا الذى جاءك في نور أو ظلمة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة جبريل وما رآه من عظمته وما أوحاه إليه.
فقال ورقة: أشهد أن هذا جبريل، وأن هذا كلام الله، فقد أمرك بشئ تبلغه قومك، وإنه لامر نبوة، فإن أدرك زمانك أتبعك.
ثم قال: أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به.

قال: وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك على الملا من قومه.
قال: وفتر الوحى، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع ولكن الله قلاه.
فأنزل الله " والضحى " و " ألم نشرح " بكمالهما.
وقال البيهقى: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثنى إسماعيل بن أبى حكيم مولى آل الزبير، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه مما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذى يأتيك إذا جاءك ؟ فقال: نعم.
فقالت: إذا جاءك فأخبرني.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها إذ جاء جبريل، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خديجة، هذا جبريل.
فقالت: أتراه الآن ؟ قال: نعم.
قالت: فاجلس إلى شقى الايمن.
فتحول فجلس.
فقالت: أتراه الآن ؟ قال: نعم.
قالت: فتحول فاجلس في حجري.
فتحول فجلس في حجرها، فقالت: هل تراه الآن ؟ قال: نعم.
فتحسرت رأسها فشالت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها فقالت: هل تراه الآن ؟ قال: لا.
قالت: ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم، فاثبت وأبشر.
ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق.
قال ابن إسحاق: فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أنى سمعتها تقول: أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام.

قال: البيهقى وهذا شئ كان من خديجة تصنعه تستثبت به الامر احتياطا لدينها وتصديقا.
فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان وثق بما قال له جبريل وأراه من الآيات
التى ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر والحجر عليه صلى الله عليه وسلم تسليما.
وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثنى سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث إنى لاعرفه الآن ".
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بمكة لحجرا كان يسلم على ليالى بعثت إنى لاعرفه إذا مررت عليه ".
وروى البيهقى من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير، عن عباد بن عبد الله، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه.
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
وفى رواية: لقد رأيتنى أدخل معه الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله وأنا أسمعه.

فصل قال البخاري في روايته المتقدمة: ثم فتر الوحى حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا.
فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع.
فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل
فقال له مثل ذلك.
وفى الصحيحين من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: سمعت أبا سلمة عبد الرحمن يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحى قال: فبينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذى جاءني بحراء قاعد على كرسى بين السماء، فجثيت منه، فرقا حتى هويت إلى الارض، فجئت أهلى فقلت زملوني زملوني.
فأنزل الله: " يا أيها المدثر قم فأنذر.
وربك فكبر.
وثيابك فطهر.
والرجز فاهجر ".
قال: ثم حمى الوحى وتتابع.
فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحى لا مطلقا، ذاك قوله (1) " اقرأ باسم ربك الذى خلق ".
وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل " يا أيها المدثر " واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه، فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجئ الملك الذى عرفه ثانيا بما عرفه
__________
(1) أي أن أول ما نزل مطلقا هو " اقرأ ".
(*)

به أولا إليه.
ثم قوله: " يحدث عن فترة الوحى " دليل على تقدم الوحى على هذا الايحاء.
والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث على بن المبارك وعند مسلم والاوزاعي كلاهما عن يحيى بن أبى كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل قبل ؟ فقال: " يا أيها المدثر ".
فقلت: و " اقرأ باسم ربك " ؟ فقال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل ؟ فقال: " يا أيها المدثر "
فقلت: " واقرأ باسم ربك " ؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت بين يدى وخلفي وعن يمينى وعن شمالى فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: " يا أيها المدثر " حتى بلغ " وثيابك فطهر ".
وقال في رواية: " فإذا الملك الذى جاءني بحراء جالس على كرسى بين السماء والارض فجثيت منه ".
وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحى من الله عليه كما ذكرناه.
والله أعلم.
ومنهم من زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحى سورة " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى " إلى آخرها.
قاله محمد بن إسحاق.
وقال بعض القراء: ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولها فرحا.
وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي الصحيح، من أن أول القرآن نزولا

بعد فترة الوحى: " يا أيها المدثر قم فأنذر " ولكن نزلت سورة " والضحى " بعد فترة أخرى كانت ليالى يسيرة.
كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث الاسود بن قيس، عن جندب بن عبد الله البجلى.
قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا، فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك.
فأنزل الله " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ".
وبهذا الامر حصل الارسال إلى الناس وبالاول حصلت النبوة.
وقد قال بعضهم: كانت مدة الفترة قريبا من سنتين، أو سنتين ونصفا.
والظاهر، والله أعلم، أنها المدة التى اقترن معه ميكائيل.
كما قال الشعبى وغيره.
ولا ينفى هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا " اقرأ باسم ربك الذى خلق ".
ثم اقترن به جبريل بعد نزول " يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ".
ثم حمى الوحى بعد هذا وتتابع، أي تدارك شيئا بعد شئ.
وقام حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم، ودعا إلى الله القريب والبعيد، والاحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.
فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الاحرار أبو بكر الصديق.
ومن الغلمان على بن أبى طالب.
ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام.

ومن الموالى مولاه زيد بن حارثة الكلبى رضى الله عنهم وأرضاهم.
وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحى ومات في الفترة رضى الله عنه.
فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الامر ويختلط الحق فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء، كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وسهبا.
وأنا
كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، وأنا لا ندرى أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا " (1).
وقال تعالى: " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغى لهم وما يستطيعون.
إنهم عن السمع لمعزولون " (2).
قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، وهو الطبراني، حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبى مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابى، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحى، فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فتكون باطلا.
__________
(1) سورة الجن.
(2) سورة مريم.
(*)

فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لابليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: هذا لامر قد حدث في الارض.
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين، فأتوه فأخبروه فقال: هذا الامر الذى حدث في الارض.
وقال أبو عوانة: عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم: قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب.
فقالو: ما ذاك إلا من شئ حدث، فاضربوا مشارق الارض ومغاربها.
فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، وهو
يصلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء.
فرجعوا إلى قومهم فقالوا: " يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدى إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا " فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: " قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالو إنا سمعنا قرآنا عجبا " أخرجاه في الصحيحين.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال: إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحى سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا.

قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤوسهم حتى ينزل، فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم ؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا: الحق وهو العلى الكبير.
وإن كان مما يكون في الارض من أمر الغيب أو موت أو شئ مما يكون في الارض تكلموا به فقالوا: يكون كذا وكذا.
فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم.
فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم دحروا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف.
فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذو الابل فينحر كل يوم بعيرا، فأسرع الناس في أموالهم.
فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فإن كانت النجوم التى يهتدون بها، وإلا فإنه لامر حدث.
فنظروا فإذا النجوم التى يهتدى بها كما هي لم يزل منها شئ، فكفوا.
وصرف الله الجن فسمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا.
وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه.
فقال: هذا حدث حدث في الارض،
فأتوني من كل أرض بتربة فأتوه بتربة.
تهامة فقال: هاهنا الحدث ورواه البيهقى والحاكم من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب.
وقال الواقدي: حدثنى أسامة بن زيد بن أسلم، عن عمر بن عبدان العبسى، عن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف مثل ذلك.
فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف.
قال: ولم فعلتم ما أرى ؟ قالوا: رمى بالنجوم فرأيناها تهافت من السماء.
فقال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد فلا تعجلوا

وانظروا، فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من الناس (1)، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لامر قد حدث.
فنظروا فإذا هي لا تعرف، فأخبروه، فقال: الامر فيه مهلة بعد، هذا عند ظهور نبى.
فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله يدعى أنه نبى مرسل.
فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمى بها.
وقال سعيد بن منصور، عن خالد بن حصين، عن عامر الشعبى قال: كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيبوا أنعامهم وأعتقوا رقيقهم.
فقال عبد ياليل: انظروا، فإن كانت النجوم التى تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو لامر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف.
قال: فأمسكوا، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى البيهقى والحاكم من طريق العوفى عن ابن عباس قال: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه.
فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة، ويجب حمل ذلك على هذا، لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن على ابن الحسين، عن ابن عباس رضى الله عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رمى بنجم فاستنار فقال: " ما كنتم تقولون إذا رمى بهذا ؟ " قالوا: كنا نقول مات
__________
(1) الوفا: فهو عند فناء الناس.
(*)

عظيم، ولد عظيم.
فقال: " لا ولكن..".
فذكر الحديث كما ذكرنا عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق (1) ولله الحمد.
وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمى النجوم، وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم: إن كانت أعلام السماء أو غيرها.
ولكن سماه عمرو بن أمية.
فالله أعلم.
وقال السدى: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الارض نبى أو دين لله ظاهر، وكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر.
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا رجموا ليلة من الليالى، ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا: هلك أهل السماء ! لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم.
فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف ! أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، وإنما هو من ابن أبى كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء.
فنظروا فرأوها، فكفوا عن أموالهم.
وفزعت الشياطين في تلك الليلة فأتوا إبليس فقال: ائتونى من كل أرض بقبضة
من تراب.
فأتوه فشم، فقال: صاحبكم بمكة.
فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في الجزء الاول من البداية والنهاية.
(*)

في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ثم أسلموا، فأنزل الله أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال الواقدي: حدثنى محمد بن صالح عن ابن أبى حكيم - يعنى إسحاق - عن عطاء ابن يسار، عن أبى هريرة قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكسا، فأتت الشياطين فقالوا له: ما على الارض من صنم إلا وقد أصبح منكسا.
قال: هذا نبى قد بعث فالتمسوه في قرى الارياف.
فالتمسوه فقالوا: لم نجده.
فقال: أنا صاحبه.
فخرج يلتمسه فنودى: عليك بجنبة الباب (1) - يعنى مكة - فالتمسه بها فوجد بها عند قرن الثعالب، فخرج إلى الشياطين فقال: إنى قد وجدته معه جبريل، فما عندكم.
قالوا: نزين الشهوات في عين أصحابه ونحببها إليهم.
قال: فلا آسى إذا.
وقال الواقدي: حدثنى طلحة بن عمرو، عن ابن أبى مليكة، عن عبد الله بن عمرو قال: لما كان اليوم الذى تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من السماء ورموا بالشهب، فجاءوا إلى إبليس فذكروا ذلك له فقال: أمر قد حدث، هذا نبى قد خرج عليكم بالارض المقدسة مخرج بنى إسرائيل.
قال: فذهبوا إلى الشام ثم رجعوا إليه فقالوا: ليس بها أحد.
فقال إبليس: أنا صاحبه.
فخرج في طلبه بمكة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه فقال: قد بعث أحمد ومعه جبريل، فما عندكم ؟ قالوا: الدنيا نحببها إلى الناس.
قال: فذاك إذا.
قال الواقدي: وحدثني طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كانت
__________
(1) دلائل النبوة والوفا: عليك بحبة القلب مكة.
(*)

الشياطين يستمعون الوحى، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر.
فرقى فوق أبى قبيس، وهو أول جبل وضع على وجه الارض، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى خلف المقام.
فقال: أذهب فأكسر عنقه.
فجاء يخطر وجبريل عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا، فولى الشيطان هاربا.
ثم رواه الواقدي وأبو أحمد الزبيري كلاهما عن رباح بن أبى معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد.
فذكر مثل هذا، وقال: فركضه برجله فرماه بعدن.
فصل في كيفية إتيان الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة، وثاني مرة أيضا.
وقال مالك: عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى ؟ فقال: " أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس، وهو أشده على، فيفصم عنى وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا يكلمني فأعى ما يقول ".
قالت عائشة رضى الله عنها: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.

ورواه الامام أحمد عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه.
وكذا رواه عبدة بن سليمان وأنس بن عياض عن هشام بن عروة.
وقد رواه أيوب السختيانى عن هشام عن أبيه، عن الحارث بن هشام أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كيف يأتيك الوحى ؟ فذكره، ولم يذكر عائشة.
وفى حديث الافك قالت عائشة: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل الوحى الذى نزل عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال أملى على يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة بن عبد الرحمن بن عبد القارى، سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى يسمع عند وجهه كدوى النحل، وذكر تمام الحديث في نزول (قد أفلح المؤمنون).
وكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق.
ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم، ولا نعرفه.
وفى صحيح مسلم وغيره من حديث الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشى، عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى كربه ذلك وتربد وجهه.
وفى رواية وغمض عينيه.
وكنا نعرف ذلك منه.
وفى الصحيحين حديث زيد بن ثابت حين نزلت " لا يستوى القاعدون من المؤمنين " فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت " غير أولى الضرر ".

قال: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي وأنا أكتب، فلما نزل
الوحى كادت فخذه ترض فخذي.
وفى صحيح مسلم من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية.
قال قال لى عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه ؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة، فإذا هو محمر الوجه.
وهو يغط كما يغط البكر (1).
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال: " إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ".
فدل هذا على أنه لم يكن الوحى يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحى تربد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم.
وفى مسند أحمد وغيره من حديث ابن لهيعة حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو قلت: يا رسول الله هل تحس بالوحى ؟ قال: " نعم أسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تفيظ (2) منه ".
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا
__________
(1) البكر: ولد الناقة، أو الفتى منها.
(2) تفيظ: تقبض.
(*)

عاصم بن كليب، حدثنا أبى، عن خاله العليان بن عاصم قال: كنا عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عزوجل.
وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا على بن غراب، عن الاحوص بن حكيم، عن أبى عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى صدع وغلف رأسه بالحناء.
هذا حديث غريب جدا وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: إنى لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري عن ليث بن أبى سليم به.
وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنى جبر بن عبد الله، عن أبى عبد الرحمن الحبلى، عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.
وروى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل، عن عاصم الاحول، حدثتني أم عمرو، عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها.
وهذا غريب من هذا الوجه.
ثم قد ثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم

مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته.
فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال
والله أعلم.
وقد ذكرنا أنواع الوحى إليه صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري وما ذكره الحليمى وغيره من الائمة رضى الله عنهم.
فصل قال الله تعالى: " لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه (1) ".
وقال تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدنى علما (2) ".
وكان هذا في الابتداء، كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عزوجل ليساوقه في التلاوة، فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحى، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، ويوقفه على المراد منه.
ولهذا قال " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما ".
وقال: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه " أي في صدرك " وقرآنه " أي وأن تقرأه " فإذا قرأناه " أي تلاه عليك الملك " فاتبع قرآنه " أي فاستمع له وتدبره " ثم إن علينا بيانه " وهو نظير قوله: " وقل رب زدنى علما ".
وفى الصحيحن من حديث موسى بن أبى عائشة، عن سعيد بن جببر، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك
__________
(1) سورة القيامة 16 - 19 (2) سورة طه 114 (*)

شفتيه، فأنزل الله " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " قال: جمعه
في صدرك ثم تقرأه " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " فاستمع له وأنصت " ثم إن علينا بيانه " قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عزوجل.
فصل قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصدق بما جاءه منه، وقد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله، على رضا العباد وسخطهم.
وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله عزوجل.
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والاذى.
قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره.
وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه.
فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه،، وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضى الله عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب ".

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث هشام.
قال ابن هشام: القصب هاهنا اللؤلؤ المجوف.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله.
وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة.
قلت: يعنى الصلوات الخمس ليلة الاسراء، فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضى الله عنها كما سنبينه.
وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به.
ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا.
قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التى صلاها به عند البيت مرتين فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الاسراء.
وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان.

فصل في ذكر أول من أسلم، ثم ذكر متقدمي الاسلام من الصحابة وغيرهم قال ابن إسحاق: ثم إن على بن أبى طالب رضى الله عنه جاء بعد ذلك بيوم وهما
يصليان، فقال على: يا محمد ما هذا ؟ قال: دين الله اصطفى لنفسه، وبعث به رسله فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى.
فقال على: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب.
فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشى عليه سره قبل أن يستعلن أمره.
فقال له: يا على إذ لم تسلم (1) فاكتم.
فمكث على تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب على الاسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ماذا عرضت على يا محمد ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الانداد " ففعل على وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبى طالب، وكتم على إسلامه ولم يظهره.
وأسلم ابن حارثة، يعنى زيدا، فمكثا قريبا من شهر، يختلف على إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنعم الله به على على أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام.
__________
(1) في ا: إذ لم تسمع فاكتم.
(*)

قال ابن اسحاق: حدثنى ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: وكان مما أنعم الله به على على أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس، وكان من أيسر بنى هاشم: " يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الازمة، فانطلق حتى نخفف عنه من عياله " فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا، فاتبعه على وآمن به وصدقه.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يحيى بن أبى الاشعث الكندى من أهل الكوفة، حدثنى إسماعيل بن أبى إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف، وكان عفيف أخا الاشعث بن قيس لامه، أنه قال: كنت أمرءا تاجرا فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه.
قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلى تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلى، وخرج غلام فقام يصلى معه.
فقلت: يا عباس ما هذا الدين ؟ إن هذا الدين ما ندرى ما هو ! فقال: هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه على بن أبى طالب آمن به.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا ! وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، وقال في الحديث: إذ خرج رجل

من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلى.
ثم ذكر قيام خديجة وراءه.
وقال ابن جرير: حدثنى محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد ابن عبدة البجلى، عن يحيى بن عفيف قال: جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدا
فسجدا معه.
فقلت: يا عباس أمر عظيم ! فقال: أمر عظيم.
فقال: أتدرى من هذا ؟ فقلت: لا.
فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخى.
أتدرى من الغلام ؟ قلت: لا.
قال: هذا على بن أبى طالب - رضى الله عنه - أتدرى من هذه المرأة التى خلفهما ؟ قلت: لا.
قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخى.
وهذا حدثنى أن ربك رب السماء والارض أمره بهذا الذى تراهم عليه، وايم الله ما أعلم على ظهر الارض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.
وقال ابن جرير: حدثنى ابن حميد، حدثنا عيسى بن سوادة بن أبى الجعد، حدثنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبى عبد الرحمن وأبو حازم والكلبي.
قالوا: على أول من أسلم.
قال الكلبى: أسلم وهو ابن تسع سنين.

وحدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة عن ابن اسحاق.
قال: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم معه وصدقه على بن أبى طالب، وهو ابن عشر سنين وكان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام.
قال الواقدي: أخبرنا إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد قال: أسلم على وهو ابن عشر سنين.
قال الواقدي: وأجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة.
وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الامة خديجة، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعلى، وأسلم على قبل أبى بكر، وكان على يكتم إيمانه خوفا من أبيه، حتى لقيه أبوه قال: أسلمت ؟ قال: نعم.
قال: وازر ابن عمك وانصره.
قال وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الاسلام.
وروى ابن جرير في تاريخه من حديث شعبة عن أبى بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس.
قال: أول من صلى على.
وحدثنا عبد الحميد بن يحيى، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر.
قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى على يوم الثلاثاء.
وروى من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبى حمزة - رجل من الانصار - سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب.
قال: فذكرته للنخعى فأنكره.
وقال: أبو بكر أول من أسلم.
ثم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عباد ابن عبد الله، سمعت عليا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الاكبر،

لا يقولها بعدى إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين.
وهكذا رواه ابن ماجة عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن عبيد الله بن موسى الفهمى - وهو شيعي من رجال الصحيح - عن العلاء بن صالح الازدي الكوفى - وثقوه - ولكن قال أبو حاتم: كان من عتق الشيعة - وقال على بن المدينى: روى أحاديث مناكير، والمنهال بن عمرو ثقة، وأما شيخه بن عبد الله - وهو الاسدي الكوفى - فقد قال فيه على بن المدينى: هو ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر.
وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذا الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله على رضى الله عنه، وكيف يمكن أن يصلى قبل الناس بسبع سنين ؟ ! هذا لا يتصور أصلا.
والله أعلم.
وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الامة أبو بكر الصديق.
والجمع بين الاقوال كلها: أن خديجة أول من أسلم من النساء، وظاهر السياقات - وقبل الرجال أيضا - وأول من أسلم من الموالى زيد بن حارثة.
وأول من أسلم من الغلمان على بن أبى طالب، فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذا ذاك أهل البيت.
وأول من أسلم من الرجال الاحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدرا معظما، ورئيسا في قريش مكرما، وصاحب مال، وداعية إلى الاسلام، وكان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله.
كما سيأتي تفصيله.
قال يونس عن ابن اسحاق: ثم إن أبا بكر الصديق لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد ؟ من تركك آلهتنا، وتسفيهك عفولنا، وتكفيرك آباءنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى، إنى رسول الله ونبيه، بعثنى لابلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فو الله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره والموالاة على طاعته ".
وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر.
فأسلم وكفر بالاصنام، وخلع الانداد وأقر بحق الاسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.
قال ابن إسحاق: حدثنى محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه ".
عكم: أي تلبث.
وهذا الذى ذكره ابن اسحاق في قوله: " فلم يقر ولم ينكر " منكر، فإن ابن إسحاق وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق فكيف يكذب على الله ؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له أن الله أرسله بادر إلى تصديقه ولم يتلعثم، ولا عكم.
وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذى أفردناه في سيرته، وأوردنا فضائله وشمائله وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا، وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم

من الاحاديث، وما روى عنه من الآثار والاحكام والتفاوى، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبى الدرداء في حديث ما كان بين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما من الخصومة، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله بعثنى إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق.
وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لى صاحبي " مرتين.
فما أوذى بعدها.
وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضى الله عنه.
وقد روى الترمذي وابن حبان من حديث شعبة عن سعيد الجريرى، عن أبى نضرة عن أبى سعيد.
قال: قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: ألست أحق الناس بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا ؟ وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد، حدثنا أبو إسحاق السبيعى عن الحارث، سمعت عليا يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق، وأول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال على بن أبى طالب.
وقال شعبة: عن عمرو بن مرة، عن أبى حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق.
رواه أحمد والترمذي والنسائي من حديث شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبى حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم على بن أبى طالب.
قال عمرو بن مرة: فذكرته لابراهيم النخعي فأنكره، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضى الله عنه

وروى الواقدي بأسانيده عن أبى أروى الدوسى وأبى مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف: أول من أسلم أبو بكر الصديق.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا أبو بكر الحميدى، حدثنا سفيان بن عيينة، عن مالك ابن مغول عن رجل قال: سئل ابن عباس: من أول من آمن ؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعت قول حسان: إذا تذكرت شجوا من أخى ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أوفاها وأعدلها * بعد النبي وأولاها بما حملا والتالى الثاني المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا عاش حميدا لامر لله متبعا * بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا وقد رواه أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا شيخ لنا عن مجالد، عن عامر قال: سألت ابن عباس - أو سئل ابن عباس - أي الناس أول إسلاما ؟ قال: أما سمعت قول حسان ابن ثابت فذكره.
وهكذا رواه الهيثم بن عدى، عن مجالد عن عامر الشعبى، سألت ابن عباس فذكره.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنى سريج بن يونس، حدثنا يوسف بن الماجشون قال: أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبى عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضى الله عنه.
قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب، ومحمد بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.

وروى ابن عساكر عن سعد بن أبى وقاص ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم يكن أولهم إسلاما، ولكن كان أفضلهم إسلاما.
قال سعد: وقد آمن قبله خمسة.
وثبت في صحيح البخاري من حديث همام بن الحارث، عن عمار بن ياسر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر.
وروى الامام أحمد وابن ماجه من حديث عاصم بن أبى النجود، عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.
وهكذا رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا.
فأما ما رواه ابن جرير قائلا: أخبرنا ابن حميد، حدثنا كنانة بن جبلة عن
إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد، عن محمد بن سعد بن أبى وقاص قال: قلت لابي: أكان أبو بكر أولكم إسلاما ؟ قال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين، ولكن كان أفضلنا إسلاما.
فإنه حديث منكر إسنادا ومتنا.
قال ابن جرير: وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد بن حارثة، ثم روى من

طريق الواقدي عن ابن أبى ذئب، سألت الزهري: من أول من أسلم من النساء ؟ قال: خديجة.
قلت: فمن الرجال ؟ قال: زيد بن حارثة.
وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير واحد: أول من أسلم من الرجال زيد ابن حارثة.
وقد أجاب أبو حنيفة رضى الله عنه بالجمع بين هذه الاقوال بأن أول من أسلم من الرجال الاحرار أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالى زيد بن حارثة، ومن الغلمان على بن أبى طالب.
رضى الله عنهم أجمعين.
قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عزوجل.
وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر.
وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف.
وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الامر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.
فجعل يدعو إلى الاسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه.
فأسلم على يديه فيما بلغني: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهم.
فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر، فعرض عليهم الاسلام
وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحق الاسلام فآمنوا.
وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الاسلام، [ فصلوا و (1) ] صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله.
__________
(1) من ابن هشام.
ويلاحظ أن لفظ ابن هشام مختلف عما هنا كثيرا.
(*)

وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثنى الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبى عن إبراهيم بن محمد بن أبى طلحة قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم: أفيهم رجل من أهل الحرم ؟ قال طلحة: قلت: نعم أنا.
فقال: هل ظهر أحمد بعد ؟ قلت: ومن أحمد ؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذى يخرج فيه، وهو آخر الانبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه.
قال طلحة: فوقع في قلبى ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حديث ؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الامين قد تنبأ، وقد اتبعه أبو بكر ابن أبى قحافة.
قال: فخرجت حتى قدمت على أبى بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل ؟ قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه، فإنه يدعو إلى الحق.
فأخبره طلحة بما قال الراهب.
فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب، فسر بذلك.
فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية، وكان يدعى أسد قريش، فشدهما في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تيم، فلذلك سمى أبو بكر وطلحة القرينين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفنا شر ابن العدوية ".
رواه البيهقى.
وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الاطرابلسى: حدثنا عبيد الله بن محمد
ابن عبد العزيز العمرى قاضى المصيصة، حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثنى أبى عبيد الله، حدثنى عبد الله

[ بن محمد ] بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال حدثنى أبى محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبى بكر، عن عائشة رضى الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى رسول الله أدعوك إلى الله " فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بين الاخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبى بكر.
ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد ابن أبى وقاص فأسلموا.
ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون، وأبى عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى سلمة بن عبد الاسد، والارقم بن أبى الارقم، فأسلموا رضى الله عنهم.
قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبى محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: " يا أبا بكر إنا قليل ".
فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحى المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبى بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحى المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين
مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبى بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه.

وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبى بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة.
فرجعوا إلى أبى بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لامه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه ؟.
فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: والله مالى علم بصاحبك.
فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.
فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك.
قالت: نعم.
فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت والله إن قوما نالوا هذا منك لاهل فسق وكفر، وإنى لارجو أن ينتقم الله لك منهم.
قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: هذه أمك تسمع.
قال: فلا شئ عليك منها.
قالت: سالم صالح.
قال: اين هو ؟ قالت: في دار ابن الارقم.
قال: فإن لله على أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله

وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة.
فقال أبو بكر: بأبى وأمى يا رسول الله، ليس بى بأس إلا ما نال الفاسق من وجهى، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار.
قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت.
وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا.
وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب - أو لابي جهل بن هشام - فأصبح عمر وكانت الدعوة يوم الاربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة.
وخرج أبو الأرقم، وهو أعمى كافر، وهو يقول: اللهم اغفر لبنى عبيد الارقم فإنه كفر.
فقام عمر فقال: يا رسول الله علام نخفى ديننا ونحن على الحق، ويظهر دينهم وهم على الباطل ؟ قال: " يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا ".
فقال عمر: فو الذى بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الايمان.
ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهى تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبأت ؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.

فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس.
واتبع المجالس التى كان يجالس فيها فيظهر الايمان.
ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم، قال: ما عليك، بأبى وأمى.
والله ما بقى مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الايمان غير هائب ولا خائف.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب، حتى طاف بالبيت وصلى الظهر مؤمنا، ثم انصرف إلى دار الارقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة.
كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.
وقد استقصينا كيفية إسلام أبى بكر وعمر رضى الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد.
وثبت في صحيح مسلم (1) من حديث أبى أمامة عن عمرو بن عبسة السلمى رضى الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذ مستخف فقلت: ما أنت ؟ قال: أنا نبى.
فقلت: وما النبي ؟ قال: رسول الله.
قلت: الله أرسلك ؟ قال: نعم.
قلت: بم أرسلك ؟ قال: بأن تعبد الله وحده لا شريك له وتكسر الاصنام، وتوصل الارحام.
قال: قلت: نعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا ؟ قال: حر وعبد.
يعنى أبا بكر وبلالا.
__________
(1) إسلام عمرو بن ؟ بسة في صحيح مسلم 1 / 569 حديث رقم 832 ولفظه مطول مختلف.
(*)

قال فكان عمرو يقول: لقد رأيتنى وأنا ربع الاسلام.
قال: فأسلمت.
قلت: فأتبعك يا رسول الله ؟ قال: لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت أنى قد خرجت فاتبعني.
ويقال إن معنى قوله عليه السلام " حر وعبد " اسم جنس، وتفسير ذلك بأبى بكر وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا، فلعله أخبر أنه ربع الاسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثيرا أحد من قراباتهم، دع الاجانب، دع أهل البادية من الاعراب.
والله أعلم.
وفى صحيح البخاري من طريق أبى أسامة عن هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت [ أبا إسحاق (1) ] سعد بن أبى وقاص يقول: وما أسلم أحد في اليوم الذى أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإنى لثلث الاسلام.
أما قوله: " ما أسلم أحد في اليوم الذى أسلمت فيه " فسهل، ويروى: " إلا في اليوم الذى أسلمت فيه " وهو مشكل، إذا يقتضى أنه لم يسبقه أحد بالاسلام.
وقد علم أن الصديق وعليا وخديجة وزيد بن حارثة أسلموا قبله، كما قد حكى الاجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الاثير.
ونص أبو حنيفة رضى الله عنه على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه.
والله أعلم.
وأما قوله: " ولقد مكثت سبعة أيام وإنى لثلث الاسلام " فمشكل وما أدرى على ماذا يوضع عليه، إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه.
والله أعلم.
__________
(1) من صحيح البخاري 2 / 183.
والرواية فيه: " إلا في اليوم الذى أسلمت فيه ".
(*)

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، وهو ابن مسعود، قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبى معيط بمكة.
فأتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقال - أو فقالا -: عندك يا غلام لبن تسقينا، قلت: إنى مؤتمن، ولست بساقيكما.
فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت: نعم.
فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع ودعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقيانى ثم قال للضرع: اقلص.
فقلص.
فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب، يعنى القرآن، فقال: " إنك غلام معلم " فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.
وهكذا رواه الامام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة به.
ورواه الحسن بن عرفة، عن أبى بكر بن عياش، عن عاصم بن أبى النجود به.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله بن بطة الاصبهاني، حدثنا الحسن بن الجهم، حدثنا الحسين بن الفرج، حدثنا محمد بن عمر، حدثنى جعفر ابن محمد بن خالد بن الزبير، عن أبيه - أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما وكان أول إخوته أسلم.
وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به.
ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحقويه (1) لا يقع، ففزع من نومه فقال: أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق.
__________
(1) الحقو: الكشح، وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف.
(*)

فلقى أبا بكر بن أبى قحافة فذكر ذلك له، فقال أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الاسلام، والاسلام يحجزك أن تدخل فيها، وأبوك واقع فيها.
فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد، فقال: يا رسول الله يا محمد إلام تدعو ؟ قال: " أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا يبصر: ولا ينفع، ولا يدرى من عبده ممن لا يعبده ".
قال خالد: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
وتغيب خالد وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتى به، فأنبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه.
وقال: والله لامنعنك القوت.
فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقنى ما أعيش به.
وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه ويكون معه.
ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم قال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق: حدثنى رجل من أسلم (1) - وكان واعية - أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه، فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجه منها شجة منكرة.
__________
(1) المطبوعة: ممن أسلم.
وهو تحريف.
وأسلم: قبيلة.
(*)

وقامت رجال من قريش من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه.
وقالوا ما
نراك يا حمزة إلا قد صبأت قال حمزة: ومن يمنعنى وقد استبان لى منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الذى يقول حق، فو الله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين.
فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإنى والله لقد سببت ابن اخيه سبا قبيحا.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، فكفوا عما كانوا يتناولون منه.
وقال حمزة في ذلك شعرا.
قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك للموت خير لك مما صنعت.
فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبى، وإلا فاجعل لى مما وقعت فيه مخرجا.
فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان.
حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا ابن أخى إنى قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلى على ما لا أدرى ما هو أرشد أم هو غى شديد فحدثني حديثا، فقد اشتهيت يا ابن أخى أن تحدثني.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه، وخوفه وبشره.
فألقى الله في قلبه الايمان بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا ابن أخى دينك، فو الله ما أحب أن لى ما أظلته السماء وأنى على دينى الاول.
فكان حمزة ممن أعز الله به الدين.

وهكذا رواه البيهقى عن الحاكم عن الاصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس ابن بكير به.
ذكر إسلام أبى ذر رضى الله عنه قال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، حدثنا الحسين بن محمد بن زياد، حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبى زميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبى ذر، قال: كنت ربع الاسلام، أسلم قبلى ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا سياق مختصر.
وقال البخاري: إسلام أبى ذر: حدثنا (1) عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدى، عن المثنى عن أبى جمرة (2)، عن ابن عباس.
قال لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لى علم هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتنى.
فانطلق الآخر (3) حتى قدمه وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبى ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الاخلاق وكلاما ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني مما أردت.
فتزود وحمل شنة [ له ] فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل [ اضطجع ] (4) فرآه على فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شئ حتى
__________
(؟) البخاري: حدثنى.
(2) خ ط: حمزة.
وهو تحريف وما أثبته من صحيح البخاري 2 / 183.
(3) البخاري: الاخ.
(4) ليست في البخاري.
(*)

أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه
وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه.
فمر به على فقال: أما آن (1) للرجل [ أن (2) ] يعلم منزله فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاجبه عن شئ.
حتى إذا كان يوم الثالث فعاد [ على (2) ] على مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذى أقدمك ؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنني فعلت.
ففعل فأخبره.
قال: فإنه حق، وإنه (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإنى إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأنى أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلى.
ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمرى ".
فقال: والذى بعثك بالحق (4) لاصرخن بها بين ظهرانيهم.
فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام [ القوم (2) ] فضربوه حتى أضجعوه.
فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام ؟ ! فأنقذه منهم.
ثم عاد من الغد بمثلها (5) فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه.
هذا لفظ البخاري.
وقد جاء إسلامه مبسوطا في صحيح مسلم وغيره.
فقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، أنا وأخى أنيس وأمنا.
__________
(1) البخاري: أما نال.
(2) من البخاري.
(3) البخاري: وهو رسول الله.
(4) البخاري: والذى نفسي بيده.
(5) البخاري: لمثلها.
(*)

فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذى مال وذى هيئة، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس.
فجاء خالنا فنثى ما قيل له (1) فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا (2) فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكى.
قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيسا.
فأتانا بصرمتنا ومثلها.
وقد صليت يا بن أخى، قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
قال: قلت لمن ؟ قال: لله.
قلت: فأين توجه ؟ قال: حيث وجهنى الله.
قال: وأصلى عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأنى خفاء (3) حتى تعلونى الشمس.
قال: فقال أنيس: إن لى حاجة بمكة فألقنى حتى آتيك.
قال: فانطلق فراث (4) على، ثم أتانى فقلت: ما حبسك قال: لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له ؟ قال: يقولون إنه شاعر وساحر.
وكان أنيس شاعرا.
قال: فقال: لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فو الله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
قال: فقلت له: هل أنت كافى حتى أنطلق ؟ قال: نعم ! وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنعوا له وتجهموا له.
__________
(1) نثى ما قيل له: أظهره وحدث به.
(2) الصرمة: القطعة من الابل ما بين العشرين إلى الثلاثين (3) الخفاء: الكساء.
(4) راث: أبطأ.
(*)

قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الرجل الذى
يدعونه الصابئ ؟ قال: فأشار إلى.
فمال أهل الوادي على بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا على، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأنى نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها وغسلت عنى الدم ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يا بن أخى ثلاثين من يوم وليلة مالى طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان (1) وضرب الله على أشحمة (2) أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا على وهما يدعوان إساف ونائلة.
فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر.
فما ثناهما ذلك.
فقلت: وهن مثل الخشبة غير أنى لم أركن.
قال: فانطلقتا يولولان ويقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا.
قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقالا: مالكما ؟ فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها.
قالا: ما قال لكما ؟ قالتا: قال لنا كلمة تملا الفم.
قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت، ثم صلى.
قال: فأتيته فكنت أول من حياه بتحية أهل الاسلام.
فقال: " عليك السلام ورحمة الله.
من أنت ؟ " قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته، قال: فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار.
قال: فأردت أن آخذ بيده فقذفني صاحبه، وكان أعلم به منى.
قال: متى كنت ههنا ؟ قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم.
__________
(1) إضحيان: مضيئة.
(2) الاشحمة: الآذان.
(*)

قال: فمن كان يطعمك ؟ قلت: ما كان إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت
عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها مباركة، إنها طعام طعم ".
قال: فقال أبو بكر: ائذن لى يا رسول الله في طعامه الليلة.
قال: ففعل.
قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها.
فلبثت ما لبثت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى قد وجهت إلى أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عنى قومك، لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم " ؟ قال: فانطلقت حتى أتيت أخى أنيسا، قال: فقال لى: ما صنعت ؟ قال: قلت صنعت أنى أسلمت وصدقت.
قال: فما بى رغبة عن دينك فإنى قد أسلمت وصدقت.
ثم أتينا أمنا فقالت: ما بى رغبة عن دينكما، فإنى قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن أيماء بن رخصة الغفاري وكان سيدهم يومئذ.
وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا.
قال: فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم.
قال: وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذى أسلموا عليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ".
ورواه مسلم عن هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة به نحوه.
وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر وفيه زيادات غريبة فالله أعلم.
وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسى في كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة والسلام.

ذكر إسلام ضماد روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبى هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد
ابن جبير، عن ابن عباس.
قال: قدم ضماد مكة، وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون: إن محمدا مجنون.
فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى ؟ فلقيت محمدا فقلت: إنى أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفى على يدى من شاء، فهلم.
فقال محمد: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
ثلاث مرات ".
فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الاسلام.
فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: وعلى قومك ؟ فقال: وعلى قومي.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فمروا بقوم ضماد.
فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا ؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مظهرة (1).
فقال ردها عليهم فإنهم قوم ضماد.
وفى رواية فقال له ضماد: أعد على كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس (2) البحر.
__________
(1) المظهر: البعير التى أتت عليه الظهيرة وهو يرعى.
(2) قاموس البحر: أبعد موضع فيه غورا.
هذا والرواية في الوفا: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
فقال: لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل كلماتك هولاء ولقد بلغت قاموس البحر.
(*)

وقد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة إسلام من أسلم من الاعيان فصلا طويلا، واستقصى ذلك استقصاء حسنا رحمه الله وأثابه.
وقد سرد ابن اسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضى الله عنهم.
قال: ثم أسلم أبو عبيدة، وأبو سلمة، والارقم بن أبى الارقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب.
وأسماء بنت أبى بكر، وعائشة بنت أبى بكر، وهى صغيرة.
وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون.
وخباب بن الارت، وعمير بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود، ومسعود بن القارى (1)، وسليط بن عمرو وعياش بن أبى ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلمة (2) بن مخربة (3) التميمية، وخنيس بن حذاقة، وعامر بن ربيعة.
وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبى طالب، وامرأته أسماء بنت عميس.
وحاطب بن الحارث [ وامرأته فاطمة بنت المجلل.
وحطاب بن الحارث (4) ] وامرأته فكيها ابنة يسار.
ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحى، والسائب بن عثمان بن مظعون.
والمطلب بن أزهر بن عبد مناف (5)، وامرأته رملة بنت أبى عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم.
والنحام، واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر،
__________
(1) هو مسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبد العزى بن حمالة بن غالب بن محلم بن عائذة بن سبيع ابن الهون بن خزيمة من القارة.
والقارة لقب لهم.
وهى قبيلة.
ولهم يقال: قد أنصف القارة من راماها (2) ابن هشام: سلامة.
(3) الاصل والمطبوعة: مخرمة التيمى، وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(4) سقطت من الاصل وأثبتها من ابن هشام.
(5) ابن هشام: عبد عوف.
(*)

وخالد بن سعيد، وأمينة ابنة خلف بن أسعد (1) بن عامر بن بياضة من (2) خزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن
عرين بن ثعلبة التميمي حليف بنى عدى.
وخالد بن البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بنى سعد بن ليث.
وكان اسم عاقل غافلا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقلا، وهم حلفاء بنى عدى بن كعب.
وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان.
ثم دخل الناس [ في الاسلام (3) ] أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا أمر الاسلام بمكة وتحدث به.
قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين.
قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم.
فبينا سعد بن أبى وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم.
فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم هريق في الاسلام وروى الاموى في مغازيه من طريق الوقاصى عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه.
فذكر القصة بطولها، وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله.
__________
(1) ط، خ: سعد وهو تحريف، وما أثبته عن ابن هشام.
(2) الاصل: ابن، وهو تحريف (3) من ابن هشام.
(*)

باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والاعراض عن الجاهلين المعاندين
المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الاعظم إليهم، وذكر ما لقى من الاذية منهم هو وأصحابه رضى الله عنهم.
قال الله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، فإن عصوك فقل إنى برئ مما تعملون، وتوكل على العزيز الرحيم، الذى يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين، إنه هو السميع العليم (1) ".
وقال تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون (2) ".
وقال تعالى: " إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد (3) " أي إن الذى فرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة وهى المعاد، فيسألك عن ذلك.
كما قال تعالى: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ".
والآيات والاحاديث في هذا كثيرة جدا، وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء " وأنذر عشيرتك الاقربين ".
وأوردنا أحاديث جمة في ذلك.
فمن ذلك: قال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الاعمش، عن عمرو بن
__________
(1) الشعراء: 214 - 220 (2) الزخرف: 44 (3) القصص: 85.
(*)

مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله " وأنذر عشيرتك الاقربين " أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى: " يا صباحاه ".
فاجتمع الناس إليه بين رجل يجئ إليه وبين رجل يبعث رسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بنى عبد المطلب، يا بنى فهر، يا بنى كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ " قالوا: نعم ! قال: " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد ".
فقال أبو لهب، لعنه الله: تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا.
وأنزل الله عزوجل " تبت يدا أبى لهب وتب ".
وأخرجاه من حديث الاعمش به نحوه.
وقال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبى هريرة.
قال: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص.
فقال: " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بنى كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإنى والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها (1) ".
ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبى سلمة عن أبى هريرة، وله طرق أخر عن أبى هريرة في مسند أحمد وغيره.
وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع بن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها.
قالت:
__________
(1) البلال: جمع بلل، وفى الاصل: ببلائها.
وفى البخاري 3 / 127: قال أبو عبد الله: ببلاها كذا ومع وببلالها أجود وأصح، وببلاها لا أعرف له وجها.
(*)

لما نزل " وأنذر عشيرتك الاقربين " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بنى عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلونى من مالى ما شئتم ".
ورواه مسلم أيضا.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقى في الدلائل: أخبرنا محمد بن عبد الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن
محمد بن إسحاق، قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل، واستكتمني اسمه، عن ابن عباس، عن على بن أبى طالب.
قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنذر عشيرتك الاقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عرفت أنى إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت.
فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار ".
قال: فدعاني فقال " يا على إن الله قد أمرنى أن أنذر عشيرتي الاقربين، فاصنع لنا يا على شاة على صاع من طعام، وأعد لنا عس (1) لبن، ثم اجمع لى بنى عبد المطلب ".
ففعلت، فاجتمعوا له يومئذ، وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث.
فقدمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية (2) فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال: " كلوا بسم الله " فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها.
ثم قال رسول الله صلى الله
__________
(1) العس: القدح الضخم.
(2) الحذية: القضعة ؟.
(*)

عليه وسلم: " اسقهم يا على " فجئت بذلك القعب فشربوا مته حتى نهلوا جميعا، وايم الله إن كان الرجل ليشرب مثله.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله فقال: لهد ما سحركم صاحبكم.
فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عد لنا مثل الذى كنت صنعت لنا بالامس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدر إلى ما سمعت قبل أن
أكلم القوم ".
ففعلت، ثم جمعتهم له وصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالامس، فأكلوا حتى نهلوا عنه وايم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقهم يا على، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله.
فلما أراد رسول الله أن يكلمهم، بدره أبو لهب لعنه الله إلى الكلام فقال: لهد ما سحركم صاحبكم ؟ فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا على عد لنا بمثل الذى كنت صنعت بالامس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرنى إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم ".
ففعلت، ثم جمعتهم له.
فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالامس، فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا، وايم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بنى عبد المطلب إنى والله ما أعلم شابا من

العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إنى قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة ".
هكذا رواه البيهقى من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمه عن عبد الله بن الحارث به.
وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل الابرش، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس عن على فذكر مثله.
وزاد بعد قوله: " وإنى قد جئتكم ؟ خير الدنيا والآخرة، وقد أمرنى الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا
الامر على أن يكون أخى " وكذا وكذا.
قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت ولانى لاحدثهم سنا وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا: أنا يا نبى الله أكون وزيرك عليه.
فأخذ برقبتى فقال: " إن هذا أخى وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا ".
قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لابي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! تفرد به عبد الغفار ابن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي اتهمه على بن المدينى وغيره بوضع الحديث، وضعفه الباقون.
ولكن روى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه: عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثى عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الاعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله ابن الحارث.
قال: قال على: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين ".
قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنع لى رجل شاة بصاع من طعام، وإناء لبنا، وادع لى بنى هاشم.
فدعوتهم وإنهم يومئذ لاربعون غير رجل، أو أربعون ورجل.

فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام.
فقال: " أيكم يقضى عنى دينى ويكون خليفتي في أهلى ؟ ".
قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال وسكت أنا لسن العباس.
ثم قالها مرة أخرى، فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله.
قال: أنت ؟ ! قال: وإنى يومئذ لاسوأهم هيئة، وإنى لاعمش العينين، ضخم البطن، خمش الساقين.
وهذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم.
وقد روى الامام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الاسدي وربيعة بن ناجذ عن على نحو ما تقدم - أو كالشاهد له - والله أعلم.
ومعنى قوله في هذا الحديث: " من يقضى عنى دينى ويكون خليفتي في أهلى "، يعنى إذا مت، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشى إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب (1) أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضى عنه، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " (2) الآية.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده ح عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفى المواسم، ومواقف الحج.
__________
(1) ا: بإبلاغ مشر ؟ كى العرب رسالة الله.
(2) سورة المائدة.
(*)

يدعو من لقيه حر وعبد، وضعيف وقوى، وغنى وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء.
وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الاشداء الاقوياء من مشركي قريش بالاذية القولية والفعلية.
وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبى سفيان.
وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إليه طبعا، وكان يحنو عليه ويحسن إليه، ويدافع عنه ويحامى، ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا.
وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه.
ولاجترءوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، وربك يخلق ما يشاء ويختار (1).
وقد قسم خلقه أنواعا وأجناسا.
فهذان العمان كافران أبو طالب وأبو لهب، ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الاسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب.
__________
(1) بل لو كان أبو طالب أسلم لكان ذلك داعيا إلى إسلام غيره من مشيخة قريش، ويفهم من كلام المؤلف أن الله سبحانه قضى على أبى طالب بالكفر حماية لرسوله ! ! وهو تعليل غير سائغ.
(*)

قال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبى العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد عن أبيه، قال أخبر رجل يقال له ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا فأسلم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ثم رواه هو والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبى الزناد بنحوه.
وقال البيهقى أيضا: حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري، حدثنا محمد بن عمر، عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الديلى.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذى المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها
الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت: من هذا ؟ قيل: هذا أبو لهب.
ثم رواه من طريق شعبة عن الاشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " وإذا رجل خلفه يسفى عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.
كذا قال: " أبو جهل "، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر، إن شاء الله تعالى.
وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه

وسجاياه، واعتماده فيما يحامى به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم.
قال يونس بن بكير: عن طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن موسى بن طلحة، أخبرني عقيل بن أبى طالب قال: جاءت قريش إلى أبى طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا.
فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد.
فانطلقت فاستخرجته من كنس، أو قال خنس، يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر.
فلما أتاهم قال: إن بنى عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم.
فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء.
فقال: " ترون هذه الشمس ؟ " قالوا نعم ! قال: " فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة ".
فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخى قط فارجعوا.
رواه البخاري في التاريخ، عن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير.
ورواه البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عنه به - وهذا لفظه - ثم روى البيهقى من طريق يونس، عن ابن إسحاق: حدثنى يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس، أنه حدث أن قريشا حين قالت لابي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له: يا ابن أخى إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الامر مالا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قومك.
فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم لو وضعت الشمس

في يمينى والقمر في يسارى ما تركت هذا الامر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه " ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى.
فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الامر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخى.
فأقبل عليه، فقال امض على أمرك وافعل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشئ أبدا.
قال ابن إسحاق: ثم قال أبو طالب في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا فامضى لامرك ما عليك غضاضة * أبشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وعلمت أنك ناصحى * فلقد صدقت وكنت قدم أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذارى سبة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا ثم قال البيهقى: وذكر ابن إسحاق لابي طالب في ذلك أشعارا.
وفى ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء، لا معقب لحكمه..وقال يونس بن بكير: حدثنى محمد بن إسحاق، حدثنى رجل من أهل مصر قديما منذ بضع (1) وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام رسول الله قال أبو جهل ابن هشام: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا، وإنى أعاهد الله لاجلس له غدا بحجر، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.
__________
(1) الاصل: بضعا.
(*)

فلما أصبح أبو جهل، لعنه الله، أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره.
وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان قبلته الشام.
فكان إذا صلى صلى بين الركنين الاسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده.
وقامت إليه رجال من قريش.
فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم ؟ ! فقال: قمت إليه لافعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الابل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته (1) ولا أنيابه لفحل قط، فهم أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ذلك جبريل،
ولو دنا منه لاخذه ".
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا عثمان الدارمي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة، عن أبان بن صالح، عن على بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن عباس بن عبد المطلب.
قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل - لعنه الله - فقال: إن لله على إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته.
__________
(1) القصرة: أصل العنق.
(*)

فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبى جهل، فخرج غضبان حتى جاء المسجد، فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط.
فقلت هذا يوم شر، فاتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ " اقرأ باسم ربك الذى خلق، خلق الانسان من علق " فلما بلغ شأن أبى جهل " كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " فقال إنسان لابي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد.
فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى ! والله لقد سد أفق السماء على.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لاطأن على عنقه.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لو فعل لاخذته الملائكة عيانا ".
ورواه البخاري عن يحيى عن عبد الرزاق به.
قال داود بن أبى هند: عن عكرمة، عن ابن عباس قال مر أبو جهل بالنبي.
صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، فقال: ألم أنهك أن تصلى يا محمد ؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا منى.
فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال جبريل: " فليدع ناديه، سندع الزبانية " والله لو دعا ناديه لاخذته زبانية العذاب.
رواه أحمد والترمذي، وصححه النسائي من طريق داود به.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلى لآتينه حتى أطأ عنقه.
قال: فقال: " لو فعل لاخذته الزبانية عيانا ".

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس ابن أبى إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس قال: قال: أبو جهل لئن عاد محمد يصلى عند المقام لاقتلنه.
فأنزل الله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " حتى بلغ من الآية " لنسفعا بالناصية.
ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية ".
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلى فقيل ما يمنعك ؟ قال: قد اسود ما بينى وبينه من الكتائب.
قال ابن عباس: والله لو تحرك لاخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الاعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبى هند، عن أبى حازم، عن أبى هريرة.
قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا: نعم.
قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلى كذلك لاطأن على رقبته، ولاعفرن وجهه بالتراب.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه.
قال: فقيل له: مالك ؟ قال: إن بينى وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ".
قال: وأنزل الله تعالى - لا أدرى في حديث أبى هريرة أم لا - " كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى " إلى آخر السورة.
وقد رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن أبى حاتم والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان ابن طرخان التيمى، به.

وقال الامام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، عن عمرو ابن ميمون، عن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلى ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذا هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبى معيط: أنا.
فأخذه فألقاه على ظهره.
فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم عليك بهذا الملا من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة ابن أبى معيط، اللهم عليك بأبى بن خلف - أو أمية بن خلف - " شعبة الشاك.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبى، أو أمية بن خلف، فإنه كان رجلا ضخما فتقطع.
وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه، ومسلم من طرق عن ابن إسحاق به.
والصواب: أمية بن خلف، فإنه الذى قتل يوم بدر، وأخوه أبى إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه.
والسلا: هو الذى يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة.
وفى بعض ألفاظ الصحيح أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضم يميل على بعض، أي يميل هذا على هذا من شدة الضحك.
لعنهم الله.
وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الملا منهم جملة، وعين في دعائه سبعة، وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم: وهم عتبة، وأخوه شيبة، ابنا ربيعة

والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبى معيط، وأمية بن خلف.
قال ابن إسحاق: ونسيت السابع.
قلت: وهو عمارة بن الوليد، وقع تسميته في صحيح البخاري.
قصة الاراشى قال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الملك بن أبى سفيان الثقفى قال: قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل الاراشى حتى وقف على نادى قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش من رجل يعديني على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب وابن سبيل، وقد غلبنى على حقى.
فقال أهل المجلس: ترى ذلك - إلى رسول الله - يهزأون به (1) صلى الله عليه وسلم، لما يعلمون ما بينه وبين أبى جهل من العداوة - اذهب إليه فهو يؤديك (2) عليه.
فأقبل الاراشى حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه.
فقال: من هذا ؟ قال: محمد فاخرج، فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه.
فقال: أعط هذا
الرجل حقه.
قال: لا تبرح حتى أعطيه الذى له.
قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للاراشى: الحق لشأنك.
فأقبل الاراشى: حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد أخذت الذى لى.
__________
(1) الاصل: يهزون.
ولا معنى لها.
(2) كذا، ولعلها يعديك.
(*)

وجاء الرجل الذى بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت ؟ قال: عجبا من العجب ! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه، فقال: أعط هذا الرجل حقه.
فقال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه.
فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه.
ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك مالك ! فو الله ما رأينا مثل ما صنعت.
فقال: ويحكم: والله ما هو إلا أن ضرب على بابى وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الابل ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فو الله لو أبيت لاكلنى.
فصل وقال البخاري: حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنى الاوزاعي، عن يحيى بن أبى كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمى، حدثنى عروة بن الزبير، سألت ابن [ عمرو بن ] (1) العاص فقلت: أخبرني بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله.
قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه على عنقه (2) فخنقه خنقا شديدا.
فأقبل أبو بكر رضى الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " الآية.
تابعه ابن إسحاق قال: أخبرني يحيى بن عروة، عن أبيه، قال: قلت
لعبد الله بن عمرو.
وقال عبدة: عن هشام، عن أبيه قال: قيل لعمرو بن العاص.
وقال محمد بن عمرو: عن أبى سلمة، حدثنى عمرو بن العاص.
__________
(1) من البخاري 2 / 182 (2) البخاري: في عنقه.
(*)

قال البيهقى وكذلك رواه سليمان بن بلال عن هشام بن عروة كما رواه عبدة.
انفرد به البخاري.
وقد رواه في أماكن من صحيحه، وصرح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وكونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة.
وقد روى البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يحيى بن عروة، عن أبيه عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو ابن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته ؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعاتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم.
أو كما قالوا.
قال: فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه.
فمضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.
فقال: " أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذى نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ".
فأخذت القوم، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع، حتى
إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفأه (1) حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) يرفأه: يترضاه.
(*)

حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه.
حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه ! فبينما هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا وكذا ؟ ! لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم.
فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم أنا الذى أقول ذلك ".
ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكى دونه ويقول: ويلكم (أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله) ثم انصرفوا عنه.
فإن ذلك لاكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط.
فصل في تأليب الملا من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجتماعهم بعمه أبى طالب القائم في منعه ونصرته، وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة وما لى ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط بلال ! ".
وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي:
حسن صحيح.

وقال محمد بن إسحاق: وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شئ.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شئ أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب: عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصى، وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأبو البخترى، واسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصى، والاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى، ونبيه ومنبه، ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى، والعاص بن وائل بن سعيد بن سهم.
قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم.
فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه.

ثم شرى (1) الامر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا.
وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبى طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
أو كما قالوا.
ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس، أنه حدث أن قريشا حين قالوا لابي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخى إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، للذى قالوا له، فأبق على وعلى نفسك ولا تحملني من الامر ما لا أطيق.
قال: فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بدو (1) وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يمينى، والقمر في يسارى على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته ".
قال: ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام !
__________
(1) شرى: اشتد.
(2) ابن هشام والمراجع: بداء.
(*)

فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخى.
فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخى فقل ما أحببت فو الله لا أسلمتك لشئ أبدا.
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم (1)، مشوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة، فقالوا له، فيما بلغني: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله، فإنما هو رجل برجل ! قال: والله لبئس ما تسوموننى ! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه ! هذا والله ما لا يكون أبدا.
قال: فقال المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف بن قصى: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.
فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك.
أو كما قال.
فحقب الامر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضا.
فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدى ويعم من خذله من بنى عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم:
__________
(1) الاصل: وعداوته.
وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

ألا قل لعمرو والوليد ومطعم * ألا ليت حظى من حياطتكم بكر (1) من الخور حبحاب (2) كثير رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر
تخلف خلف الورد ليس بلاحق * إذ ما علا الفيفاء (3) قيل له وبر أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سئلا قالا إلى غيرنا الامر بلى لهما أمر ولكن تجرجما * كما جرجمت من رأس ذى علق الصخر (4) أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا * هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صفر هما أشركا في المجد من لا أبا له * من الناس إلا أن يرس (5) له ذكر وتيم ومخزوم وزهرة منهم * وكانوا لنا مولى إذا بغى النصر فو الله لا تنفك منا عداوة * ولا منكم ما دام من نسلنا شفر (6) فصل في مبالغتهم في الاذية لآحاد المسلمين المستضعفين قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه.
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم.
ومنع الله منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمه أبى طالب.
__________
(1) أي أن بكرا من الابل أنفع لى منكم، فليته لى بدلا من حياطتكم.
(2) الخور: الضعاف، والحبحاب: الصغير.
(3) الفيفاء: الصحراء.
والوبر: دويبة كالسنور.
(4) الاصل: تحرجما: محرفة، وما أثبته من ابن هشام.
وتجرجم: سقط وانحدر.
وذو علق: جبل في ديار بنى أسد.
(5) يرس: يعرف.
(6) شفر بفتح الشين وضمها: أحد.
(*)

وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بنى هاشم وبنى عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبى
لهب عدو الله.
فقال في ذلك يمدحهم ويحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت أشراف عبد منافها * ففى هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الرقاب نقيمها ونحمى حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أحجارها من يرومها بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها فصل فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات وخرق العادات على وجه العناد، لا على وجه طلب الهدى والرشاد فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ولا ما إليه رغبوا، لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون.

قال الله تعالى " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، قل إنما الآيات عند الله، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون، ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن
أكثرهم يجهلون (1) ".
وقال تعالى: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم (2) ".
وقال تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (3) ".
وقال تعالى " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتى بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.
قل: سبحان ربى هل كنت إلا بشرا رسولا (4) ".
وقد تكلمنا على هذه الآيات وما يشابهما في أماكنها في التفسير ولله الحمد.
وقد روى يونس وزياد (5) عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، وهو شيخ من أهل مصر يقال له محمد بن أبى محمد، عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمع علية من أشراف قريش، وعدد أسماءهم، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه.
__________
(1) سورة الانعام 109 - 111.
(2) سورة يونس 96 - 97.
(3) سورة الاسراء 59.
(4) سورة الاسراء 90 - 93.
(5) يونس بن بكير، وزياد البكائى، وهما راويا السيرة عن ابن إسحاق (*)

فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أنه قد بدالهم في أمره بدو، وكان حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.
فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب
أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الاحلام، وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة، وما بقى من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك.
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك، وكانوا يسمون التابع من الجن الرئى - فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بى ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثنى إليكم رسولا، وأنزل على كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم ".
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذى بعثك

بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم قصى بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل ؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك، صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك
رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثنى به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم ".
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغى، فإنك تقوم في الاسواق وتلتمس المعاش (1) كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم: " ما أنا بفاعل، ما أنا بالذى يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم ".
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال: " ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك ".
فقالوا: يا محمد ما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب
__________
(1) الاصل: المعايش محرفة.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

منك ما نطلب، فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به.
فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبى أمية ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لانفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فو الله لا أو من لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى منه وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتى معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول.
وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أنى لا أصدقك.
ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما (1) طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
وهذا المجلس الذى اجتمع عليه هؤلاء الملا مجلس ظلم وعدوان وعناد، ولهذا
__________
(1) الاصل: بما.
محرفة، والعبارة في ابن هشام: مما كان يطمع به من قومه.
(*)

اقتضت الحكمة الالهية والرحمة الربانية ألا يجابوا إلى ما سألوا، لان الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك فيعاجلهم بالعذاب.
كما قال الامام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن الاعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحى عنهم الجبال فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأنى بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذى سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الامم.
قال: " لا بل أستأني بهم ".
فأنزل الله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (1) ".
وهكذا رواه النسائي من حديث جرير.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران ابن حكيم، عن ابن عباس، قال: قالت قريش للنبى صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك.
قال: وتفعلوا ؟ قالوا: نعم.
قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة.
قال: " بل التوبة والرحمة ".
__________
(1) سورة الاسراء 59.
(*)

وهذان إسنادان جيدان، وقد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج، وغير واحد.
وروى الامام أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن (1) أبى أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عرض على ربى عزوجل أن يجعل لى بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، أشبع يوما وأجوع يوما، أو نحو ذلك، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ".
لفظ أحمد.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وعلى بن يزيد يضعف في الحديث.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى شيخ من أهل مصر، قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة ابن أبى معيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الاول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الانبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.
__________
(1) الاصل بن أبى أمامة.
وهو تحريف.
وهو القاسم بن عبد الرحمن، لم يرو إلا عن أبى أمامة من الصحابة.
(*)

قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فروا فيه رأيكم.
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طواف طاف مشارق الارض ومغاربها ما كان [ نبؤه ] (1) ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور.
فأخبراهم بها.
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا.
فسألوه عما أمروهم به.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخبركم غدا بما سألتم عنه ".
ولم يستثن.
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشئ مما سألناه عنه.
وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عزوجل بسورة الكهف، فيها معاتبته إياه على
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

حزنه عليهم [ وخبر ] (1) ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقال الله تعالى: " ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربى، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ".
وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير مطولا، فمن أراده فعليه بكشفه من هناك.
ونزل قوله: " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ".
ثم شرع في تفصيل أمرهم، واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقا لا تعليقا في قوله " ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت ".
ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر، ثم ذى القرنين، ثم قال: " ويسألونك عن ذى القرنين، قل سأتلو عليكم منه ذكرا " ثم شرح أمره وحكى خبره.
وقال في سورة سبحان: " ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربى ".
أي خلق عجيب من خلقه، وأمر من أمره، قال لها كونى فكانت، وليس لكم الاطلاع على كل ما خلقه، وتصوير حقيقته في نفس الامر يصعب عليكم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته، ولهذا قال: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ".
وقد ثبت في الصحيحين أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فتلا عليهم هذه الآية.
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

فإما أنها نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابا، وإن كان نزولها متقدما.
ومن قال إنها إنما نزلت بالمدينة واستثناها من سورة سبحان ففى قوله نظر.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ولما خشى أبو طالب دهم (1) العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التى تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشئ أبدا حتى يهلك دونه.
فقال: ولما رأيت القوم لا ود فيهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعدواة والاذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قوما علينا أظنة * يعضون غيظا خلفنا بالانامل صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * وأبيض عضب من تراث المقاول (2) وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتى * وأمسكت من أثوابه بالوصائل قياما معا مستقبلين رتاجه * لدى حيث يقضى حلفه كل نافل (3) وحيث ينيخ الاشعرون ركابهم * بمفضى السيول من إساف ونائل موسمة الاعضاد أو قصراتها * مخيسة بين السديس وبازل (4)
ترى الودع فيها والرخام وزينة * بأعناقها معقودة كالعثاكل (5)
__________
(1) ابن هشام: دهماء.
(2) العضب: القاطع.
والمقاول: الملوك.
(3) النافل: المتبرئ.
(4) الموسمة: المعلمة.
والقصرات: جمع قصرة، وهى أصل العنق.
والمخيسة: المذللة.
والسديس من الابل: الذى دخل في السنة الثامنة.
والبازل: الذى خرج نابه، وذلك في السنة التاسعة.
(5) العثاكل: الاغصان التى ينبت عليها التمر.
واحدها عثكول، وجمعها عثاكيل، وحذفت الياء للضرورة.
(*)

أعوذ برب الناس من كل طاعن * علينا بسوء أو ملح بباطل ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة * ومن ملحق في الدين ما لم نحاول وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق ليرقى في حراء ونازل وبالبيت حق البيت من بطن مكة * وبالله، إن الله ليس بغافل وبالحجر المسود إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والاصائل وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل وأشواط بين المروتين إلى الصفا * وما فيهما من صورة وتماثل ومن حج بيت الله من كل راكب * ومن كل ذى نذر ومن كل راجل وبالمشعر الاقصى إذا عمدوا له * إلال إلى مفضى الشراج القوابل (1) وتوقافهم فوق الجبال عشية * يقيمون بالايدي صدور الرواحل وليلة جمع والمنازل من منى * وهل فوقها من حرمة ومنازل وجمع إذا ما المقربات أجزنه * سراعا كما يخرجن من وقع وابل وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل وكندة إذ هم بالحصاب عشية * تجيز بهم حجاج بكر بن وائل
حليفان شدا عقد ما احتلفا له * وردا عليه عاطفات الوسائل وحطمهم سمر الرماح وسرحه * وشبرقه وخد النعام الجوافل (2)
__________
(1) إلال: جبل عرفة.
قال النابغة: * يزرن إلالا مسيرهن التدافع * وسمى إلالا لان الحجيج إذا رأوه ألوا في، أي اجتهدوا فيه ليدركوا الموقف.
والشراج: جمع شرج وهو الماء.
والقوابل: المتقابلة.
(2) الشبرق: نبات يقال ليابسه الحلى والرطبة الشبرق.
والوخد: السير السريع.
والجوافل.
المسرعة والرواية في الروض: سمر الصفاح، وعليها يكون هناك معنى لعطف " وسرحه " على سمر.
والسمر: من شجر الطلع.
والصفاح: جمع صفح وهو عرض الجبل.
والسرح: شجر عظام.
(*)

فهل بعد هذا من معاذ لعائذ * وهل من معيذ يتقى الله عادل يطاع بنا أمر العدا ود أننا * يسد بنا أبواب ترك وكابل (1) كذبتم وبيت الله نترك مكة * ونظعن إلا أمركم في بلابل كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل (2) ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم بالحديد إليكم * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل (3) وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه * من الطعن فعل الانكب المتحامل (4) وإنا لعمر الله إن جد ما أرى * لتلتبسن أسيافنا بالاماثل بكفى فتى مثل الشهاب سميدع * أخى ثقة حامى الحقيقة باسل (5) شهورا وأياما وحولا محرما * علينا وتأتى حجة بعد قابل وما ترك قوم، لا أبا لك، سيدا * يحوط الذمار غير ذرب مواكل (6) وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للارامل (7)
يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في رحمة وفواضل لعمري لقد أجرى أسيد وبكره * إلى بغضنا وجزانا لآكل (8)
__________
(1) الاكتفا: * يطاع بنا العدى وودوا لو اننا * وهى رواية بعض نسخ ابن هشام.
(2) نبزى: نسلب.
وفى الروض نبذى.
محرفة.
(3) الروايا: الابل تحمل الماء، واحدتها روايا.
والصلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء.
(4) الضغن: العداوة.
ويركب درعه: يخر صريعا لوجهه.
والانكب: المائل إلى جهة.
(5) السميدع: السيد.
(6) الذرب بالتسكين مخففة من الذرب بكسر الراء، وهو: اللسان الفاحش النطق، والمواكل: العاجز الذى يعتمد على غيره.
(7) ثمال اليتامى: الذى يثملهم ويقوم بهم (8) أسيد وبكره: عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
(*)

وعثمان لم يربع علينا وقنفذ * ولكن أطاعا أمر تلك القبائل (1) أطاعا أبيا وابن يغوثهم * ولم يرقبا فينا مقالة قائل (2) كما قد لقينا من سبيع ونوفل * وكل تولى معرضا لم يجامل (3) فإن يلفيا أو يمكن الله منهما * نكل لهما صاعا بصاع المكايل وذاك أبو عمرو أبى غير بغضنا * ليظعننا في أهل شاء وجامل (4) يناجى بنا في كل ممسى ومصبح * فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل (5) ويؤلى لنا بالله ما إن يغشنا * بلى قد نراه جهرة غير خائل (6) أضاق عليه بغضنا كل تلعة * من الارض بين أخشب فمجادل (7) وسائل أبا الوليد ماذا حبوتنا * بسعيك فينا معرضا كالمخاتل وكنت امرءا ممن يعاش برأيه * ورحمته فينا ولست بجاهل فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح * حسود كذوب مبغض ذى دغاول (8)
ومر أبو سفيان عنى معرضا * كما مر قيل من عظام المقاول يفر إلى نجد وبرد مياهه * ويزعم أنى لست عنكم بغافل ويخبرنا فعل المناصح أنه * شفيق ويخفى عارمات الدواخل أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة * ولا معظم عند الامور الجلائل ولا يوم خصم إذ أتوك ألدة * أولى جدل من الخصوم المساجل (9)
__________
(1) عثمان بن عبيد الله أخو طلحة، وقنفذ: ابن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة.
(2) أبى: الاخنس بن شريق.
(3) سبيع: ابن خالد، أخو بلحارث بن فهر.
ونوفل: ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى.
(4) أبو عمرو: قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.
ويظعننا: يخرجنا.
والشاء: اسم جمع، وكذلك الجامل.
(5) خاتل: خادع.
(6) يؤلى: يقسم.
وفى ابن هشام: غير حائل.
(7) التلعة: المشرف من الارض.
(8) الدغاول: الغوائل.
(9) المساجل: جمع مسجل بكسر الميم، وهو الخصم المدافع.
أو جمع مساجل بضم الميم، على تقدير حذف الالف الزائدة من مفاعل، وتروى بالجاء جمع مسحل وهو اللسان.
(*)

أمطعم إن القوم ساموك خطة * وإنى متى أوكل فلست بوائل جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل بميزان قسط لا يخيس شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل (1) لقد سفهت أحرم قوم تبدلوا * بنى خلف قيضا بنا والغياطل (2) ونحن الصميم من ؟ ؤابة هاشم * وآل قصى في الخطوب الاوائل وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا * علينا العدا من كل طمل وخامل (3) فعبد مناف أنتم خير قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل (4) لعمري لقد وهنتم وعجزتم * وجئتم بأمر مخطئ للمفاصل وكنتم حديثا حطب قدر وأنتم * ألان حطاب أقدر ومراجل (5)
ليهن بنى عبد مناف عقوقنا * وخذلاننا وتركنا في المعاقل فإن نك قوما نتئر ما صنعتم * وتحتلبوها لقحة غير باهل (6) فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا * وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم * لكنا أسى عند النساء المطافل فكل صديق وابن أخت نعده * لعمري وجدنا غبه غير طائل (7) سوى أن رهطا من كلاب بن مرة * براء إلينا من معقة خاذل
__________
(1) يخيس.
من خاس بالعهد إذا نقضه.
وتروى لا يخس، أي لا ينقص.
والعائل: الظالم (2) الغياطل: بنو سهم لان أمهم الغيطلة.
(3) الطمل: اللص وهو الفاحش أيضا.
(4) الواغل: المتطفل.
(5) الحطب: اسم للجمع مثل ركب وليس بجمع.
وقوله: حطاب أقدر هو جمع حاطب.
والمعنى: كنتم متفقين لا تحطبون إلا لقدر واحدة فانتم الآن بخلاف ذلك.
(6) نتئر: نثأر.
واللقحة: الناقة ذات اللبن.
والباهل: الناقة التى لا صرار على أخلافها فهى مباحة الحلب، يقال: ناقة مصرورة إذا كان على خلفها صرار يمنع الفصيل من أن يرضع.
(7) غبه: عاقبته.
(*)

ونعم ابن أخت القوم غير مكذب * زهير حساما مفردا من حمائل أشم من الشم البهاليل ينتمى * إلى حسب في حومة المجد فاضل لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحب المواصل فمن مثله في الناس أي مؤمل * إذا قاسه الحكام عند التفاضل حليم رشيد عادل غير طائش * يوالى إلاها ليس عنه بغافل كريم المساعى ماجد وابن ماجد * له إرث مجد ثابت غير ناصل (1) وأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير زائل
فو الله لولا أن أجئ بسبة * تجر على أشياخنا في المحافل لكنا تبعناه على كل حالة * من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعنى بقول الا باطل فأصبح فينا أحمد في أرومة * تقصر عنها (2) سورة المتطاول حدبت بنفسى دونه وحميته * ودافعت عنه بالذرى والكلاكل قال ابن هشام: هذا ما صح لى من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.
قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهى أفحل من المعلقات السبع ! وأبلغ في تأدية المعنى منها جميعها (3).
وقد أوردها الاموى في مغازيه مطولة بزيادات أخر والله أعلم.
__________
(1) هذا البيت وما بعده ليسا في ابن هشام.
وناصل: زائل.
(2) ابن هشام: تقصر عنه.
(3) أصدر ابن كثير رحمه الله هذا الحكم، وفضل هذه القصيدة المفككة الاوصال على المعلقات السبع رغم ما فيها من ألفاظ متكلفة ومعانى ركيكة، وعذره أنه لم يكن ناقدا أو خبيرا في الشعر.
والقصيدة تخلو من طابع ذلك العصر في الالفاظ والمعاني والاساليب.
(*)

فصل قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه.
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم، يفتنونهم عن دينهم.
فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه
الله منهم.
فكان بلال مولى أبى بكر، لبعض بنى جمح مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح واسم أمه حمامة، وكان صادق الاسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.
فيقول، وهو في ذلك: أحد أحد.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك وهو يقول: أحد أحد.
فيقول: أحد أحد والله يا بلال ! ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حنانا (1).
قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفى بعد البعثة في فترة الوحى،
__________
(1) أي لاتخذن قبره منسكا ومسترحما.
(*)

وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول " يا أيها المدثر " فكيف يمر ورقة ببلال، وهو يعذب ؟ وفيه نظر.
ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبى بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود فأعتقه وأراحه من العذاب وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والاماء، منهم بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس (1) [ وزنيرة (2) ] التى أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها.
والنهدية وابنتها، اشتراهما من بنى عبد الدار، بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهى تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدا.
فقال أبو بكر: حل (3) يا أم فلان.
فقالت: حل، أنت أفسدتهما فأعتقهما.
قال: فبكم هما ؟ قالت: بكذا وكذا.
قال: قد أخذتهما
وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.
قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها.
قال: [ أو ] ذلك إن شئتما.
واشترى جارية بنى مؤمل، حى من بنى عدى، كان عمر يضربها على الاسلام.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الله بن أبى عتيق، عن عامر بن عبد الله ابن الزبير، عن بعض أهله.
قال: قال أبو قحافة لابنه أبى بكر: يا بنى إنى أراك تعتق ضعافا، فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك.
قال: فقال أبو بكر: يا أبت إنى إنما أريد ما أريد.
__________
(1) كذا بالاصل وابن هشام والروض الانف.
ولكن الزرقاني ضبطها بعين مهملة مضمومة فنون.
وقيل بموحدة فتحتية.
شرح المواهب 1 / 269.
(2) سقطت من الاصل وأثبتها من ابن هشام والمراجع.
(3) حل: تحللى من يمينك، وفى الاكتفاء: حل.
بالنصب وهو أفصح.
(*)

قال: فيحدث أنه ما أنزل هؤلاء الايات إلا فيه وفيما قال أبوه: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى " إلى آخر السورة.
وقد تقدم ما رواه الامام أحمد وابن ماجة من حديث عاصم بن بهدلة عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو
يقول: أحد أحد.
ورواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا.
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة.
فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول - فيما بلغني -: " صبرا آل ياسر موعدكم الجنة ".
وقد روى البيهقى عن الحاكم، عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السرى بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبى عبيد الله، عن أبى الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: " أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة " فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الاسلام.

وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال.
أول شهيد كان في أول الاسلام استشهد: أم عمار سمية، طعنها أبو جهل بحربة في قلبها.
وهذا مرسل.
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن (1) رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.
وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
لعنه الله وقبحه.
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله ابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟
قال: نعم والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضر الذى به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهآن من دون الله ؟ فيقول: نعم ! افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.
قلت: وفى مثل هذا أنزل الله تعالى " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم " (2).
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الاهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
__________
(1) لنفيلن: نخطئن، وفى ط: لنقيلن وهو تحريف.
(2) سورة النحل 106.
(*)

وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الاعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب بن الارت.
قال: كنت رجلا قينا، وكان لى على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.
فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.
قال فإنى إذا مت ثم بعثت جئتني ولى ثم مال وولد فأعطيك ! فأنزل الله تعالى " أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا " إلى قوله " ويأتينا فردا " (1).
أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الاعمش به.
وفى لفظ البخاري: " كنت قينا بمكة، فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه " فذكر الحديث.
وقال البخاري حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا بيان (2) وإسماعيل، قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبابا يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة (3) وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله ؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: " قد (4) كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، وما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق
رأسه فيشق باثنين (5) ما يصرفه ذلك عن يدنه، وليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عزوجل " زاد بيان (6) " والذئب على غنمه ".
وفى رواية " ولكنكم تستعجلون ".
انفرد به البخاري دون مسلم.
__________
(1) سورة مريم 77 - 80 (2) في ط، خ: بنان وهو تحريف، وما أثبته من البخاري 2 / 182 (3) البخاري: بردة.
(4) البخاري: لقد.
(5) البخاري: اثنتين.
(6) خ، ط: بنان وهو تحريف.
(*)

وقد روى من وجه آخر عن خباب وهو مختصر ؟ ن هذا والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وابن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب، قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء فما أشكانا.
يعنى في الصلاة.
وقال ابن جعفر: فلم يشكنا.
وقال أيضا: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبابا يقول: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمضاء فلم يشكنا.
قال شعبة: يعنى في الظهيرة.
ورواه مسلم والنسائي والبيهقي من حديث أبى إسحاق السبيعى، عن سعيد بن وهب، عن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء.
- زاد البيهقى: في وجوهنا وأكفنا - فلم يشكنا.
وفى رواية شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا.
ورواه ابن ماجه، عن على بن محمد الطنافسى، عن وكيع، عن الاعمش، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدى، عن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا.
والذى يقع لى، والله أعلم، أن هذا الحديث مختصر من الاول، وهو أنهم شكوا إليه صلى الله عليه وسلم ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم، وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن إسحاق وغيره، وسألوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم على المشركين، أو

يستنصر عليهم، فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة، وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم ولا يصرفهم ذلك عن دينهم، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الامر ويظهره ويعلنه، وينشره وينصره في الاقاليم والآفاق، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عزوجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.
ولهذا قال: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا فلم يشكنا " أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة.
فمن استدل بهذا الحديث على عدم الابراد، أو على وجوب مباشرة المصلى بالكف، كما هو أحد قولى الشافعي، ففيه نظر.
والله أعلم.
باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق، وإن أظهروا المخالفة عنادا وحسدا وبغيا وجحودا قال إسحاق بن راهويه: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختيانى، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لم ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله ! قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له.

قال: وماذا أقول ؟ فو الله ما منكم رجل أعرف بالاشعار منى، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده منى، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذى يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: قف عنى حتى أفكر فيه.
فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره.
فنزلت " ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدوا وبنين شهودا (1) " الآيات.
هكذا رواه البيهقى عن الحاكم، عن عبد الله بن محمد الصنعانى بمكة، عن إسحاق به.
وقد رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.
فيه أنه قرأ عليه " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون (2) ".
وقال البيهقى: عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق حدثنى محمد بن أبى محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم (3) فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر
صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا (4).
فقيل: يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقوم به (5).
__________
(1) سورة المدثر 11 - 13.
(2) سورة النحل 90.
(3) ط: المواسم.
محرفة.
(4) ابن هشام: ويرد قولكم بعضه بعضا.
(5) ابن هشام والمراجع: نقول.
(*)

فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع فقالوا: نقول كاهن.
فقال: ما هو بكاهن: رأيت الكهان، فما هو بزمزمة الكهان.
فقالوا: نقول مجنون.
فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقالوا: نقول شاعر.
فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول هو ساحر.
قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق (1)، وإن فرعه لجني (2)، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لان تقولوا: هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حين (3) قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره.
وأنزل الله في الوليد " ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا (4) " الآيات، وفى أولئك النفر الذين جعلوا القرآن عضين: " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون (5) ".
قلت: وفى ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم: " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه، بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الاولون (6) " فحاروا ماذا يقولون
__________
(1) خ ط: لمغدق، وما أثبته عن ابن هشام والعذق: النخلة (2) ابن هشام: لجناة وهو ما يجنى من الثمر (3) الاصل: حتى، وما أثبته عن ابن هشام.
(4) سورة المدثر 11 - 13 (5) سورة الحجر 92، 93 (6) سورة الانبياء 5 (*)

فيه، فكل شئ يقولونه باطل.
لان من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ.
قال الله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (1) ".
وقال الامام عبد بن حميد في مسنده: حدثنى أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا على ابن مسهر، عن الاجلح، هو ابن عبد الله الكندى، عن الذيال بن حرملة الاسدي، عن جابر بن عبد الله، قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذى فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه.
فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: أنت يا أبا الوليد.
فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التى عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة (2) قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل ! إن كان إنما
بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فرغت ؟ " قال: نعم.
فقال رسول الله
__________
(1) سورة الاسراء 48 (2) السخلة: تطلق على الذكر والانثى من أولاد الضأن.
(*)

صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم.
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " إلى أن بلغ " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ".
فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا ؟ قال: لا.
فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك ؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا: فهل أجابك ؟ فقال: نعم.
ثم قال: لا والذى نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك ! يكلمك الرجل بالعربية لا تدرى ما قال ؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وقد رواه البيهقى وغيره عن الحاكم، عن الاصم عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل،: عن الاجلح به.
وفيه كلام.
وزاد: وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت.
وعنده أنه لما قال: " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " أمسك عتبة (1) على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد وأعجبه طعامه،
وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.
__________
(1) ط: عقبة.
وهو تحريف.
(*)

فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا.
وقال: لقد علمتم أنى من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، وقص عليهم القصة، فأجابني بشئ والله ما هو بسخر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحم الرحيم " حتى بلغ " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
ثم قال البيهقى: عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يزيد بن أبى زياد مولى بنى هاشم، عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما، قال ذات يوم وهو جالس في نادى قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ويكف عنا.
قالوا: بلى يا أبا الوليد ! فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال والملك وغير ذلك.
وقال زياد بن إسحاق: فقال عتبة: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا.
وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون.
فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه وكلمه.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخى إنك منا حيث قد علمت من السطة (1) في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك
__________
(1) الاصل الشطر.
وهو تحريف وما أثبته من الاكتفا للكلاعي.
والسطة: الشرف.
(*)

بأمر عظيم فرقت جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا الوليد أسمع ".
قال: يا بن أخى إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الامر مالا جمعنا لك من أموالا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه.
أو كما قال له.
حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال: نعم.
قال: اسمع منى.
قال: أفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما سمع بها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليهما ليسمع منه.
حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها ثم قال: " سمعت يا أبا الوليد ؟ " قال: سمعت.
قال: " فأنت وذاك ".
ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير
الوجه الذى ذهب به.
فلما جلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أنى والله قد سمعت قولا

ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بى، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنت أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيى لكم، فاصنعوا ما بدا لكم.
ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني، أخبرنا أبو قتيبة سلمة ابن الفضل الادمى بمكة، حدثنا أبو أيوب احمد بن بشر الطيالسي، حدثنا داود بن عمرو الضبى، حدثنا المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر.
قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا الامر اليوم، واعصوني فيما بعده، فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناى كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
ثم روى البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق، حدثنى الزهري قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والاخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى بالليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له
حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رأكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا.
فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود.
فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الاخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها [ وأشياء لا أعرفها ولا أعرف ما يراد بها (1) ] فقال الاخنس: وأنا والذى حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: ماذا سمعت ؟ ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا (2) على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبى يأتيه الوحى من السماء ! فمتى ندرك هذه ! والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه.
فقام عنه الاخنس به شريق.
ثم قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، حدثنا أحمد، حدثنا يونس، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة.
قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى أمشى أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله
* (هامش * (1) من الاكتفا.
(2) الاكتفا: تحا ؟ ينا.
(*)

صلى الله عليه وسلم لابي جهل: " يا أبا الحكم، هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله ".
فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فو الله لو أنى أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل على فقال: والله إنى لاعلم أن ما يقول حق، ولكن [ يمنعنى ] شئ، إن بنى قصى.
قالوا: فينا الحجابة.
فقلنا: نعم.
ثم قالوا فينا السقاية فقلنا: نعم.
ثم قالوا فينا الندوة.
فقلنا: نعم.
ثم قالوا: فينا اللواء.
فقلنا: نعم.
ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبى ! والله لا أفعل.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاصم، حدثنا محمد بن خالد، حدثنا أحمد بن خلف، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق.
قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبى جهل وأبى سفيان، وهما جالسان، فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بنى عبد شمس.
قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبى ! فالنبى يكون فيمن أقل منا وأذل.
فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا ! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فأتاهما فقال: " أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للاصل.
وأما أنت يا أبا الحكم، فو الله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا " فقال: بئسما تعدني يا بن أخى من نبوتك.
هذا مرسل من هذا الوجه، وفيه غرابة.
وقول أبى جهل، لعنه الله، كما قال الله تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا، أهذا الذى بعث الله رسولا ؟ إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها، وسوف يعلمون حين يرون
العذاب من أضل سبيلا (1).
__________
(1) سورة الفرقان 41، 42.
(*)

وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " (1).
قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " ولا تجهر بصلاتك " أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن " ولا تخافت بها " عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك " وابتغ بين ذلك سبيلا ".
وهكذا رواه صاحبا الصحيح من حديث أبى بشر جعفر بن أبى حية به.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلى تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعض ما يتلو وهو يصلى، استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فأنزل الله تعالى " ولا تجهر بصلاتك " فيتفرقوا عنك " ولا تخافت بها " فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوى إلى بعض ما يسمع، فينتفع به " وابتغ بين ذلك سبيلا ".
إلى هنا ينتهى الجزء الاول من السيرة النبوية لابن كثير ويليه الجزء الثاني وأوله باب الهجرة إلى الحبشة
__________
(1) سورة الاسراء 110 (*)

السيرة النبوية - ابن كثير ج 2
السيرة النبوية
ابن كثير ج 2

السيرة النبوية للامام أبى الفداء إسماعيل بن كثير 701 - 774 ه تحقيق مصطفى عبد الواحد الجزء الثاني 1396 ه - 1976 م دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع هاتف 236769 - 246161 ص.
ب 5769 بيروت لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم من الفتنة قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والاهانة البالغة.
وكان الله عزوجل قد حجرهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم ومنعه بعمه أبى طالب.
كما تقدم تفصيله.
ولله الحمد والمنة.
وروى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب،
فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة.
وهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبى حثمة، وأبو سبرة بن أبى رهم، وحاطب (1) بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود.
رضى الله عنهم أجمعين.
قال ابن جرير: وقال آخرون: بل كانوا اثنين وثمانين رجلا، سوى نسائهم
__________
(1) في ابن هشام: ويقال بل أبو حاطب.
(*)

وأبنائهم، وعمار بن ياسر، نشك، فإن كان فيهم فقد كانوا ثلاثة وثمانين رجلا.
* * * وقال محمد بن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عزوجل ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم.
فكانت أول هجرة كانت في الاسلام.
فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكذا روى البيهقى من حديث يعقوب بن سفيان، عن عباس العنبري، عن بشر بن موسى، عن الحسن بن زياد البرجمى (1)، حدثتا قتادة، قال: أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضى الله عنه.
سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة، يعنى أنس بن مالك، يقول: خرج عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت:
__________
(1) نسبة إلى البراجم، قبيلة من تميم، وهو لقب لخمس بطون.
اللباب 1 - 7.
1.
(*)

يا محمد، قد رأيت ختنك (1) ومعه امرأته.
قال: على أي حال رأيتيهما ؟ قالت: رأيته قد حمل امرأته حمار من هذه الدبابة (2) وهو يسوقها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحبهما الله ! إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام.
قال ابن إسحاق: وأبو حذيفة بن عتبة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو، وولدت له بالحبشة محمد بن أبى حذيفة.
والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامراته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وولدت له بها زينب.
وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب، وهو من بنى عنز بن وائل، وامرأته ليلى بنت أبى حثمة، وأبو سبرة بن أبى رهم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، ويقال أبو حاطب بن عمر بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر، وهو أول من قدمها فيما قيل.
وسهيل بن بيضاء فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة، فيما بلغني قال ابن هشام: وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر بعض أهل العلم
قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبى طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس، وولدت له بها عبدالله بن جعفر.
وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة * * * وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الاولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل
__________
(1) الختن: الصهر.
(2) الدبابة: الضعيفة التى تدب في المشى.
(*)

أبو طالب ومن حالفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب.
وفى هذا نظر.
والله أعلم.
وزعم أن خروج جعفر بن أبى طالب إنما كان في الهجرة الثانية إليها، وذلك بعد عود بعض من كان خرج أولا، حين بلغهم أن المشركين أسلموا وصلوا، فلما قدموا مكة، وكان فيمن قدم عثمان بن مظعون، فلم يجدوا ما أخبروا به من إسلام المشركين صحيحا، فرجع من رجع منهم ومكث آخرون بمكة، وخرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة وهى الهجرة الثانية.
كما سيأتي بيانه.
قال موسى بن عقبة: وكان جعفر بن أبى طالب فيمن خرج ثانيا.
وما ذكره ابن إسحاق من خروجه في الرعيل الاول أظهر كما سيأتي بيانه.
والله أعلم.
لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولا، وهو المقدم عليهم والمترجم عنهم عند النجاشي وغيره.
وكما سنورده مبسوطا.
* * * ثم إن ابن إسحاق سرد الخارجين صحبة جعفر رضى الله عنهم.
وهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث
ابن شق الكنانى.
وأخوه خالد، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعى، وولدت له بها سعيدا وأمة التى تزوجها بعد ذلك الزبير فولدت له عمرا وخالدا.
قال: وعبد الله بن جحش بن رئاب، وأخوه عبيد الله، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان.

وقيس بن عبدالله من بنى أسد بن خزيمة وامرأته بركة بنت يسار مولاة أبى سفيان.
ومعيقيب بن أبى فاطمة، وهو من موالى سعيد بن العاص.
قال ابن هشام: وهو من دوس.
قال: وأبو موسى [ الاشعري ] عبدالله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة.
وسنتكلم معه في هذا.
وعتبة بن غزوان، ويزيد بن زمعة بن الاسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب بن أبى كثير (1) بن عبد، وسويبط بن سعد بن حريملة (2)، وجهم بن قيس العبدوى، ومعه امرأته أم حرملة بنت عبد الاسود بن خزيمة، وولداه عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة، وعامر بن أبى وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري.
وامرأته رملة بنت أبى عوف بن ضبيرة، وولدت بها عبدالله.
وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة، والمقداد بن الاسود، والحارث بن خالد بن صخر التيمى، وامرأته ريطة بنت الحارث بن جبيلة (3)، وولدت له بها موسى وعائشة وزينب وفاطمة.
وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وشماس بن عثمان بن الشريد المخزومى.
قال: وإنما سمى شماسا لحسنه، وأصل اسمه عثمان بن عثمان.
وهبار بن سفيان بن عبد الاسد المخزومى، وأخوه عبدالله، وهشام بن أبى حذيفة
__________
(1) وتروى: كبير.
(2) وتروى: حرملة.
(3) في الاستيعاب: ابن جبلة.
(*)

ابن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبى ربيعة بن المغيرة، ومعتب بن عوف بن عامر، ويقال له عيهامة، وهو من حلفاء بنى مخزوم.
قال: وقدامة وعبد الله أخوا عثمان بن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر، ومعه امرأته فاطمة بنت المجلل، وابناه منها محمد والحارث، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهة بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب، وامرأته حسنة وابناه منها جابر وجنادة، وابنها من غيره، وهو شرحبيل بن عبدالله، أحد الغوث بن مزاحم بن تميم، وهو الذى يقال له شرحبيل بن حسنة.
وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدى، وعبد الله بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم، وهشام بن العاص بن وائل بن سعيد، وقيس بن حذافة بن قيس بن عدى، وأخوه عبد الله.
وأبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدى، وإخوته: الحارث ومعمر والسائب وبشر وسعيد، أبناء الحارث، و [ أخو ] سعيد بن قيس بن عدى لامه، وهو سعيد بن عمرو التميمي.
وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم بن سعيد بن سهم، وحليف لبنى سهم وهو
محمية بن جزء (1)، الزبيدى ومعمر بن عبدالله العدوى، وعروة بن عبدالعزى، وعدى بن نضلة بن عبدالعزى، وابنه النعمان، وعبد الله بن مخرمة العامري، وعبد الله بن سهيل ابن عمرو، وسليط بن عمرو، وأخوه السكران، ومعه زوجته سودة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة، وامرأته عمرة بنت السعدى، وأبو حاطب (2) بن عمرو العامري وحليفهم سعد بن خولة، وهو من اليمن.
__________
(1) ويروى كما في ابن هشام والاستيعاب: ابن جزاء.
(2) ويروى كما في الاستيعاب: حاطب بن عمرو.
(*)

وأبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهرى، وسهيل بن بيضاء، وهى أمه، واسمها دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر، وهو سهيل بن وهب ابن ربيعة بن هلال [ بن أهيب ] (1) بن ضبة، وعمرو بن أبى سرح بن ربيعة بن هلال [ بن أهيب ] (1) بن مالك بن ضبة بن الحارث، وعياض بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة، وعثمان بن عبد غنم بن زهير أخوان، وسعيد بن عبد قيس بن لقيط، وأخوه الحارث، الفهريون.
* * * قال ابن إسحق: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها،: ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار ابن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.
* * * قلت: وذكر ابن إسحق أبا موسى الاشعري فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة غريب جدا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت حديجا (2) أخا زهير بن
معاوية، عن أبى إسحق، عن عبدالله بن عتبة، عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو (3) من ثمانين رجلا، فيهم عبدالله بن مسعود وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون وأبو موسى، فأتوا النجاشي.
__________
(1) الزيادة من ابن هشام.
(2) الاصل خديج بالخاء.
وهو تحريف وما أثبته عن المسند.
(3) ط: نحوا.
وما أثبته عن المسند.
(*)

وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية.
فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إن نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا عن ملتنا.
قال: فأين هم ؟ قالا: في أرضك فابعث إليهم.
فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم.
فاتبعوه.
فسلم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك ؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله عزوجل.
قال: وما ذاك ؟ قال: إن الله بعث إلينا رسولا، ثم أمرنا ألا نسجد لاحد إلا لله عزوجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.
قال: فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه.
قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التى لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد (1).
قال: فرفع عودا من الارض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله
ما يزيدون على الذى نقول (2) فيه ما سوى (3) هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله وأنه الذى نجد في الانجيل، وأنه الرسول الذى بشر به عيسى بن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لو لا ما أنا فيه من الملك لاتيته حتى أكون أنا الذى أحمل نعليه (4) !
__________
(1) رواية النهاية لابن الاثير: ولم يفترضها ولد.
قال: أي لم يؤثر فيها ولم يحزها، يعنى قبل المسيح.
ورواية ابن الجوزى في الوفا: ولم يقرعها ذكر.
(2) مسند أحمد: يقول.
(3) المسند: ما يسوى.
(4) زاد في المسند: وأوضئه.
(*)

وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما.
ثم تعجل عبدالله بن مسعود حتى أدرك بدرا.
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته.
وهذا إسناد جيد قوى وسياق حسن، وفيه ما يقتضى أن أبا موسى كان فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة، إن لم يكن مدرجا من بعض الرواة.
والله أعلم.
* * * وقد روى عن أبى إسحق السبيعى من وجه آخر.
فقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابى، حدثنا عبدالله بن رجاء، حدثنا إسرائيل.
وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا الحسن بن علوية القطان، حدثنا عباد بن موسى الختلى، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا إسرائيل.
وحدثنا أبو أحمد، حدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه، حدثنا إسحق بن إبراهيم، هو ابن راهوبه، حدثنا عبيد الله (1) بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن إبى إسحق،
عن أبى بردة، عن أبى موسى، قال: أمرنا رسول الله صلى عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبى طالب إلى أرض النجاشي (2).
فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية.
وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية، فقبلها، وسجدا له.
__________
(1) دلائل النبوة 205: عبدالله.
(2) الدلائل أرض الحبشة.
(*)

ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك.
قال لهم النجاشي: في أرضى ؟ ! قالا: نعم.
فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم.
فانتهينا (1) إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعماره: إنهم لا يسجدون لك.
فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للمك.
فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عزوجل.
فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد ؟ قال: لا نسجد إلا لله.
فقال له النجاشي: وما ذاك ؟ قال: إن الله بعث فينا رسولا، وهو الرسول الذى بشر به عيسى بن مريم عليه
الصلاة والسلام من بعده، اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة ونؤتى الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي قوله.
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.
فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم.
__________
(1) الدلائل: فانتهيت.
(*)

قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التى لم يقربها بشر ولم يفرضها ولد.
فتناول النجاشي عودا من الارض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه.
مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذى بشر به عيسى، ولو لا ما أنا فيه من الملك لاتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضى ما شئتم.
وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهما.
وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا، وكان عمارة رجلا جميلا، وكانا أقبلا في البحر فشربا، ومع عمرو امرأته، فلما شربا قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلنى.
فقال له، عمرو: ألا تستحى ! فأخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة.
فحقد عليه عمرو في ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك.
فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله، فطار مع الوحش (1).
وهكذا رواه الحافظ البيهقى في الدلائل عن طريق أبى على الحسن بن سلام السواق،
عن عبيد الله بن موسى، فذكر بإسناده مثله، إلى قوله: " فأمر لنا بطعام وكسوة ".
قال: وهذا إسناد صحيح، وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة، وأنه خرج مع جعفر بن أبى طالب إلى أرض الحبشة.
والصحيح عن يزيد بن عبدالله بن أبى بردة، عن جده أبى بردة، عن أبى موسى: أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن، فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين
__________
(1) الذى في دلائل النبوة لابي نعيم 196 - 207 عدة روايات عن الهجرة إلى الحبشة وليس فيه رواية واحدة كاملة بهذا السياق الذى ذكره ابن كثير، ولعله أدمج بعضها في بعض.
(*)

رجلا في سفينة، فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبى طالب وأصحابه عندهم، فأمره جعفر بالاقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر.
قال: وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي فأخبر عنه.
قال: ولعل الراوى وهم في قوله: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق ".
والله أعلم.
* * * وهكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، حدثنا بريد (1) بن عبدالله، عن أبى بردة، عن أبى موسى، قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة، فألقتنا سفننا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا، فوافينا (2) النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لكم أنتم أهل السفينة هجرتان ".
وهكذا رواه مسلم عن أبى كريب وأبى عامر عبدالله بن براد (3)، كلاهما عن أبى أسامة به.
وروياه في مواضع أخر مطولا.
والله أعلم.
* * * وأما قصة جعفر مع النجاشي فإن الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن أبى طالب من تاريخه، من رواية نفسه ومن رواية عمرو بن العاص، وعلى يديهما جرى الحديث، ومن رواية ابن مسعود، كما تقدم، وأم سلمة كما سيأتي.
__________
(1) خ ط: يزيد.
وهو تحريف وما أثبته من البخاري 2 / 186.
(2) ابن يوسف بن أبى بردة بن أبى موسى.
(3) البخاري: فوافقنا.
(*)

فأما رواية جعفر فإنها عزيزة جدا، رواها ابن عساكر، عن أبى القاسم السمرقندى، عن أبى الحسين بن النقور، عن أبى طاهر المخلص، عن أبى القاسم بن البغوي، قال: حدثنا أبو عبدالرحمن الجعفي، عن عبدالله بن عمر بن أبان، حدثنا أسد بن عمرو البجلى، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبى عن عبدالله بن جعفر، عن أبيه قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية من أبى سفيان إلى النجاشي، فقالوا له، ونحن عنده: قد صار إليك ناس من سفلتنا وسفهائنا، فادفعهم إلينا.
قال: لا حتى أسمع كلامهم.
قال: فبعث إلينا فقال: ما يقول هؤلاء ؟ قال: قلنا هؤلاء قوم يعبدون الاوثان، وإن الله بعث إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه.
فقال لهم النجاشي: أعبيد هم لكم ؟ قالوا: لا.
فقال: فلكم عليهم دين ؟.
قالوا: لا.
قال فخلوا سبيلهم.
قال: فخرجنا من عنده، فقال عمرو بن العاص: إن هؤلاء يقولون في عيسى
غير ما تقول.
قال: إن لم يقولوا في عيسى مثل قولى لم أدعهم في أرضى ساعة من نهار.
فأرسل إلينا، فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الاولى.
قال: ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم ؟ قلنا: يقول: هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول.
قال: فأرسل فقال: ادعوا لى فلان القس وفلان الراهب، فأتاه ناس منهم، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم ؟

فقالوا: أنت أعلمنا، فما تقول ؟ قال النجاشي، وأخذ شيئا من الارض، قال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا.
ثم قال: أيؤذيكم أحد ؟ قالوا: نعم.
فنادى مناد: من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم.
ثم قال: أيكفيكم ؟ قلنا: لا فأضعفها.
قال: فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر وهاجر إلى المدينة وقتل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل إليه، فردنا.
قال: نعم.
فحملنا وزودنا، ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا صاحبي معكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له يستغفر لى.
قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنقني، ثم قال: ما أدرى أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر ! ووافق ذلك فتح خيبر.
ثم جلس.
فقال رسول النجاشي: هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا.
فقال: نعم، فعل بنا كذا وكذا، وحملنا وزودنا، وشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقال لى: قل له يستغفر لى.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم دعا ثلاث مرات: اللهم اغفر للنجاشي فقال المسلمون: آمين.
ثم قال جعفر: فقلت للرسول: انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال ابن عساكر: حسن غريب.
* * * وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحق، حدثنى الزهري، عن أبى بكر بن عبدالرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضى الله عنها، أنها قالت: لما ضاقت مكة وأوذى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شئ مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه ".
فخرجنا إليها أرسالا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيأوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.
فقدما عليه، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم.
(2 - السيرة - 2)

فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فإشيروا عليه بأن يفعل.
فقالوا: نفعل.
ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدون إليه من مكة الادم (1)، وذكر موسى بن عقبة أنهم أهدوا إليه فرسا وجبة ديباج.
فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك، إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلى بهم عينا، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.
فغضب ثم قال: لا لعمر الله ! لا أردهم حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيرى، فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعم عينا.
وذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم، فقال: لا والله حتى أسمع كلامهم وأعلم على أي شئ هم عليه.
فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له، فقال: أيها الرهط ألا تحدثوني ما لكم
لا تحيوني كما يحيينى من أتانا من قومكم ؟ ! فأخبروني ماذا تقولون في عيسى، وما دينكم ؟ أنصارى أنتم ؟ قالوا: لا.
قال: أفيهود أنتم ؟
__________
(1) الادم: الجلد، أو المصبوغ منه.
(*)

قالوا: لا.
قال: فعلى دين قومكم ؟ قالوا: لا.
قال: فما دينكم ؟ قالوا: الاسلام.
قال: وما الاسلام ؟ قالوا: نعبد الله، لا نشرك به شيئا.
قال: من جاءكم بهذا ؟ قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفا وأداء الامانة، ونهانا أن نعبد الاوثان، وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له فصدقناه وعرفنا كلام الله، وعلمنا أن الذى جاء به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبي الصادق، وكذبوه وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الاوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.
قال: والله إن هذا لمن المشكاة التى خرج منها أمر موسى.
قال جعفر: وأما التحية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة
السلام، وأمرنا بذلك فحييناك بالذى يحيى بعضنا بعضا.
وأما عيسى بن مريم، فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وابن العذراء البتول.
فأخذ عودا وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود.
فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.

فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس في حين رد على ملكى فأطيع (1) الناس في دين الله، معاذ الله من ذلك.
وقال يونس عن ابن إسحاق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شئ أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة من أن يسمع كلامهم.
فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون ؟ فقالوا: وماذا نقول ! نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن من ذلك ما كان.
فلما دخلوا عليه كان الذى يكلمه منهم جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه.
فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذى أنتم عليه ؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلو في يهودية ولا نصرانية.
فقال له جعفر: أيها الملك، كنا قوما على الشرك، نعبد الاوثان ونأكل الميتة ونسئ الجوار، يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الارحام ونحمى الجوار، ونصلي لله عزوجل ونصوم له ولا نعبد غيره.
وقال زياد (2) عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد
نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة، وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور
__________
(1) المطبوعة: فاطع.
وهو تحريف.
(2) هو زياد البكائى راوي السيرة عن إبن اسحق، وروايته مقابلة لرواية يونس بن بكير.
(*)

وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، أمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قال: فعدد (1) عليه أمور الاسلام.
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الاوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
قالت: فقال النجاشي: هل معك شئ مما جاء به ؟ فقرأ عليه صدرا من " كهيعص " فبكى والله النجاشي حتى أخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم.
ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التى جاء بها موسى، انطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينا.
فخرجنا من عنده، وكان أبقى الرجلين فينا عبدالله بن ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم، ولاخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذى يعبد عيسى بن مريم، عبد !
فقال له عبدالله بن ربيعة: لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحما ولهم حقا.
__________
(1) الاصل: فعدوا.
محرفة، وما أثبته عن ابن هشام.
(2) هو زياد البكائى راوي السيرة عن ابن إسحاق، وروايته مقابلة لرواية يونس بن بكير.
(*)

فقال: والله لافعلن.
فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عنه.
فبعث والله إليهم، ولم ينزل بنا مثلها.
فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه ؟ فقالوا: نقول والله الذى قاله الله فيه، والذى أمرنا نبينا أن نقوله فيه.
فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر: نقول هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فدلى النجاشي يده إلى الارض فأخذ عودا بين إصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد.
فتناخرت بطارقته (1)، فقال: وإن تناخرتم والله ! اذهبوا فأنتم شيوم في الارض.
الشيوم: الآمنون في الارض.
من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ثلاثا.
ما أحب أن لى دبرا وأنى آذيت رجلا منكم، والدبر بلسانهم: الذهب.
وقال زياد عن ابن إسحاق: ما أحب أن لى دبرا من ذهب.
قال ابن هشام: ويقال زبرا.
وهو الجبل بلغتهم.
ثم قال النجاشي: فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى، ولا أطاع
الناس في فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لى بها، واخرجا من بلادي.
__________
(1) ط: بطراقته وهو تحريف.
(*)

فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.
* * * قالت: فأقمنا مع خير جار في خير دار.
فلم ينشب (1) أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه.
فو الله ما علمتنا حزنا حزنا قط هو أشد منه، فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتى ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه.
فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائرا.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقيعة حتى ينظر على من تكون.
فقال الزبير، وكان من أحدثهم سنا: أنا.
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة.
فهزم الله ذلك الملك وقتله وظهر النجاشي عليه.
فجاءنا الزبير، فجعل يليح لنا بردائه ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشي.
قالت (2): فو الله ما علمتنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي.
ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة وأقام من أقام.
* * *
__________
(1) ط: نشب.
محرفة.
(2) ط: قلت: محرفة.
(*)

قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة، فقال عروة: أتدرى ما قوله: ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ؟ فقلت: لا، ما حدثنى ذلك أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة.
فقال عروة: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا، ولم يكن لابي النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه، فإن له اثنى عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك، لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف.
فعدوا عليه فقتلوه وملكوا أخاه.
فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه، فلا يدير أمره غيره، وكان لبيبا حازما من الرجال.
فلما رأت الحبشة مكانه من عمه، قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه، فما نأمن أن يملكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله، فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا.
فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه، وإنا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا، فإما أن تقتله، وإما أن تخرجه من بلادنا.
قال: ويحكم ! قتلتم أباه بالامس وأقتله اليوم ! بل أخرجه من بلادكم.
فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من تاجر من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به.

فلما كان العشى هاجت سحابة من سحائب الخريف، فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتله.
ففزعوا إلى ولده، فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير.
فمرج (1) على الحبشة أمرهم.
فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله إن ملككم الذى لا يصلح أمركم غيره للذى بعتم الغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب.
فخرجوا في طلبه، فأدركوه فردوه، فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه.
فقال التاجر: ردوا على مالى كما أخذتم منى غلامي.
فقالوا: لا نعطيك.
فقال: إذا والله لاكلمنه.
فمشى إليه فكلمه فقال: أيها الملك، إنى ابتعت غلاما فقبض منى الذين باعوه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدى ولم يردوا على مالى.
فكان أول ما خبر من صلابة حكمه وعدله أن قال: لتردن عليه ماله أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء.
فقالوا: بل نعطيه ماله.
فأعطوه إياه.
فلذلك يقول: ما أخذ الله منى الرشوة فآخذ الرشوة حين رد على ملكى، وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه.
* * * وقال موسى بن عقبة: كان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشى غلام صغير، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك.
__________
(1) مرج: اضطرب واختلط.
(*)

فرغب أخوه في الملك، فباع النجاشي من بعض التجار.
فمات عمه من ليلته وقضى، فردت الحبشة النجاشي حتى وضعوا التاج على رأسه.
هكذا ذكره مختصرا، وسياق ابن إسحق أحسن وأبسط فالله أعلم.
* * * والذى وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة.
والذى ذكره موسى بن عقبة والاموى وغير واحد أنهما عمرو بن العاص وعمارة ابن الوليد بن المغيرة.
وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة.
وهكذا (1) تقدم في حديث ابن مسعود وأبى موسى الاشعري.
والمقصود أنهما حين خرجا من مكة، كانت زوجة عمرو معه، وعمارة كان شابا حسنا، فاصطحبا في السفينة، وكأن عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص، فألقى عمرا في البحر ليهلكه، فسبح حتى رجع إليها، فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك.
فحقد عمرو عليه.
فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي، فوشى به عمرو، فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش.
وقد ذكر الاموى قصته مطولة جدا، وأنه عاش إلى زمن إمارة عمر بن الخطاب، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه، فجعل يقول: أرسلني أرسلني وإلا مت.
فلما لم يرسله مات من ساعته فالله أعلم.
__________
(1) أي كونهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد.
(*)

وقد قيل: إن قريشا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين: الاولى مع عمرو ابن العاص وعمارة، والثانية مع عمرو وعبد الله بن أبى ربيعة.
نص عليه أبو نعيم في الدلائل.
والله أعلم.
وقد قيل إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر.
قاله الزهري.
لينالوا ممن هناك ثارا، فلم يجبهم النجاشي رضى الله عنه وأرضاه إلى شئ، مما سألوا.
فالله أعلم.
* * * وقد ذكر زياد عن ابن إسحق أن أبا طالب لما رأى ذلك من صنيع قريش، كتب إلى النجاشي أبياتا يحضه فيها على العدل وعلى الاحسان إلى من نزل عنده من قومه: ألا ليت شعرى كيف في النأى جعفر * وعمرو وأعداء العدو الاقارب وما نالت (1) افعال النجاشي جعفرا * وأصحابه، أو عاق ذلك شاغب تعلم أبيت اللعن أنك ماجد * كريم فلا يشقى إليك (2) المجانب ونعلم أن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب (3) * * * وقال يونس عن ابن إسحق: حدثنى يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضى الله عنه، والمشهور أن جعفرا هو المترجم رضى الله عنه.
وقال زياد البكائى عن ابن إسحق: حدثنى يزيد بن رومان عن عروة، عن عائشة رضى الله عنها، قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
__________
(1) وتروى: وهل نالت.
(2) وتروى: لديك.
(3) لازب: لاصق ملازم.
(*)

ورواه أبو داود عن محمد بن عمرو الرازي، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق به: لما مات النجاشي رضى الله عنه كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
* * * وقال زياد عن محمد بن إسحق: حدثنى جعفر بن محمد، عن أبيه قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا.
وخرجوا عليه.
فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم.
ثم جعله في قبائه عند المنكب الايمن.
وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا: بلى.
قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم ؟ قالوا: خير سيرة.
قال: فما بكم ؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبده ورسوله.
قال: فما تقولون أنتم في عيسى ؟ قالوا: نقول هو ابن الله.
فقال النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه: وهو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا.
وإنما يعنى ما كتب.
فرضوا وانصرفوا.

فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.
* * * وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
وقال البخاري: " موت النجاشي " حدثنا أبو الربيع، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة ".
وروى ذلك من حديث أنس بن مالك وابن مسعود وغير واحد.
وفى بعض الروايات تسميته أصحمة، وفى رواية مصحمة، وهو أصحمة بن بحر (1).
وكان عبدا صالحا لبيبا ذكيا، وكان عادلا عالما رضى الله عنه وأرضاه.
وقال يونس عن ابن إسحق: اسم النجاشي مصحمة.
وفى نسخة صححها البيهقى: أصحم.
وهو بالعربية عطية.
قال: وإنما النجاشي اسم الملك، كقولك كسرى، هرقل.
قلت: كذا، ولعله يريد به قيصر، فإنه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم، وكسرى علم على من ملك الفرس، وفرعون علم لمن ملك مصر كافة، والمقوقس لمن ملك الاسكندرية، وتبع لم ملك اليمن والشحر، والنجاشى لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك اليونان، وقيل الهند، وخاقان لمن ملك الترك.
__________
(1) الاصل: أصحمة بن أبجر.
وما أثبته من القاموس.
(*)

وقال بعض العلماء: إنما صلى عليه لانه كان يكتم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يصلى عليه، فلهذا صلى عليه.
قالوا: فالغائب إن كان قد صلى عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى، ولهذا لم يصل [ على ] النبي صلى الله عليه وسلم في غير المدينة، لا أهل مكة ولا غيرهم، وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة، لم ينقل أنه صلى على أحد منهم في غير البلدة التى صلى عليه فيها.
فالله أعلم.
* * * قلت: وشهود أبى هريرة رضى الله عنه الصلاة على النجاشي دليل على أنه إنما مات بعد فتح خيبر [ في السنة ] التى قدم [ فيها ] بقية المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه يوم فتح خيبر.
ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله ما أدرى بأيهما أنا أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبى طالب ! وقدموا معهم بهدايا وتحف من عند النجاشي رضى الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبتهم أهل السفينة اليمنية أصحاب أبى موسى الاشعري، وقومه من الاشعريين رضى الله عنهم.
ومع جعفر وهدايا النجاشي: ابن أخى النجاشي ذو نختر أو ذو مخمر، أرسله ليخدم النبي صلى عليه وسلم عوضا عن عمه، رضى الله عنهما وأرضاهما.
وقال السهيلي: توفى النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة، وفى هذا نظر.
والله أعلم.
* * *

وقال البيهقى: أنبأنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسى، حدثنا
أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا هلال بن العلاء الرقى، حدثنا أبى العلاء بن مدرك، حدثنا أبو هلال بن العلاء، عن أبيه، عن غالب، عن أبى أمامة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.
فقال: " إنهم كانوا لاصحابي مكرمين، وإنى أحب أن أكافئهم ".
ثم قال: وأخبرنا أبو محمد عبدالله بن يوسف الاصبهاني، أنبأنا أبو سعيد بن الاعرابي، حدثنا هلال بن العلاء، حدثنا أبى، حدثنا طلحة بن يزيد، عن الاوزاعي، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى قتادة، قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.
فقال: " إنهم كانوا لاصحابنا مكرمين، وإنى أحب أن أكافئهم ".
تفرد به طلحة بن زيد، عن الاوزاعي.
وقال البيهقى: حدثنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحق، حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، قال: لما قدم عمرو ابن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم، فقالوا: ما شأنه ما له لا يخرج ؟ فقال عمرو: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبى.

[ إسلام عمر بن الخطاب ] قال ابن إسحق: ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم، وردهم النجاشي بما يكرهون وأسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة، حتى غاظوا (1) قريشا.
فكان عبدالله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.
قلت: وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: " ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب ".
وقال زياد البكائى: حدثنى مسعر بن كدام، عن سعد بن إبراهيم قال: قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.
* * * قال ابن إسحق: وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.
حدثنى عبدالرحمن بن الحارث بن عبدالله بن عياش بن أبى ربيعة، عن عبد العزيز ابن عبدالله بن عامر بن ربيعة، عن أمه أم عبدالله بنت أبى حثمة قالت: والله إنا
__________
(1) ابن هشام: حتى عازوا قريشا.
أي غلبوهم.
(*)

لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف وهو على شركه، فقالت: وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة غلينا.
قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبدالله ؟ ! قلت: نعم، والله لنخرجن في أرض من أرض الله، إذ آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجا.
قالت: فقال: صحبكم الله !
ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا.
قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبدالله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا ! قال: أطمعت في إسلامه ؟ قالت: قلت: نعم.
قال: لا يسلم الذى رأيت حتى يسلم حمار الخطاب ! قالت: يأسا منه، لما كان يرى من غلظته وقسوته على الاسلام.
* * * قلت: هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الاربعين من المسلمين.
فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين.
اللهم إلا أن يقال: إنه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين.
ويؤيد هذا ما ذكره ابن إسحاق ههنا في قصة إسلام عمر وحده رضى الله عنه، وسياقها، فإنه قال: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل، كانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد بن زيد، وهم مستخفون بإسلامهم من عمر.
(3 - السيرة - 2)

وكان نعيم بن عبدالله النحام، رجل من بنى عدى، قد أسلم أيضا مستخفيا بإسلامه من قومه.
وكان خباب بن الارت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا (1) له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين، من بين
رجال ونساء، ومع رسول الله صلى عليه وسلم عمه حمزة وأبو بكر بن أبى قحافة الصديق وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهم، في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.
فلقيه نعيم بن عبدالله فقال: أين تريد يا عمر ؟ قال: أريد محمدا، هذا الصابئ الذى فرق أمر قريش، وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله.
فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر ! أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الارض وقد قتلت محمدا ؟ ! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ قال: وأى أهل بيتى ؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما وتابعا محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه، فعليك بهما.
فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة، وعندها خباب بن الارت معه صحيفة فيها " طه " يقرئها إياها.
فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة
__________
(1) الاصل: فذكروا.
والتصويب من ابن هشام.
(*)

بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها.
فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التى سمعت ؟ قالا له: ما سمعت شيثا.
قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.
وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها.
فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع وارعوى، وقال لاخته: أعطيني هذه الصحيفة التى كنتم تقرأون آنفا، أنظر ما هذا الذى جاء به محمد.
وكان عمر كاتبا.
فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.
قال: لا تخافى.
وحلف بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها.
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت: يا أخى إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسه إلا المطهرون.
فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها " طه ".
فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه !.
فلما سمع ذلك خباب بن الارت خرج إليه فقال له: والله يا عمر إنى لارجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنى سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الاسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب.
فالله الله يا عمر.
فقال عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.
فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه.

فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلل الباب فإذا هو بعمر متوشح بالسيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف.
فقال حمزة فأذن له: فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.
فقال رسول صلى الله عليه وسلم: إيذن له.
فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة،
فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة، فقال: ما جاء بك يا بن الخطاب ؟ فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة.
فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لاومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله.
قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة، فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم.
فتفرق أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوهم.
قال ابن إسحق: فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر حين أسلم رضى الله عنه.
* * * قال ابن إسحق: وحدثني عبدالله بن أبى نجيح المكى، عن أصحابه عطاء ومجاهد وعمن روى ذلك، أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول:

كنت للاسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة (1) فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك، فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أنى جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها.
فخرجت فجئته فلم أجده.
قال: فقلت: لو أنى جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين.
قال: فجئت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين
الاسود واليماني.
قال: فقلت حين رأيته: والله لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول.
فقلت: لئن دنوت منه لاستمع منه لاروعنه، فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله ما بينى وبينه إلا ثياب الكعبة.
قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبى وبكيت ودخلني الاسلام.
فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبى حسين، وكان مسكنه في الدار الرقطاء التى كانت بيد معاوية.
قال عمر: فتبعته، حتى إذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته، فلما سمع
__________
(1) الحزورة: كانت سوق مكة، ثم دخلت المسجد لما زيد فيه.
(*)

حسى عرفني، فظن أنى إنما اتبعته لاوذيه، فنهمنى (1) ثم قال: ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة ؟ قال: قلت: جئت لاومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
قال: فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " قد هداك الله يا عمر " ثم مسح صدري ودعا لى بالثبات.
ثم انصرفت ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته.
قال ابن إسحق: فالله أعلم أي ذلك كان.
قلت: وقد استقصيت كيفية إسلام عمر رضى الله عنه وما ورد في ذلك من الاحاديث والآثار مطولا في أول سيرته التى أفردتها على حدة.
ولله الحمد والمنة.
* * *
قال ابن إسحق: وحدثني نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحى.
فغدا عليه.
قال عبدالله: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت.
حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر واتبعته أنا، حتى [ إذا ] قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش.
وهم في أنديتهم حول الكعبة.
ألا إن ابن الخطاب قد صبأ.
__________
(1) نهمنى: زجرني.
(*)

قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه، حتى قامت الشمس على رؤوسهم.
قال: وطلح (1) فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى، حتى وقف عليهم.
فقال: ما شأنكم ؟ فقالوا: صبأ عمر.
قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بنى عدى يسلمون لكم
صاحبكم هكذا ؟ ! خلوا عن الرجل.
قال: فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه.
قال: فقلت لابي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذى زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك.
قال: ذاك أي بنى العاص بن وائل السهمى.
وهذا إسناد جيد قوى، وهو يدل على تأخر إسلام عمر، لان ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين.
وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين.
والله أعلم.
* * *
__________
(1) طلح: تعب وأعيى.
(*)

وقال البيهقى: حدثنا الحاكم، أخبرنا الاصم، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحق قال: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا وهو بمكة، أو قريب من ذلك، من النصارى حين ظهر خبره من أرض الحبشة، فوجدوه في المجلس، فكلموه وسألوه، ورجال قريش في أنديتهم حول الكعبة.
فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عزوجل وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال: خيبكم الله من
ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم ! أو كما قال.
قالوا لهم: لا نجاهلكم، سلام عليكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا نألون أنفسنا خيرا.
فيقال: إن النفر من نصارى نجران، والله أعلم أي ذلك كان.
ويقال، والله أعلم، أن فيهم نزلت هذه الآيات: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون.
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين (1) ".
__________
(1) سورة القصص 52 - 55 (*)

فصل قال البيهقى في الدلائل: باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي: ثم روى عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحق، قال: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي الاصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإنى أنا رسوله، فأسلم تسلم: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا تتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (1) ".
فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك " هكذا ذكره البيهقى بعد قصة هجرة الحبشة، وفى ذكره ها هنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذى كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه.
وذلك حين كتب إلى ملوك الارض يدعوهم إلى الله عزوجل قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي.
قال الزهري: كانت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم واحدة، يعنى نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية، وهى من سورة آل عمران، وهى مدنية بلا خلاف، فإنها من صدر السورة.
__________
(1) سورة آل عمران 64.
(*)

وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران، كما قررنا ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.
فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الاول.
وقوله فيه: " إلى النجاشي الاصحم " لعل " الاصحم " مقحم من الراوى بحسب ما فهم.
والله أعلم.
* * * وأنسب من هذا ها هنا ما ذكره البيهقى أيضا، عن الحاكم، عن أبى الحسن محمد بن عبدالله الفقيه، بمرو، حدثنا حماد بن أحمد، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحق، قال: بعث رسول الله صلى عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشي في شأن
جعفر بن أبى طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الاصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بى وبالذي جاءني، فإنى رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمى جعفرا ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءوك فاقرهم، ودع التجبر فإنى أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى ".
فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى

محمد رسول الله من النجاشي الاصحم بن أبجر (1)، سلام عليك يا نبى الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذى هداني إلى الاسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والارض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبى الله بأريحا بن الاصحم بن أبجر، فإنى لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإنى أشهد أن ما تقول حق.
فصل في ذكر مخالفة قبائل قريش بنى هاشم وبنى عبدالمطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصرهم إياهم في شعب أبى طالب مدة طويلة، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة،
وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق.
قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ المسلمون (2) الجهد واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية.
فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بنى عبدالمطلب، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله.
فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا.
__________
(1) الذى في القاموس: ابن بحر.
(2) ط: المسلمين.
(*)

فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق: لا يقبلوا من بنى هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الاسواق، فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه.
يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد به مكرا أو اغتيالا له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بنى عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه.
* * * فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بنى عبد مناف ومن قصى، ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بنى هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق.
واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه.
وبعث الله على صحيفتهم الارضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق.
ويقال: كانت معلقة في سقف البيت، فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته، وبقى ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم.
وأطلع الله عزوجل رسوله على الذى صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله

عليه وسلم لابي طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني.
فانطلق يمشى بعصابته من بنى عبدالمطلب، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التى تعاهدتم عليها، فعله أن يكون بيننا وبينكم صلح.
وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها.
فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم، فوضعوها بينهم، وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم.
فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لاعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخى أخبرني، ولم يكذبنى، أن الله برئ من هذه الصحيفة التى في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم.
فإن كان الحديث الذى قال ابن أخى كما قال فأفيقوا، فو الله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا.
وإن كان الذى قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم.
قالوا: قد رضينا بالذى تقول.
ففتحوا الصحيفة، فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها.
فلما رأتها قريش كالذى قال أبو طالب قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم.

فارتكسوا وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه.
فقال أولئك النفر من بنى عبدالمطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا، فكيف ترون، فإنا نعلم أن الذى اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولو لا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهى في أيديكم، طمس ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغى تركه، أفنحن السحرة أم أنتم.
* * * فقال عند ذلك النفر من بنى عبد مناف وبنى قصى ورجال من قريش ولدتهم نساء من بنى هاشم، منهم أبوالبخترى، والمطعم بن عدى، وزهير بن أبى أمية بن المغيرة، وزمعة ابن الاسود وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وهو من بنى عامر بن لؤى، في رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن براء مما في هذه الصحيفة.
فقال أبو جهل لعنه الله: هذا أمر قضى بليل.
وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرأوا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي.
* * * قال البيهقى: وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ، يعنى من طريق ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، يعنى كسياق موسى بن عقبة رحمه الله.
وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال: إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب، عن أمر رسول الله صلى الله عيله وسلم لهم في ذلك.
فالله أعلم.
قلت: والاشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التى قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضا، فذكرها ههنا أنسب.
والله أعلم.

ثم روى البيهقى من طريق يونس، عن محمد بن إسحق قال: لما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذى بعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه، وأبوا أن يسلموه، وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه، إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه.
فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب، وعرفت قريش ألا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بنى هاشم وبنى عبدالمطلب: ألا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم وألا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة.
ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا.
ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبى طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد
الشديد، حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من رواء الشعب من الجوع.
حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة.
وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الارضة، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته، وبقى فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك عمه أبا طالب.
ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم.
* * * وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا منه (1)
__________
(1) ابن هشام: أصابوا به.
(*)

أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الاسلام يفشو في القبائل، فاجتمعوا (1) وائتمروا على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى عبدالمطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ابن قصى.
قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشل بعض أصابعه.
وقال الواقدي: كان الذى يكتب الصحيفة طلحة بن أبى طلحة العبدرى.
قلت: والمشهور أنه منصور بن عكرمة، كما ذكره ابن إسحق، وهو الذى شلت يده فما كان ينتفع بها، وكانت قريش تقول بينها: انظروا إلى منصور بن عكرمة.
قال الواقدي: وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة.
* * * قال ابن إسحق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه.
وخرج من بنى هاشم أبو لهب بن عبدالعزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم.
وحدثني حسين بن عبدالله أن أبا لهب لقى هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق
__________
(1) ابن هشام: اجتمعوا.
وهو الصواب.
(*)

قومه وظاهر عليهم قريشا فقال: يا بنة عتية، هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها (1) وظاهر عليها.
قالت: نعم، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.
قال ابن إسحق: وحدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول: يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدى بعد ذلك ؟ ! ثم ينفخ في يديه فيقول: تبا لكما، لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد.
فأنزل الله تعالى: " تبت يدا أبى لهب وتب ".
قال ابن اسحق: فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذى صنعوا قال أبو طالب: ألا أبلغا عنا على ذات بيننا * لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصه الله بالحب
وأن الذى ألصقتم من كتابكم * لكم كائن نحسا كراغية السقب (2).
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذى الذنب ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا (3) وربما * أمر على من ذاقه حلب الحرب فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا * لعزاء من عض الزمان ولا كرب
__________
(1) ابن هشام: فارقهما.
(2) راغية السقب: أراد ناقة صالح.
والسقب: ولد الناقة: والراغية من الرغاء، وهو صوت الابل.
(3) عوانا: مستمرة.
(*) (4 - السيرة - 2)

ولما تبن منا ومنكم سوالف * وأيد أترت بالقساسية الشهب (1) بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به والنسور الطخم يعكفن كالشرب (2) كأن مجال (3) الخيل في حجراته * ومعمعة الابطال معركة الحرب (3) أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب * * * قال ابن إسحق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا ولم يصل إليهم شئ إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش.
وقد كان أبو جهل بن هشام، فيما يذكرون، لقى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بنى هاشم ؟ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.
فجاءه أبوالبخترى بن هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله ؟.
فقال: يحمل الطعام إلى بنى هاشم.
فقال له أبوالبخترى: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه، أتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل.
قال: فأبى أبو جهل لعنه الله، حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبوالبخترى لحى بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا.
__________
(1) تبن: تفصل، والسوالف: صفحات الاعناق.
وأترت: قطعت.
والقساسية: نوع من السيوف.
(2) النسور الطخم: السود الرؤوس.
والشرب: الجماعة من القوم يشربون.
(3) الاصل: صحال.
ولا معنى لها.
وما أثبته عن نسخة من ابن هشام.
(*)

وحمزة بن عبدالمطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتون بهم.
[ المستهزئون ] ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، مناديا بأمر الله تعالى لا يتقى فيه أحدا من الناس.
فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بنى هاشم وبنى عبدالمطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه.
وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته.
منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.
فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى: " ويل لكل همزة لمزة " السورة بكمالها فيه.
والعاص بن وائل ونزول قوله " أفرأيت الذى كفر بآياتنا وقال: لاوتين مالا
وولدا " (1) فيه.
وقد تقدم شئ من ذلك.
وأبا جهل بن هشام، وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم: لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك (2) [ الذى تعبد ] (3)، ونزول قول الله فيه: " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " (4) الآية.
والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة، ومنهم من يقول علقمة بن كلدة، قاله السهيلي، وجلوسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه، حيث يتلو القرآن ويدعوا إلى
__________
(1) سورة مريم 77.
(2) الاصل: آلهتك.
وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(3) من ابن هشام.
(4) سورة الانعام 108.
(*)

الله، فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهم من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا منى، وما حديثه إلا أساطير الاولين اكتتبتها كما اكتتبها.
فأنزل الله تعالى: " وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا (1) " وقوله: " ويل لكل أفاك أثيم " (2).
* * * قال ابن اسحق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد.
فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش.
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون، لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون " (3).
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبدالله بن الزبعرى السهمى حتى جلس.
فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبدالمطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم.
فقال عبدالله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل
__________
(1) سورة الفرقان 5.
(2) سورة الجاثية 7.
(3) سورة الانبياء 98 - 100.
(*)

من يعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فذكر ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم فقال: " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته ".
فأنزل الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون " (1).
أي عيسى وعزيز ومن عبد من الاحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى.
ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، سبحانه، بل عباد مكرمون " (2).
والآيات بعدها.
ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعرى: " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون.
وقالوا أ آلهتنا خير أم هو ؟ ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " (3).
وهذا الجدل الذى سلكوه باطل.
وهم يعلمون ذلك، لانهم قوم عرب، ومن لغتهم أن " ما " لما لا يعقل، فقوله " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الاحجار التى كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين
__________
(1) سورة الانبياء.
101، 102 (2) سورة الانبياء.
26 - 29 سورة الزخرف 57، 58.
(*)

زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيزا، ولا أحدا من الصالحين، لان اللفظ لا يتناولهم لا لفظا ولا معنى.
فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى بن مريم من المثل جدل باطل، كما قال الله تعالى: " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ".
ثم قال: " إن هو " أي عيسى " إلا عبد أنعمنا عليه " أي بنبوتنا " وجعلناه مثلا لبنى إسرائيل " أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء، حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بنى آدم من ذكر وأنثى.
كما قال في الآية الاخرى: " ولنجعله آية للناس " أي أمارة ودليلا على قدرتنا
الباهرة " ورحمة منا " نرحم بها من نشاء.
* * * وذكر ابن إسحق الاخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه: " ولا تطع كل حلاف مهين " (1) الآيات.
وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو (2) الثقفى سيد ثقيف، فنحن عظيما القريتين، ونزول قوله فيه: " وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " (3) والتى بعدها.
وذكر أبى بن خلف حين قال لعقبة بن أبى معيط: ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ؟ وجهى من وجهك حرام إلا أن تتفل في وجهه.
ففعل ذلك عدو الله عقبة لعنه الله.
فأنزل الله: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول: يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتا ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا (4) " والتى بعدها.
__________
(1) سورة نون 10 (2) ابن هشام: عمرو بن عمير.
(3) سورة الزخرف 31.
(4) سورة الفرقان 27، 28.
(*)

قال: ومشى أبى بن خلف بعظم بال قد أرم فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم ؟ ! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: نعم، أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار.
وأنزل الله تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسى خلقه، قال: من يحيى العظام وهى رميم.
قل: يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (1) إلى
آخر السورة.
قال: واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة، الاسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الامر.
فأنزل الله فيهم: " قل يا أيها الكافرون.
لا أعبد ما تعبدون " إلى آخرها.
ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم قال: أتدرون ما الزقوم ؟ هو تمر يضرب بالزبد ! ثم قال: هلم فلنتزقم.
فأنزل الله تعالى: " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم (2) ".
قال: ووقف الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وقد طمع في إسلامه.
فمر به ابن أم مكتوم، عاتكة بنت عبدالله بن عنكثة، الاعمى، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن.
فشق ذلك عليه حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه.
فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه.
فأنزل الله تعالى: " عبس وتولى، أن جاءه الاعمى " إلى قوله: " مرفوعة مطهرة ".
__________
(1) سورة يس 78، 79 (2) سورة الدخان 43، 44.
(*)

وقد قيل: إن الذى كان يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم: أمية بن خلف.
فالله أعلم.
* * * ثم ذكر ابن اسحق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة.
وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة، وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب.
وهو ما ثبت في الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما مع المشركين، وأنزل الله عليه: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم " يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد، فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والانس.
وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (1) ".
وذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الاضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضعها، إلا أن أصل القصة في الصحيح.
قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس ".
انفرد به البخاري دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى إسحق،
__________
(1) سورة الحج 52.
(*)

سمعت الاسود، عن عبدالله قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " والنجم " بمكة، فسجد فيها، وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافرا ".
ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، من حديث شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا إبراهيم، حدثنا رباح، عن معمر، عن ابن طاووس،
عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن المطلب بن أبى وداعة، عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه.
وقد رواه النسائي، عن عبدالملك بن عبدالحميد، عن أحمد بن حنبل به.
وقد يجمع بين هذا والذى قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا، وذلك الشيخ الذى استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية.
والله اعلم.
* * * والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم.
فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها، فظنوا صحة ذلك.
فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة، وكلاهما محسن مصيب فيما فعل.
فذكر ابن إسحق أسماء من رجع منهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة

ابن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد، وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وشماس بن عثمان.
وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة، وقد حبسا بمكة حتى مضت بدر وأحد والخندق.
وعمار بن ياسر، وهو ممن شك فيه: أخرج إلى الحبشة أم لا.
ومعتب بن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل، وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبى حثمة، وعبد الله بن مخرمة.
وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا.
وأبو سبرة بن أبى رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل.
والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة، وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير، وسهيل ابن بيضاء، وعمرو بن أبى سرح.
فجميعهم: ثلاثه وثلاثون رجلا، رضى الله عنهم.
* * * وقال البخاري: وقالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين ".
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة.

وفيه عن أبى موسى وأسماء رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم حديث أبى موسى، وهو في الصحيحين، وسيأتى حديث أسماء بنت عميس، بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة، إن شاء الله، وبه الثقة.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان بن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله، قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فيرد
علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا.
قال: " إن في الصلاة شغلا ".
وقد روى البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر، عن سليمان بن مهران، عن الاعمش به: وهو يقوى تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في الصحيحين: كنا نتكلم في الصلاة، حتى نزل قوله: " وقوموا لله قانتين " (1 فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ".
على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيدا أنصارى مدنى، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم.
وأما ذكره الآية وهى مدينة فمشكل، ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك، وإنما كان المحرم له غيرها معها.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحق: وكان ممن دخل منهم بجوار (2) [ فيما سمى لنا (3) ] عثمان بن
__________
(1) سورة البقرة 238 (2) الاصل: وكان ممن دخل معهم بجوار.
وهو تحريف، وما أثبته عن ابن هشام (3) من ابن هشام.
(*)

مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الاسد في جوار خاله ابى طالب، فإن أمه برة بنت عبدالمطلب (1).
فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف حدثنى عمن حدثه عن عثمان قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوى
ورواحى في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل دينى يلقون من البلاء والاذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير (1) في نفسي ! فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.
قال: لم يا بن أخى ؟ لعله آذاك أحد من قومي ؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عزوجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد على جواري علانية كما أجرتك علانية.
قال: فانطلقا، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد على جواري.
قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان رضى الله عنه، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: * ألا كل شئ ما خلا الله باطل *
__________
(1) ابن هشام: وأم أبى سلمة برة بنت عبدالمطلب (2) ابن هشام: كبير.
(*)

فقال عثمان: صدقت.
فقال لبيد: * وكل نعيم لا محالة زائل * فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم ؟ !
فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله.
فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ [ من ] (1) عثمان، فقال: أما والله يابن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.
قال: يقول عثمان: بل والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله ! وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
فقال له الوليد: هلم يابن أخى إلى جوارك فعد.
قال: لا.
* * * قال ابن إسحق: وأما أبو سلمة بن عبد الاسد، فحدثني أبى إسحق بن يسار، عن سلمة بن عبدالله بن أبى سلمة، أنه حدثه أن أبا سلمة لما استجار بأبى طالب مشى إليه رجال من بنى مخزوم فقالوا له: يا أبا طالب، هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا ؟
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

قال: إنه استجار بى، وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى.
فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد.
قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة.
وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك.
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن امرءا أبو عتيبة عمه * لفى روضة ما إن يسام المظالما أقول له وأين منه نصيحتي * أبا معتب ثبت سوادك قائما ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة * تسب بها إما هبطت المواسما وول سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانما أو مغارما جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما بتفريقهم من بعد ود وألفة * جماعتنا كيما ينالوا المحارما كذبتم وبيت الله نبزى (1) محمدا * ولما تروا يوما لدى الشعب قائما قال ابن هشام: وبقى منها بيت تركناه.
__________
(1) نبزى: نسلب.
(*)

ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى أرض الحبشة قال ابن إسحق: وقد كان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، كما حدثنى محمد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الاذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له.
فخرج أبو بكر رضى الله عنه مهاجرا، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين، لقيه
ابن الدغنة (1)، أخو بنى الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الاحابيش.
قال الواقدي: اسمه الحارث بن يزيد، أحد بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة.
وقال السهيلي: اسمه مالك.
فقال: إلى أين يا أبا بكر ؟ قال: أخرجنى قومي وآذوني وضيقوا على.
قال: ولم ؟ والله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري.
فرجع معه، حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة، فلا يعرض له أحد إلا بخير.
قال: فكفوا عنه.
__________
(1) ابن الدغنة، بفتح الدال المشددة وكسر الغين المعجمة والنون مخففة مفتوحة، كذا ضبطه الزرقائى، وهو ضبط الرواة، وأهل اللغة يضبطونه بالدال مشددة مضمومة والغين مضمومة والنون مشددة مضمومة ومعنى الدغنة: المسترخية.
(*)

قالت: وكان لابي بكر مسجد عند باب داره في بنى جمح، فكان يصلى فيه، وكان رجلا رقيقا أذا قرأ القرآن استبكى.
قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء، يعجبون لما يرون من هيئته.
قال: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا: يا ابن الدغنة، إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة، ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم، فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء.
قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال: يا أبا بكر، إنى لم أجرك لتؤذي قومك،
وقد كرهوا مكانك الذى أنت به وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.
قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.
قال: فاردد على جواري.
قال: قد رددته عليك.
قال: فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد رد على جواري، فشأنكم بصاحبكم.
* * * وقد روى الامام البخاري هذا الحديث (1) متفردا به، وفيه زيادة حسنة.
فقال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب (2) فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوى (3) قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه
__________
(1) صحيح البخاري باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة 2 / 190 (2) الاصل: قال ابن هشام: وهو تحريف وما أثبته من صحيح البخاري 2 / 190 (3) الاصل: أبواي.
وهو خطأ.
وما أثبته عن البخاري.
(*)

رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية.
فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (1) لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة (2)، فقال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجنى قومي فأريد أن أسيح في الارض فأعبد ربى.
فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك.
فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم ويحمل الكل ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق ؟ ! فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصل فيها، ولقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فقال ابن الدغنة ذلك لابي بكر.
فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره.
ثم بدا لابي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه ويقرأ القرآن.
فيتقذف (1) نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينه إذا قرأ القرآن.
__________
(1) برك الغماد: موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلى البحر.
وقد حكى في الباء الضم والكسر (2) قبيلة تشتهر بالرمي ولهم ما يقال: قد أنصف القارة من راماها.
(3) أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه.
ورواية المواهب: " فيتقصف " أي يزدحم ورواية المروزى والمستملي: فينقذف بالنون.
شرح المواهب 1 / 289.
(*) (5 - السيرة - 2)

فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لابي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبى بكر فقال: قد علمت الذى قد عاقدتك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإنى لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت في رجل عقدت له.
فقال أبو بكر: فإنى أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عزوجل.
ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبى بكر رضى الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مبسوطا.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق، قال: لقيه، يعنى أبا بكر الصديق حين خرج من جوار ابن الدغنة، سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه ترابا، فمر بأبى بكر الوليد ابن المغيرة أو العاص بن وائل، فقال له أبو بكر رضى الله عنه: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه ؟ ! فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك.
وهو يقول: أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك ! فصل كل هذه القصص ذكرها ابن إسحق معترضا بها بين تعاقد قريش على بنى هاشم وبنى المطلب، وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض

الصحيفة وما كان من أمرها، وهى أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازى فهو عيال على ابن إسحق.
قال ابن إسحق: هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذى تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التى كتبوها.
ثم إنه قام في نقض الصحيفة نفر من قريش.
ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر
ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هشام بن عبد مناف لامه.
وكان هشام لبنى هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه.
فكان، فيما بلغني، يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا، قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره برا فيفعل به مثل ذلك.
ثم إنه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب، فقال: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إنى أحلف بالله لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا.
قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معى رجل آخر لقمت في نقضها.
قال: قد وجدت رجلا.
قال: من هو ؟ قال: أنا.
قال له زهير: ابغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدى فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من

بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟ ! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا.
قال: ويحك فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد.
قال: وجدت لك ثانيا.
قال: من ؟ قال: أنا.
قال: ابغنا ثالثا.
قال قد فعلت قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبى أمية.
قال ابغنا رابعا.
فذهب إلى أبى البخترى بن هشام فقال نحو ما قال للمطعم بن عدى، فقال: وهل تجد أحدا يعين على هذا ؟ قال: نعم.
قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبى أمية والمطعم بن عدى وأنا معك.
قال:
ابغنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الامر الذى تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم.
ثم سمى القوم.
فاتعدوا حطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبى أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل الناس فقال: يا أهل مكة أنأ كل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل: وكان في ناحية المسجد: والله لا تشق.
قال زمعة بن الاسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت.
قال أبو البخترى: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به.

قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
قال أبو جهل: هذا أمر قد قضى بليل وتشوور فيه بغير هذا المكان.
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد.
وقام المطعم بن عدى إلى الصحفة ليشقها فوجد الارضة قد أكلتها إلا " باسمك اللهم " وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده، فيما يزعمون.
قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابي
طالب: يا عم إن الله قد سلط الارضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.
فقال: أربك أخبرك بهذا ؟ قال: نعم.
قال: فو الله ما يدخل عليك أحد.
ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخى قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخى.
فقال القوم: قد رضينا.
فتعاقدوا على ذلك.
ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزادهم ذلك شرا.
فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
قال ابن إسحاق: فلما مزقت وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم:

ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أرود (1) فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد تراوحها إفك وسحر مجمع * ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد تداعى لها من ليس فيها بقرقر (2) * فطائرها في رأسها يتردد وكانت كفاء وقعة بأثيمة * ليقطع منها ساعد ومقلد (3) ويظعن أهل المكتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر ترعد ويترك حراث يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذاك وينجد فمن ينش من حضار مكة عزه * فعزتنا في بطن مكة أتلد نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدى المفيضين ترعد جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا * على ملا يهدى لحزم ويرشد قعودا لدى حطم الحجون كأنهم * مقاولة بل هم أعز وأمجد أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد (4) جرئ على جل (5) الخطوب كأنه * شهاب بكفى قابس يتوقد من الاكرمين من لؤى بن غالب * إذا سيم خسفا وجهه يتربد طويل النجاد خارج نصف ساقه * على وجهه يسقى الغمام ويسعد
__________
(1) بحرينا: أراد بهم الذين بأرض الحبشة، نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه.
كما قال عليه السلام لاسماء بنت عميس حين قدمت من أرض الحبشة: " البحرية الحبشية " وأرود: أرفق.
(2) القرقر: أراد الذليل، والقرقر: الارض الموطوءة التى لا تمنع سالكها.
ويجوز أن يريد به: ليس بذى هزل.
الروض.
(3) المقلد: العنق.
(4) رفرف الدرع: فضولها.
والاحرد: الذى في مشيه تثاقل، وهو من الحرد، وهو عيب في الرجل.
(5) وتروى: جلى.
(*)

عظيم الرماد سيد وابن سيد * يحض على مقرى الضيوف ويحشد ويبنى لابناء العشيرة صالحا * إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد ألظ (1) بهذا الصلح كل مبرإ * عظيم اللواء أمره ثم يحمد قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهل وسائر الناس رقد هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا * وسر أبو بكر بها ومحمد متى شرك الاقوام في حل أمرنا * وكنا قديما قبلها نتودد وكنا قديما لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيال قصى هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجئ به غد فإنى وإياكم كما قال قائل * لديك البيان لو تكلمت أسود قال السهيلي: أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول: لديك البيان لو تكلمت أسود.
أي يا أسود لو تكلمت لابنت لنا عمن قتله (2).
ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدى وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة.
وقد ذكر الاموى ها هنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق.
وقال الواقدي: سألت محمد بن صالح، وعبد الرحمن بن عبد العزيز: متى خرج بنو هاشم من الشعب ؟ قالا: في السنة العاشرة، يعنى من البعثة، قبل الهجرة بثلاث سنين.
قلت: وفى هذه السنة بعد خروجهم توفى أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجته خديجة بنت خويلد رضى الله عنها.
كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ألظ: أخ وطالب.
(2) السهيلي: فقال أولياء المقتول هذه المقالة فذهبت مثلا.
(*)

فصل وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه، دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبا لهم فيما يرمونه من البغى والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، والله غالب على أمره.
* * * فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسى مرسلة.
وكان سيدا مطاعا شريفا في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه.
قال: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا (1) فرقا من أن يبلغني شئ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة.
قال: فقمت منه قريبا، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله.
قال: فسمعت كلاما حسنا، قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي ! والله إنى لرجل لبيب شاعر ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذى يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
__________
(1) الكرسف: القطن.
(*)

قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته [ فاتبعته حتى إذا دخل بيته (1) ] دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لى كذا وكذا.
للذى قالوا.
قال: فو الله ما برحوا بى يخوفونني أمرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض على أمرك.
قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام وتلا على القرآن، فلا والله
ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه.
قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبى الله إنى امرؤ مطاع في قومي، وإنى راجع إليهم وداعيهم إلى الاسلام، فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه.
قال فقال: اللهم اجعل له آية.
قال فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع بين عينى نور مثل المصباح.
قال: فقلت: اللهم في غير وجهى فإنى أخشى أن يظنوا أنها (2) مثلة وقعت في وجهى لفراقي دينهم.
قال: فتحول فوقع في رأس سوطي.
قال: فجعل الحاضرون (3) يتراءون ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق وأنا أنهبط (4) عليهم من الثنية، حتى جئتهم فأصبحت فيهم.
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) الاصل: يظنوا بها وما أثبته من ابن هشام.
(3) ابن هشام: الحاضر.
(4) ابن هشام: أهبط.
(*)

فلما نزلت أتانى أبى، وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنى يا أبت، فلست منك ولست منى.
قال: ولم يا بنى ؟ قال: قلت أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: أي بنى فدينك دينى.
فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم ائتنى حتى أعلمك مما علمت.
قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الاسلام فأسلم.
قال: ثم أتتنى صاحبتي، فقلت: إليك عنى، فلست منك ولست منى.
قالت: ولم ؟ بأبى أنت وأمى.
قال: قلت: فرق بينى وبينك الاسلام، وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
قالت: فدينى دينك.
قال: فقلت فاذهبي إلى حمى (1) ذى الشرى فتطهري منه.
وكان ذو الشرى صنما لدوس، وكان الحمى حمى حموه حوله، به وشل (2) من ماء يهبط من جبل.
قالت: بأبى أنت وأمى، أتخشى على الصبية من ذى الشرى شيئا ؟ قلت: لا، أنا ضامن لذلك.
قال: فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت فعرضت عليها الاسلام فأسلمت.
ثم دعوت دوسا إلى الاسلام فأبطأوا على، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
فقلت: يا رسول الله، إنه قد غلبنى على دوس الزنا، فادع الله عليهم.
قال: " اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم ".
__________
(1) ويقال له أيضا: حنى (2) الوشل: الماء القليل.
(*)

قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الاسلام، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معى من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة، فقلت: يا رسول الله ابعثنى إلى ذى الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه.
قال ابن إسحاق: فخرج إليه، فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول: يا ذا الكفين (1) لست من عبادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا إنى حشوت النار في فؤادكا قال: ثم رجع [ إلى (2) ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بالمدينة، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما ارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين، فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل.
فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لاصحابه: إنى قد رأيت رؤيا فاعبروها لى، رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمى طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عنى.
قالوا: خيرا.
قال: أما أنا والله فقد أولتها.
__________
(1) الكفين: أراد الكفين بالتشديد فخفف للضرورة.
وذكر السهيلي أنه قد يخفف في غير الشعر، فإن صح هذا فهو تثنية كفء من كفأت الاناء ثم سهلت الهمزة ونقلت حركتها إلى الفاء كالخبء والخب.
الروض 1 / 235 (2) من ابن هشام.
(*)

قالوا: ماذا ؟ قال: أما حلق رأسي فوضعه، وأما الطائر الذى خرج منه فروحي، وأما المرأة التى أدخلتني في فرجها فالارض تحفر لى فأغيب فيها.
وأما طلب ابني إياى ثم حبسه عنى فإنى أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني.
فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها، ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا.
رحمه الله.
هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد.
ولخبره شاهد في الحديث الصحيح.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبى الزناد، عن الاعرج، عن أبى هريرة، قال: لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن دوسا قد استعصت، قال: " اللهم اهد دوسا وائت بهم ".
رواه البخاري، عن أبى نعيم، عن سفيان الثوري.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قدم الطفيل بن عمرو الدوسى وأصحابه، فقالوا: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها.
قال أبو هريرة فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقلت: هلكت دوس ! فقال: " اللهم اهد دوسا، وائت بهم ".
إسناده جيد ولم يخرجوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف، عن أبى الزبير، عن جابر، أن الطفيل بن عمرو الدوسى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ قال: حصن كان لدوس في الجاهلية.

فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، للذى ذخر الله للانصار.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا (1) المدينة، فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه (2)، فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات.
فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع ربك ؟ فقال: غفر لى بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال: فما لى أراك مغطيا يديك ؟ قال: قيل لى لن يصلح منك ما أفسدت !
قال: فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم وليديه فاغفر ".
رواه مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن سليمان ابن حرب به.
فإن قيل: فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق الحسن، عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عزوجل عبدى بادرنى بنفسه فحرمت عليه الجنة ".
فالجواب من وجوه: أحدها: أنه قد يكون ذاك مشركا وهذا مؤمن.
ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار، وإن كان شركه مستقلا إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته.
__________
(1) اجتووا المدينة: كرهوا المقام بها لضجر وسقم.
(2) المشاقص: جمع مشقص وهو سهم فيه نصل عريض: والبراجم: مفاصل الاصابع.
(*)

الثاني: قد يكون هذاك عالما بالتحريم، وهذا غير عالم لحداثة عهده بالاسلام.
الثالث: قد يكون ذاك فعله مستحلا له، وهذا لم يكن مستحلا بل مخطئا، الرابع: قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه، بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك.
الخامس: قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور، فدخل النار وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار، بل غفر له بالهجرة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن بقى الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه، فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه قال له: ما لك ؟ قال: قيل لى لن يصلح منك ما أفسدت.
فلما قصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: " اللهم وليديه فاغفر " أي فأصلح منها ما كان فاسدا.
والمحقق أن الله استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب الطفيل ابن عمرو.
قصة أعشى بن قيس قال ابن هشام: حدثنى خلاد بن قرة بن خالد السدوسى وغيره من مشايخ بكر ابن وائل، عن (1) أهل العلم، أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن على ابن بكر بن وائل، خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الاسلام، فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) ابن هشام: من أهل العلم.
(*)

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليم مسهدا ما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلة (1) مهددا ولكن أرى الدهر الذى هو خائن * إذا أصلحت كفاى عاد فأفسدا كهولا وشبانا فقدت وثروة * فلله هذا الدهر كيف ترددا وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع * وليدا وكهلا حين شبت وأمردا وأبتذل العيس المراقيل تعتلى * مسافة ما بين النجير فصرخدا (2) ألا أيهذا السائلى أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا فإن تسألي عنى فيارب سائل * حفى عن الاعشى به حيث أصعدا أجدت برجليها النجاء (3) وراجعت * يداها خنافا لينا غير أحردا (4)
وفيها أذا ما هجرت عجرفية * أذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا (5) وآليت لا آوى لها من كلالة * ولا من حفى حتى تلاقى محمدا متى ما تناخى عند باب ابن هاشم * تراحى وتلقى من فواضله ندى نبى يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا (6) له صدقات ما تغب ونائل * فليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمد * نبى الاله حيث أوصى وأشهدا
__________
(1) وتروى: صحبة.
(2) العيس المراقيل: الابل المسرعة.
النجير وصرخد: بلدان.
(3) ط: النجاء.
وهو تحريف.
(4) خنفت الناقة ببديها في السير إذا مالت بهما نشاطا.
(5) الحرباء: دويبة تستقبل الشمس برأسها، والاصيد: المائل العنق، والمقصود حين تكون الشمس في وسط السماء وذلك أحر ما تكون الرمضاء، يصف ناقته بالنشاط وقوة المشى في ذلك الوقت.
(6) رواية ابن دريد في الاشتقاق 1 / 18: نبى يرى ما لا ترون وذكره * لعمري غار في البلاد وأنجدا قال: " ومن روى: " أغار لعمري " فقد لحن وأخطأ ".
(*)

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للامر الذى كان أرصدا فإياك والميتات لا تقربنها * ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * ولا تعبد الاوثان والله فاعبدا ولا تقربن حرة (1) كان سرها * عليك حراما فانكحن أو تأبدا (2) وذا الرحم القربى فلا تقطعنه * لعاقبة ولا الاسير المقيدا
وسبح على حين العشية (3) والضحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة * ولا تحسبن المال للمرء مخلدا قال ابن هشام: فلما كان بمكة أو قريب منها، اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم.
فقال له: يا أبا بصير: إنه يحرم الزنا.
فقال الاعشى: والله إن ذلك لامر مالى فيه من أرب.
فقال: يا أبا بصير: إنه يحرم الخمر.
فقال الاعشى: أما هذه فو الله إن في نفسي منها العلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامى هذا، ثم آتيه فأسلم.
فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ها هنا، وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله ! فإن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بنى النضير كما سيأتي بيانه.
__________
(1) وتروى: جارة.
(2) تأبد: ترهب، لان الراهب أبدا أعزب، فقيل له متأبد، اشتق من لفظ الابد.
(3) ابن هشام: العشيات.
(*)

فالظاهر أن عزم الاعشى على القدوم للاسلام إنما كان بعد الهجرة، وفى شعره ما يدل على ذلك، وهو قوله: ألا أيهذا السائلى أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا وكان الانسب والاليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها ها هنا.
والله أعلم.
قال السهيلي: وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه، فإن الناس مجمعون على أن الخمر
لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد.
وقد قال: وقيل إن القائل للاعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة ابن ربيعة.
وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس، وهو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وقوله: ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم.
ثم ذكر ابن إسحاق ها هنا قصة الاراشى وكيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبى جهل في ثمن الجمل الذى ابتاعه منه، وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنة في الساعة الراهنة.
وقد قدمنا ذلك في ابتداء الوحى، وما كان من أذية المشركين عند ذلك.
(6 - السيرة - 2)

قصة مصارعة ركانة وكيف أراه الشجرة التى دعاها فأقبلت صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: وحدثني أبى إسحاق بن يسار قال: كان ركانة بن عبد يزيد ابن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريش.
فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه.
قال: إنى لو أعلم أن الذى تقول حق لاتبعتك.
فقال له رسول الله: " أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق ؟ ".
قال: نعم.
قال: " فقم حتى أصارعك ".
قال: فقام ركانة إليه فصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه
لا يملك من نفسه شيئا.
ثم قال: عد يا محمد.
فعاد فصرعه.
فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني ؟ ! قال: " وأعجب من ذلك إن شئت أريكه، إن اتقيت الله واتبعت أمرى ".
قال: وما هو ؟ قال: " أدعو لك هذه الشجرة التى ترى فتأتيني ".
قال: فادعها.
فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لها: ارجعي إلى مكانك ! فرجعت إلى مكانها.
قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بنى عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الارض، فو الله ما رأيت أسحر منه قط ! ثم أخبرهم بالذى رأى والذى صنع.
هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلة بهذا البيان.

وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبى الحسن العسقلاني، عن أبى جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه، أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الترمذي: غريب.
ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة.
قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد، عن ابن عباس رضى الله عنهما: أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد ما وضع ظهرى إلى الارض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلى منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه.
وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت، فسيأتي في كتاب دلائل النبوة بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة.
إن شاء الله وبه الثقة.
وقد تقدم عن أبى الاشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي.
ولله الحمد والمنة.
* * * قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد فجلس (1) إليه المستضعفون من أصحابه، خباب، وعمار، وأبو فكيهة يسار (2) مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين، هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض:
__________
(1) الاصل: يجلس وهو تحريف لا يستقيم به المعنى، وما أثبته من ابن هشام.
(2) الاصل: وأبوفكية ويسار.
وهو خطأ.
وما أثبته من ابن هشام.
(*)

هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق، لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا.
فأنزل الله عزوجل فيهم: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شئ، وما من حسابك عليهم من شئ، فتطردهم فتكون من الظالمين، وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا.
أليس الله بأعلم بالشاكرين.
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (1) ".
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة (2) غلام نصراني يقال له جبر، عبد لبنى الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر.
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم " إنما يعلمه بشر.
لسان الذى يلحدون إليه أعجمى
وهذا لسان عربي مبين (3) ".
ثم ذكر نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر.
أي لا عقب له.
فإذا مات انقطع ذكره.
فقال الله تعالى: " إن شانئك هو الابتر " أي المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفا من النسل والذرية، وليس الذكر والصيت ولسان الصدق بكثرة الاولاد والانسال والعقب.
وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير.
ولله الحمد.
__________
(1) سورة الانعام 52 - 54.
(2) الاصل بيعة وما أثبته عن ابن هشام.
والمبيعة: مفعلة مثل المعيشة.
(3) سورة النحل 103.
(*)

وقد روى عن أبى جعفر الباقر: أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة.
ثم ذكر نزول قوله: " وقالوا لو لا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر (1) " وذلك بسبب قول أبى بن خلف وزمعة بن الاسود، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث: لو لا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبى جهل ابن هشام، فهمزوه واستهزءوا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون " (1).
قلت: وقال الله تعالى " ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين (1) " وقال تعالى " إنا كفيناك المستهزئين (2) ".
قال سفيان: عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قال:
المستهزءون: الوليد بن المغيرة، والاسود بن عبد يغوث الزهري، والاسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل (3)، والعاص بن وائل السهمى.
فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراه الوليد فأشار جبريل إلى أنمله وقال: كفيته.
ثم أراه الاسود بن المطلب، فأومأ إلى عنقه وقال: كفيته.
ثم أراه الاسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال: كفيته.
__________
(1) سورة الانعام (2) سورة الحجر 95.
(3) سيأتي أنه ابن الطلاطلة.
كما في ابن هشام والروض.
(*)

ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال: كفيته.
ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته.
فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها.
وأما الاسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها.
وأما الاسود بن المطلب فعمى.
وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بنى ألا تدفعون عنى ! قد قتلت.
فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا.
وجعل يقول: يا بنى ألا تمنعون عنى قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عينى.
فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا.
فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.
وأما الحارث بن عيطل فأخذه الماء الاصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها.
وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلات منها فمات منها.
وقال غيره في هذا الحديث: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة، يعنى شوكة، فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.
رواه البيهقى بنحو من هذا السياق.
* * * وقال ابن إسحاق: وكان عظماء المستهزئين كما حدئنى يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير خمسة نفر، وكانوا ذوى أسنان وشرف في قومهم: الاسود بن المطلب أبو زمعة، دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم أعم بصره وأثكله ولده ".

والاسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث ابن الطلاطلة.
وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ".
وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الاسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمى.
ومر به الاسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا.
ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه، كان أصابه قبل ذلك بسنين، من مروره برجل يريش نبلا له من خزاعة، فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشا يسيرا، فانتقض بعد ذلك فمات.
ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحا فقتله.
* * * ثم ذكر ابن إسحاق: أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم خالد وهشام والوليد.
فقال لهم: أي بنى، أوصيكم بثلاث: دمى في خزاعة فلا تطلوه (1)، والله إنى لاعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباى في ثقيف فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقرى (2) عند أبى أزيهر الدوسى فلا يفوتنكم به.
وكان
__________
(1) لا تطلوه: لا تهدروه.
وفى ابن هشام: فلا تطلنه.
(2) العقر بالضم في الاصل: دية فرج المرأة إذا غصبت على نفسها، ثم كثر ذلك حتى استعمل في المهر.
(*)

أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه، وهو صداقها.
فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك، حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الامر.
ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا.
قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبى أزيهر وهو بسوق ذى المجاز فقتله، وكان شريفا في قومه، وكانت ابنته تحت أبى سفيان، وذلك بعد بدر، فعمد يزيد بن أبى سفيان فجمع الناس لبنى مخزوم وكان أبوه غائبا، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد، فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه: أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس ؟ ! وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبى أزيهر، فقال: بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا وقد ذهب أشرافنا يوم بدر.
ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف.
قال ابن إسحاق: فذكر لى بعض أهل العلم أن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك " يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين (1) " وما بعدها.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بنى أزيهر ثأر نعلمه حتى حجز الاسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الاسلمي (2) خرج في نفر من قريش إلى أرض
__________
(1) سورة البقرة 278.
(2) في ابن هشام: الدوسى.
وهو ضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب، كان فارس قريش في الجاهلية وأدرك الاسلام، وكان شاعرا فارسا، وهو من رجال بنى فهر أخذ مرباعهم في الجاهلية.
الاشتقاق 1 / 103.
(*)

دوس، فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبى أزيهر، فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم.
قال السهيلي: يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها.
قال ابن هشام: فلما كانت أيام عمر بن الخطاب، أتته أم غيلان وهى ترى أن ضرارا أخوه، فقال لها عمر: لست بأخيه إلا في الاسلام، وقد عرفت منتك عليه.
فأعطاها على أنها بنت سبيل.
قال ابن هشام: وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد، فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: انج يا بن الخطاب لا أقتلك.
فكان عمر يعرفها له بعد الاسلام.
رضى الله عنهما.
فصل وذكر البيهقى ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف.
وأورد ما أخرجاه في الصحيحين (1) من طريق الاعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق عن ابن مسعود.
قال: خمس مضين، اللزام، والروم، والدخان،
والبطشة، والقمر.
وفى رواية عن ابن مسعود قال: إن قريشا، لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الاسلام، قال: " اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف ".
__________
(1) أورد البخاري هذه الروايات في تفسير سورة الفرقان والدخان في صحيحه 2 / 347، 361، 362.
وهى مختلفة عما هنا (*)

قال: فأصابتهم سنة حتى حصت (1) كل شئ، حتى أكلوا الجيف والميتة، وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبدالله هذه الآية " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " قال فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة، أو قال فأخروا إلى يوم بدر، قال عبدالله: إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " قال: يوم بدر.
وفى رواية عنه: قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا قال: " اللهم سبع كسبع يوسف " فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر، فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا " فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم.
قال: لقد مضت آية الدخان، وهو الجوع الذى أصابهم، وذلك قوله " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر.
قال البيهقى: يريد، والله أعلم، البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر.
__________
(1) الاصل: فحصت.
وهو تحريف والتصويب من البخاري 2 / 262 ولفظ البخاري: فأصابتهم سنة حصت كل شئ.
وحصت: أهلكت.
والحص: حلق الشعر.
(*)

قال: وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية، ثم أورد من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال جاء: أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع لانهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن، فأنزل الله تعالى: " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرج الله عنهم.
ثم قال الحافظ البيهقى: وقد روى في قصة أبى سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة، ولعله كان مرتين.
والله أعلم.
فصل ثم أورد البيهقى قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى " الم.
غلبت الروم في أدنى الارض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون.
في بضع سنين، لله الامر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ".
ثم روى من طريق سفيان الثوري، عن حبيب بن أبى عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لانهم أهل كتاب، وكان المشركين يحبون أن تظهر فارس على الروم لانهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لابي بكر، فذكره أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: " أما أنهم سيظهرون " فذكر أبو بكر ذلك للمشركين فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا.
فذكر ذلك أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا جعلته أداة ".
قال: دون العشر.
فظهرت الروم بعد ذلك.
وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي المراهن - لابي بكر أمية بن خلف، وأن الرهن كان على خمس قلائص، وأنه كان إلى مدة، فزاد

فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى عليه وسلم وفى الرهن.
وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر، أو كان يوم الحديبية، فالله أعلم.
ثم روى من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا أسيد الكلابي، أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه.
قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، وظهورهم على الشام والعراق.
كل ذلك في خمس عشرة سنة !

فصل في الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم عروجه من هناك إلى السموات، وما رأى هنالك من الآيات ذكر ابن عساكر أحاديث الاسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين.
وروى البيهقى من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة.
قال: وكذلك ذكره ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة.
ثم روى الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدى.
أنه قال: فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسرى به، قبل مهاجره بستة عشر شهرا.
فعلى قول السدى يكون الاسراء في شهر ذى القعدة، وعلى قول الزهري وعروة
يكون في ربيع الاول.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا عثمان، عن سعيد بن ميناء، عن جابر وابن عباس، قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات.
فيه انقطاع.
وقد اختاره الحافظ عبد الغنى بن سرور المقدسي في سيرته، وقد أورد حديثا لا يصح سنده، ذكرناه في فضائل شهر رجب، أن الاسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم.

ومن الناس من يزعم أن الاسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهى ليلة الرغائب التى أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لذلك.
والله أعلم.
وينشد بعضهم في ذلك: ليلة الجمعة عرج بالنبي * ليلة الجمعة أول رجب وهذا الشعر عليه ركاكة، وإنما ذكرناه استشهادا لمن يقول به.
وقد ذكرنا الاحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى: " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا، أنه هو السميع البصير ".
فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الاسانيد والعزو، والكلام عليه ومعها.
ففيها مقنع وكفاية.
ولله الحمد والمنة.
* * * ولنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله: فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول.
ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى،
وهو بيت المقدس من إيلياء، وقد فشا الاسلام بمكة في قريش وفى القبائل كلها.
قال: وكان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود، وأبى سعيد، وعائشة، ومعاوية، وأم هانئ بنت أبى طالب رضى الله عنهم، والحسن بن أبى الحسن، وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر لى من أمره.
وكان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر لى منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله

وقدرته (1) وسلطانه، فيه عبرة لاولى الالباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله على يقين.
فأسرى به كيف شاء وكما شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التى يصنع بها ما يريد.
وكان عبدالله بن مسعود فيما بلغني يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالبراق، وهى الدابة التى كانت تحمل عليها الانبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها، فحمل عليها.
ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والارض.
حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى، في نفر من الانبياء قد جمعوا له، فصلى بهم.
ثم أتى بثلاثة آنية من لبن وخمر وماء.
فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال لى جبريل: هديت وهديت أمتك.
* * * وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلا أن جبريل أيقظه، ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام، فأركبه، البراق، وهو دابة أبيض بين البغل والحمار، وفى
فخديه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع حافره في منتهى طرفه، ثم حملني عليه ثم خرج معى لا يفوتنى ولا أفوته.
قلت: وفى الحديث، وهو عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد ركوب البراق شمس به، فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال
__________
(1) ابن هشام: في قدرته (*)

ألا تستحى يا براق مما تصنع ! فو الله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه.
قال: فاستحى حتى ارفض عرقا، ثم قر حتى ركبته.
قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريل، حتى انتهى به إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الانبياء، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم.
ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر، وقول جبريل له: هديت وهديت أمتك، وحرمت عليكم الخمر.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأصبح يخبر قريشا بذلك.
فذكر أنه كذبه أكثر الناس، وارتدت طائفة بعد إسلامها.
وبادر الصديق إلى التصديق وقال: إنى لاصدقه في خبر السماء بكرة وعيشة، أفلا أصدقه في بيت المقدس ! وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس، فذكرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فيومئذ سمى أبو بكر الصديق.
قال الحسن: وأنزل الله في ذلك " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " الآية.
* * * وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ، انها قالت: ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من بيتى، نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما

كان قبيل الفجر أهبنا (1) فلما كان الصبح وصلينا معه، قال: " يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين ".
ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه فقلت: يا نبى الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك.
قال: " والله لاحدثنهموه ".
فأخبرهم فكذبوه.
فقال: وآية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة، فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان (2) مررت بعير بنى فلان، فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والاخرى برقاء.
قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذى وصف لهم وسألوهم عن الاناء وعن البعير، فاخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
وذكر يونس بن بكير، عن أسباط، عن إسماعيل السدى، أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عزوجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم.
قال: فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون.
رواه البيهيقى.
* * *
__________
(1) أهبنا: أيقظنا.
(2) ضجنان: جبل بناحية نهامة.
وفى الاصل: صحنان محرفة.
(*) (7 - السيرة - 2)

قال ابن إسحاق: وأخبرني من لا أتهم عن أبى سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج، ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذى يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر.
فأصعدني فيه صاحبي حتى انتهى بى إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه بريد (1) من الملائكة يقال له إسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك.
قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حدث بهذا الحديث: " وما يعلم جنود ربك إلا هو ".
ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جدا، وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه، فإنه من غرائب الاحاديث وفى إسناده ضعف.
وكذا في سياق حديث أم هانئ، فإن الثابت في الصحيحين من رواية شريك بن أبى نمر، عن أنس، أن الاسراء كان من المسجد من عند الحجر.
وفى سياقه غرابة أيضا من وجوه قد تكلمنا عليها هناك.
ومنها قوله: " وذلك قبل أن يوحى إليه " والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شئ، ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك: " وذلك قبل أن يوحى إليه " بل جاءه بعد ما أوحى إليه.
فكان الاسراء قطعا بعد الايحاء، إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون، وهو الاظهر.
وغسل صدره تلك الليلة قبل الاسراء غسلا ثانيا، أو ثالثا على قول، أنه مطلوب إلى الملا الاعلى والحضرة الالهية.
__________
(1) ابن هشام: ملك من الملائكة.
(*)

ثم ركب البراق رفعة له وتعظيما وتكريما، فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التى كانت تربط بها الانبياء، ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد.
وأنكر حذيفة رضى الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه.
وهذا غريب، والنص المثبت مقدم على النافي.
ثم اختلفوا في اجتماعه بالانبياء وصلاته بهم: أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم، أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب.
كما سنذكره على قولين.
فالله أعلم.
وقيل: إن صلاته بالانبياء كانت في السماء.
وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء، هل كانت ببيت المقدس كما تقدم ؟ أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء، ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس، بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة.
فصعد من سماء إلى سماء في المعراج، حتى جاوز السابعة، وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والانبياء.
وذكر أعيان من رآه من المرسلين، كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة، وموسى في السادسة (1) على الصحيح، وإبراهيم في السابعة مسندا
ظهره إلى البيت المعمور، الذى يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
__________
(1) لم يذكر المؤلف من رأى في الثالثة والخامسة.
(*)

ثم جاوز مراتبهم كلهم، حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الاقلام ورفعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة وألوان متعددة باهرة، وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة، وفراش من ذهب، وغشيها من نور الرب جل جلاله.
* * * ورأى هناك جبريل عليه السلام، له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والارض، وهو الذى يقول الله تعالى: " ولقد رآه نزلة أخرى.
عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.
إذ يغشى السدرة ما يغشى.
ما زاغ البصر وما طغى " أي ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا ارتفع عن المكان الذى حد له النظر إليه.
وهذا هو الثبات العظيم والادب الكريم.
وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التى خلقه الله تعالى عليها، كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضى الله عنهم أجمعين.
والاولى هي قوله تعالى: " علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى.
وهو بالافق الاعلى.
ثم دنا فتدلى.
فكان قاب قوسين أو أدنى.
فأوحى إلى عبده ما أوحى " وكان ذلك بالابطح، تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سادا عظم خلقه ما بين السماء والارض، حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى.
هذا هو الصحيح في التفسير، كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضى الله عنهم.
فأما قول شريك عن أنس في حديث الاسراء: " ثم دنا الجبار رب العزة
فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " فقد يكون من فهم الراوى فأقحمه في الحديث (1) والله أعلم.
__________
(1) قال السهيلي: " وهذا مع صحة نقله لا يكاد أحد من المفسرين يذكره، لاستحالة ظاهرة أو للغفلة عن موضعه.
ولا استحالة فيه " انظر رأيه في الروض 1 / 249 (*)

وإن كان محفوظا فليس بتفسير الآية الكريمة، بل هو شئ آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم.
وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ، خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عزوجل حتى وضعها الرب، جل جلاه وله الحمد المنة، إلى خمس، وقال: " هي خمس وهى خمسون الحسنة بعشر أمثالها ".
فحصل له التكليم من الرب عزوجل ليلتئذ.
وأئمة السنة كالمطبقين على هذا.
واختلفوا في الرؤية فقال بعضهم: رآه بفؤاده مرتين.
قاله ابن عباس وطائفة.
وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية، وهو محمول على التقييد.
وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضى الله عنهما.
صرح بعضهم بالرؤية بالعينين.
واختاره ابن جرير، وبالغ فيه، وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين.
وممن نص على الرؤية بعينى رأسه الشيخ أبو الحسن الاشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه.
وقالت طائفة: لم يقع ذلك، لحديث أبى ذر في صحيح مسلم: قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال: " نور أنى أراه " وفي رواية " رأيت نورا ".
قالوا: ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية.
ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روى في بعض الكتب الالهية: يا موسى إنه لايرانى حى إلا مات، ولا يابس إلا تدهده.
والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف.
والله أعلم.

ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس.
الظاهر أن الانبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما عند رجوعه من الحضرة الالهية العظيمة، كما هي عادة الوافدين، لا يجتمعون بأحد قبل الذى طلبوا إليه.
ولهذا كان كلما مر على واحد منهم يقول له جبريل عندما يتقدم ذاك للسلام عليه: هذا فلان فسلم عليه.
فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية.
ومما يدل على ذلك أنه قال: " فلما حانت الصلاة: أممتهم " ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر، فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل، فيما يرويه عن ربه عزوجل.
فاستفاد بعضهم من هذا أن الامام الاعظم يقدم في الامامة على رب المنزل، حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم.
ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة، فأصبح بها وهو في غاية الثبات السكينة والوقار.
* * * وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والامور التى لو رآها أو بعضها غيره لاصبح مندهشا أو طائش العقل.
ولكنه صلى الله وسلم أصبح واجما، أي ساكنا، يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه.
فتلطف بإخبارهم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة.
وذلك أن أبا جهل لعنه الله، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم.
فقال له: هل من خبر ؟ فقال: نعم.
فقال: وما هو ؟

فقال: إنى أسرى بى الليلة إلى بيت المقدس.
قال: إلى بيت المقدس ؟ قال: نعم.
قال: أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم، أتخبرهم بما أخبرتني به ؟ قال: نعم.
فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم.
فقال أبو جهل: هيا معشر قريش، وقد اجتمعوا من أنديتهم.
فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به.
فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه.
فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيبا له واستبعادا لخبره، وطار الخبر بمكة.
وجاء الناس إلى أبى بكر رضى الله عنه، فأخبروه أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا.
فقال: إنكم تكذبون عليه.
فقالوا: والله إنه ليقوله.
فقال: إن كان قاله فلقد صدق.
ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله مشركو قريش، فسأله عن ذلك، فأخبره، فاستعلمه عن صفات بيت المقدس، ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به.
وفى الصحيح: أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال: فجعلت أخبرهم عن آياته، فالتبس على بعض الشئ، فجلى الله لى بيت
المقدس، حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم.
فقال: أما الصفة فقد أصاب.

وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه ماءهم.
فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه، وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه.
كما قال الله تعالى " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " أي اختبارا لهم وامتحانا.
قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى عليه وسلم.
وهذا مذهب جمهور السلف والخلف، من أن الاسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه، كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك.
ولهذا قال: " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله لنريه " والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة، فدل على أنه بالروح والجسد، والعبد عبارة عنهما.
وأيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له، إذ ليس في ذلك كبير أمر، فدل على أنه اخبرهم بأنه أسرى به يقظة لا مناما.
وقوله في حديث شريك عن أنس: " ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر " معدود في غلطات شريك، أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة.
كما سيأتي في حديث عائشة رضى الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فكذبوه، قال: " فرجعت مهموما فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ".
وفى حديث أبى أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى عليه وسلم ليحنكه
فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم

بالحديث مع الناس، فرفع أبو أسيد ابنه، ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد الصبى، فسأل عنه فقالوا رفع فسماه المنذر.
وهذا الحمل أحسن من التغليط.
والله أعلم.
* * * وقد حكى ابن إسحاق فقال: حدثنى بعض آل أبى بكر، عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه.
قال: وحدثني يعقوب بن عتبة: أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولهما، لقول الحسن: إن هذه الآية نزلت في ذلك " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس " وكما قال إبراهيم عليه السلام " يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك " وفى الحديث: " تنام عيناى (1) وقلبي يقظان ".
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى، على أي حالة كان نائما أو يقظان (2)، كل ذلك حق وصدق.
* * * قلت: وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوز كلا من الامرين من حيث الجملة، ولكن الذى لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظان لا محالة، لما تقدم.
وليس مقتضى كلام عائشة رضى الله عنها أن جسده صلى الله عليه وسلم ما فقد وإنما كان الاسراء بروحه، أن يكون مناما كما فهمه ابن إسحاق، بل قد يكون وقع
__________
(1) الاصل: عينى: وما أثبته من ابن هشام.
(2) ط: يقظانا.
وهو خطأ (*)

الاسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم، وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناما.
لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها، ومراد من تابعها على ذلك، لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام.
والله أعلم.
تنبيه: ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الاسراء طبق ما وقع بعد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحى، أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله، ليكون ذلك من باب الارهاص والتوطئة والتثبت والايناس.
والله أعلم.
ثم قد اختلف العلماء في أن الاسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة ؟ فمنهم من يزعم أن الاسراء في اليقظة، والمعراج في المنام.
وقد حكى المهلب بن أبى صفرة (1) في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الاسراء [ وقع ] مرتين، مرة بروحه مناما، ومرة ببدنه وروحه يقظة.
وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبى بكر بن العربي الفقيه.
قال السهيلي: وهذا القول يجمع الاحاديث، فإن في حديث شريك عن أنس: وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وقال في آخره: " ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر " وهذا منام.
ودل غيره على اليقظة.
ومنهم من يدعى تعدد الاسراء في اليقظة أيضا، حتى قال بعضهم: إنها أربع إسراءات.
وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة.
وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع
__________
(1) الذى في السهيلي: " ورأيت المهلب في شرح البخاري " وليس هو المهلب بن أبى صفرة الازدي أمير خرسان (*)

في روايات حديث الاسراء بالجمع المتعدد، فجعل ثلاث إسراءات مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات.
فنقول: إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات، فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات.
ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصى في كتابنا التفسير عند قوله تعالى " سبحان الذى أسرى بعبده ليلا ".
وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السموات، فلا يلزم من الحصر العقلي الوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل.
والله أعلم.
* * * والعجب أن الامام أبا عبدالله البخاري رحمه الله ذكر الاسراء بعد ذكره موت أبى طالب، فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الامر، وخالفه في ذكره بعد موت أبى طالب.
وابن إسحاق أخر ذكر موت أبى طالب على الاسراء.
فالله أعلم أي ذلك كان.
والمقصود أن البخاري فرق بين الاسراء وبين المعراج، فبوب لكل واحد منهما بابا على حدة.
فقال: " باب حديث الاسراء " وقول الله سبحانه وتعالى " سبحان الذى أسرى
بعبده ليلا " حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثنى

أبو سلمة بن عبدالرحمن، قال: سمعت جابر بن عبدالله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لما كذبتني قريش كنت (1) في الحجر، فجلى الله لى بيت المقدس، فطفقت أحدثهم (2) عن آياته وأنا أنظر إليه ".
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري، عن أبى سلمة، عن جابر به.
ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبدالله بن الفضل، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
* * * ثم قال البخاري: باب حديث المعراج: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال: " بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحجر، مضطجعا (3) إذ أتانى آت، فقد، قال (4): وسمعته يقول: فشق، ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود وهو إلى جنبى، ما يعنى به ؟ قال: من نقرة (5) نحره إلى شعرته، وسمعته يقول من قصه إلى شعرته.
" فاستخرج قلبى، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبى ثم حشى، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض ".
فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة ؟ قال أنس: نعم.
" يضع خطوه عند أقصى طرفه.
فحملت عليه، فانطلق بى جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
__________
(1) البخاري: قمت.
(2) البخاري: أخبرهم.
(3) الاصل: مضجعا.
وما أثبته من البخاري.
(4) الاصل: فقال وسمعته.
ما أثبته من صحيح البخاري 2 / 187 (5) البخاري: ثغرة.
وهى بمعنى نقرة.
(*)

ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه.
فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى إلى السماء الثانية، فاستفتح قيل من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: من ومعك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ [ قال: نعم.
] قيل: مرحبا به فنعم المجئ جاء.
ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة.
قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما.
فسلمت عليهما فردا ثم قالا: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا ؟ قال: حبرائيل.
قال: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به.
فنعم المجئ جاء.
ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه.
فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قال: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه.
فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
ثم صعد بى حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه.
فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.

ثم صعد بى حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبى الصالح.
فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك ؟ قال: أبكى لان غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى.
ثم صعد بى إلى السماء السابعة، فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به، فنعم المجئ جاء.
فلما خلصت إذا إبراهيم، قال هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلمت فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان.
فقلت: ما هذا يا جبرائيل ؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.
ثم رفع لى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن.
قال: هي الفطرة التى أنت عليها وأمتك.
ثم فرض على الصلوات، خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى
فقال: بم أمرت ؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم.
قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين

صلاة كل يوم، وإنى والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لامتك.
فرجعت فوضع عنى عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عنى عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عنى عشرا.
فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله.
فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم.
فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت ؟ فقلت: بخمس صلوات كل يوم.
قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإنى قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لامتك.
قال: سألت ربى حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم.
قال: فلما جاوزت نادانى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي ".
* * * هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا.
وقد رواه في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة.
ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبى بن كعب.
ومن حديث أنس عن أبى ذر.
ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير.
ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس، وكأن بعض الرواة يحذف بعض
الخبر للعلم به، أو ينساه أو يذكر ما هو الاهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الانفع عنده.

ومن جعل كل رواية إسراء على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جدا.
وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الانبياء، وفى كل منها يعرفه بهم، وفى كلها يفرض عليه الصلوات، فكيف يمكن أن يدعى تعدد ذلك ؟ ! هذا في غاية البعد والاستحالة.
والله اعلم.
ثم قال البخاري: حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس ".
قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس.
" والشجرة الملعونة في القرآن " قال: هي شجرة الزقوم.
فصل ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبيحة ليلة الاسراء جاءه جبرائيل عند الزوال، فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاجتمعوا، وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقتدى بجبرائيل، كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر: " أمنى جبرائيل عند البيت مرتين ".
فبين له الوقتين الاول والآخر، فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعة في وقت المغرب.
وقد ثبت ذلك في حديث أبى موسى وبريدة وعبد الله بن عمرو، وكلها في صحيح مسلم.
وموضع بسط ذلك في كتابنا " الاحكام " ولله الحمد.
فأما ما ثبت في صحيح البخاري عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
قالت: " فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ".

وكذا رواه الاوزاعي، عن الزهري، ورواه الشعبى عن مسروق عنها.
وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر، وكذا عثمان بن عفان، وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى: " وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " (1) قال البيهقى: وقد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعا، كما ذكره مرسلا من صلاته عليه السلام صبيحة الاسراء: الظهر أربعا، والعصر أربعا، والمغرب ثلاثا يجهر في الاوليين، والعشاء أربعا يجهر في الاوليين، والصبح ركعتين يجهر فيهما.
قلت: فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الاسراء تكون ركعتين ركعتين، ثم لما فرضت الخمس فرضت حضرا على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الامر عليه قديما، وعلى هذا لا يبقى إشكال بالكلية.
والله أعلم.
فصل [ في ] انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق، حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة.
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: " اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر " (2).
__________
(1) سورة النساء 101 (2) سورة القمر 1 - 3 (*) (8 - السيرة - 2)

وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الاحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها.
ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان، وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير، فذكرنا الطرق والالفاظ محررة، ونحن نشيرها هنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته.
وذلك مروى عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم أجمعين.
أما أنس فقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين.
فقال: " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
ورواه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به.
وهذا من مرسلات الصحابة، والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الجميع.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان.
زاد البخاري: وسعيد ابن أبى عروبة، وزاد مسلم: وشعبة، ثلاثتهم عن قتادة عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.
لفظ البخاري.
وأما جبير بن مطعم فقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين بن عبدالرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، [ عن أبيه ].
قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل،

وفرقة على هذا الجبل.
فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به أحمد.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره، عن حصين به.
وقد رواه البيهقى من طريق إبراهيم بن طهمان وهشيم كلاهما عن حصين بن عبدالرحمن، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده به، فزاد رجلا في الاسناد.
* * * وأما حذيفة بن اليمان فروى أبو نعيم في " الدلائل " (1) من طريق عن عطاء بن السائب عن أبى عبدالرحمن السلمى.
قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " اقتربت الساعة وانشق القمر " ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.
فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبى إلى الجمعة، فحمد الله وقال مثله وزاد: ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة.
فلما كنا في الطريق قلت لابي: ما يعنى بقوله - " غدا السباق " قال: من سبق إلى الجنة.
أما ابن عباس فقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير (2)، حدثنا بكر، عن جعفر، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ليس في دلائل النبوة المطبوع.
وفيها روايات أخرى عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس 233 - 236.
(2) الاصل: ابن كثير.
وهو تحريف وما أثبته عن صحيح البخاري 2 / 269 باب التفسير.
(*)

ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر، وهو ابن نصر، عن جعفر قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ".
قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وهكذا رواه العوفى عن ابن عباس رضى الله عنه وهو من مرسلاته.
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل، حدثنا عبد الغنى بن سعيد، حدثنا موسى بن عبدالرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس.
وعن مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والاسود ابن عبد يغوث، والاسود بن المطلب [ بن أسد بن عبدالعزى ] (1)، وزمعة بن الاسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم [ كثير ] (1).
فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبى قبيس ونصقا على قعيقعان.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إن فعلت تؤمنوا ؟ " قالوا: نعم.
وكانت ليلة بدر، فسأل الله عزوجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر قد سلب (2) نصفا على أبى قبيس ونصفا على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادى: يا أبا سلمة بن عبد الاسد والارقم بن الارقم اشهدوا.
ثم قال أبو نعيم: وحدثنا (3) سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن العباس الرازي، عن الهيثم بن العمان، حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آية
نعرف بها أنك رسول الله.
__________
(1) من دلائل النبوة 234.
(2) دلائل النبوة: قد مثل نصفا.
(3) ليس في دلائل النبوة المطبوع.
(*)

فهبط جبرائيل فقال: يا محمد قل لاهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها.
فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل، فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة، فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا، فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر راهب.
فأنزل الله: " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
ثم روى الضحاك عن ابن عباس.
قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن بها.
فسأل ربه، فأراهم القمر قد انشق بجزئين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب.
فقالوا: هذا سحر مفترى.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت: " اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ".
وهذا إسناد جيد، وفيه أنه كسف تلك الليلة، فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفى أمره على كثير من أهل الارض، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع
الارض، ويقال: إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبنى بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر.

وأما ابن عمر، فقال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد ابن الحسن القاضى، قالا: حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الاعمش، عن مجاهد به.
قال مسلم: كرواية مجاهد عن أبى معمر عن ابن مسعود.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما عبدالله بن مسعود فقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن أبى معمر، عن ابن مسعود.
قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا.
وهكذا أخرجاه من حديث سفيان، وهو ابن عيينة، به.
ومن حديث الاعمش عن إبراهيم، عن أبى معمر، عن عبدالله بن سمرة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا " وذهبت فرقة نحو الجبل.
لفظ البخاري (1).
ثم قال البخاري: وقال أبو الضحاك، عن مسروق، عن عبدالله بمكة، وتابعه محمد بن مسلم، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، عن أبى معمر، عن عبدالله رضى الله عنه.
وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبى الضحى، عن مسروق، عن عبدالله بن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبى كبشة.
فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدا لا يسطيع أن يسحر الناس كلهم.
__________
(1) ليس بلفظ البخاري.
(*)

قال: فجاء السفار فقالوا ذلك.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عبدالله، قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين.
فقال كفار قريش لاهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبى كبشة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به.
قال: فسئل السفار قال، وقدموا من كل وجهة، فقالوا: رأينا.
وهكذا رواه أبو نعيم من حديث جابر، عن الاعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق عن عبدالله به.
وقال الامام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الاسود، عن عبدالله، وهو ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتى القمر.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسباط عن سماك به.
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو بكر الطلحى، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعى، حدثنا يحيى الحمانى، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله.
قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين، فرقة خلف الجبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا، اشهدوا ".
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جعفر بن محمد القلانسى، حدثنا

آدم بن أبى إياس، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن عتبة، عن عبدالله ابن عتبة، عن ابن مسعود.
قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذى بمنى ونحن بمكة.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبى عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبدالله، قال: انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين.
ثم روى من حديث على بن سعيد بن مسروق، حدثنا موسى بن عمير، عن منصور ابن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبدالله بن مسعود، قال: رأيت القمر والله منشقا باثنتين بينهما حراء.
وروى أبو نعيم من طريق السدى الصغير، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس قال: انشق القمر فلقتين، فلقة ذهبت، وفلقة بقيت.
قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء بين فلقتى القمر، فذهب فلقة، فتعجب أهل مكة من ذلك، وقالوا: هذا سحر مصنوع سيذهب.
وقال ليث بن أبى سليم، عن مجاهد قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين.
فقال النبي صلى الله عيله وسلم لابي بكر: " فاشهد يا أبا بكر ".
وقال المشركون: سحر القمر حتى انشق.
* * * فهذه طرق متعددة قوية الاسانيد تفيد القطع لمن تأملها وعرف عدالة رجالها.
وما يذكره بعض القصاص من أن القمر سقط إلى الارض حتى دخل في كم النبي

صلى الله عليه وسلم وخرج من الكم الآخر، فلا أصل له، وهو كذب مفترى ليس بصحيح.
والقمر حين انشق لم يزايل السماء، غير أنه حين أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه.
كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك.
وما وقع في رواية أنس في مسند أحمد: " فانشق القمر بمكة مرتين " فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين.
والله أعلم.

فصل في وفاة أبى طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها.
وقيل: بل هي توفيت قبله.
والمشهور الاول.
وهذان المشفقان، هذا في الظاهر، وهذه في الباطن، هذاك كافر، وهذه مؤمنة صديقة رضى الله عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد.
فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها (1)، وبهلك عمه أبى طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه.
وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبى طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على
رأسه ترابا.
فحدثني هشام بن عروة عن أبيه، قال: فدخل رسول الله صلى عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ابن هشام: وكانت له وزير صدق على الاسلام يسكن إليها (*)

يقول: " لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك " ويقول بين ذلك: " ما نالت منى (1) قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ".
وذكر ابن إسحاق قبل ذلك: أن أحدهم ربما طرح الاذى في برمته صلى الله عليه وسلم إذا نصبت له.
قال: فكان إذا فعلوا ذلك، كما حدثنى عمر بن عبدالله عن عروة، يخرج بذلك الشئ على العود فيقذفه على بابه ثم يقول " يا بنى عبد مناف أي جوار هذا ؟ ! " ثم يلقيه في الطريق.
* * * قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريش ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبدالله بن معيد، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبى طالب وكلموه، وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم،.
فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه فخذ لنا منه
وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال: يا بن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك.
__________
(1) الاصلى: ما نالتنى.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم، كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ".
فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات.
قال: " تقولون لا إله إلا الله.
وتخلعون ما تعبدون من دونه ".
فصفقوا بأيديهم.
ثم قالوا: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلهآ واحدا ؟ إن أمرك لعجب.
قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه.
ثم تفرقوا.
قال: فقال أبو طالب: والله يا بن أخى ما رأيتك سألتهم شططا.
قال: فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فجعل يقول له: " أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ".
فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أخى والله لو لا مخافة السبة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لاسرك بها.
قال فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه.
قال: فقال: يا بن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها.
قال: فقال رسول الله صلى عليه وسلم: " لم أسمع ".
قال: وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط " ص والقرآن ذى الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق " الآيات.

وقد تكلمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.
* * * وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما بقول العباس [ في ] هذا الحديث، يا بن أخى لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها.
يعنى لا إله إلا الله.
والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن في السند مبهما لا يعرف حاله وهو قوله " عن بعض أهله " وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد.
وقد روى الامام أحمد والنسائي وابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبى أسامة، عن الاعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير.
فذكره ولم يذكر قول العباس.
ورواه الثوري أيضا، عن الاعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
فذكره بغير زيادة قول العباس.
ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن جرير أيضا.
ولفظ الحديث من سياق البيهقى، فيما رواه من طريق الثوري، عن الاعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: مرض أبو طالب، فجاءت قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم [ و ] عند رأس أبى طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كى يمنعه ذاك، وشكوه إلى أبى طالب، فقال: يا بن أخى ما تريد من قومك ؟ فقال: " يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها الجزية
العجم، كلمة واحدة ".

قال: ما هي ؟ قال: " لا إله إلا الله ".
قال: فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشئ عجاب.
قال: ونزل فيهم: " ص والقرآن ذى الذكر " الآيات إلى قوله: " إلا اختلاق ".
* * * ثم قد عارضه، أعنى سياق ابن إسحاق، ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضى الله عنه.
أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل.
فقال: " أي عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله ".
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب ؟ ! فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبدالمطلب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لاستغفرن (1) لك ما لم أنه عنك ".
فنزلت: " ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (2) " ونزلت: " إنك لا تهدى من أحببت " (3) ورواه مسلم، عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الله، عن عبد الرزاق.
وأخرجاه أيضا من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه.
وقال فيه: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان له بتلك المقالة، حتى قال آخر ما قال: على ملة عبدالمطلب.
وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما لاستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله
__________
(1) الاصل: لاستغفر.
وهو تحريف.
(2) سورة التوبة 113 (3) سورة لقصص 56.
(*)

يعنى بعد ذلك: " ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى ".
ونزل في أبى طالب: " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ".
هكذا روى الامام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، من حديث يزيد بن كيسان عن أبى حازم، عن أبى هريرة، قال: لما حضرت وفاة أبى طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا عماه، قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة ".
فقال: لو لا أن تعيرني قريش، يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت، لاقررت بها عينك ولا أقولها إلا لاقر بها عينك.
فأنزل الله عزوجل: " إنك لا تهدى من أحببت، ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ".
وهكذا قال عبدالله بن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبى وقتادة: أنها نزلت في أبى طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا إله إلا الله.
فأبى أن يقولها، وقال: هو على ملة الاشياخ.
وكان آخر ما قال: هو على ملة عبدالمطلب.
ويؤكد هذا كله ما قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن عبدالملك بن عمير، حدثنى عبدالله بن الحارث، قال: حدثنا العباس بن عبدالمطلب أنه قال: قلت للنبى صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك ؟
قال: " [ هو ] في ضحضاح من نار، ولو لا أنا لكان في الدرك الاسفل (1) ".
__________
(1) زاد في البخاري: من النار.
(*)

ورواه مسلم في صحيحه من طرق، عن عبدالملك بن عمير به.
[ و ] أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث، حدثنى ابن الهاد، عن عبدالله بن خباب، عن أبى سعيد، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه فقال: " لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه ".
لفظ البخاري.
وفى رواية " تغلى منه أم دماغه ".
وروى مسلم، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبى عثمان، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أهون أهل النار عذابا أبو طالب، منتعل بنعلين من النار يغلى منهما دماغه ".
وفى مغازى يونس بن بكير " يغلى منهما دماغه حتى يسيل على قدميه " ذكره السهيلي.
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا عمرو، هو ابن اسماعيل بن مجالد، حدثنا أبى، عن مجالد، عن الشعبى، عن جابر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قيل له: هل نفعت أبا طالب ؟ قال: " أخرجته من النار إلى ضحضاح منها ".
تفرد به البزار.
قال السهيلي: وإنما لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: " لم أسمع " لان العباس كان أذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة.
قلت: وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده.
كما تقدم.
ومما يدل على ذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبى طالب فذكر له ما تقدم.

وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة، حين لا ينفع نفسا إيمانها.
والله أعلم.
* * * وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، سمعت ناجية بن كعب يقول: سمعت عليا يقول: لما توفى أبى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك قد توفى.
فقال: " اذهب فواره " فقلت: إنه مات مشركا، فقال: " اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتى ".
ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل.
ورواه النسائي عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة.
ورواه أبو داود والنسائي من حديث سفيان، عن أبى إسحاق، عن ناجية، عن على: لما مات أبو طالب قلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، فمن يواريه ؟ قال: " اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني ".
فأتيته فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لى بدعوات ما يسرنى أن لى بهن ما على الارض من شئ.
وقال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو سعد المالينى، حدثنا أبو أحمد بن عدى، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبدالرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من (1) جنازة أبى طالب فقال: وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم ".
__________
(1) في الوفا لابن الجوزى: عارض جنازة.
وهذا ما يتفق مع قوله بعد: " ولم يقم على قبره ".
(*) (9 - السيرة - 2)

قال: وروى عن أبى اليمان الهوزنى، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وزاد: ولم يقم على قبره.
قال: وإبراهيم بن عبدالرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه.
قلت: قد روى عنه غير واحد منهم الفضل بن موسى السينانى (1)، ومحمد بن سلام البيكندى (2).
ومع هذا قال ابن عدى: ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة.
وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولاصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التى أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه، بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التى لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقارنتها ولا معارضتها.
وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه.
وفرق بين علم القلب وتصديقه.
كما قررنا ذلك في شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري.
وشاهد ذلك قوله تعالى: " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ".
وقال تعالى في قوم فرعون: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " وقال موسى
__________
(1) كان من أقران ابن المبارك في السن والعلم، ولد سنة 115 ومات سنة 191.
ونسب إلى
سينان إحدى قرى مرو.
(2) نسبة إلى بيكند، بلدة بين بخارى وجيحون.
(*)

لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإنى لاظنك يا فرعون مثبورا ".
وقول بعض السلف في قوله تعالى: " وهم ينهون عنه وينأون عنه " أنها نزلت في أبى طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.
فقد روى عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبى ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر.
والله أعلم.
والاظهر والله أعلم، الرواية الاخرى عن ابن عباس، وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به.
وبهذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد.
وهو اختيار ابن جرير.
وتوجيهه: أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين، حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به.
ولهذا قال: " ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الاولين، وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ".
وهذا اللفظ وهو قوله " وهم " يدل على أن المراد بهذا جماعة، وهم المذكورون في سياق الكلام وقوله: " وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون " يدل على تمام الذم.
وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال.

ولكن مع هذا لم يقدر الله له الايمان، لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التى يجب الايمان بها والتسليم لها.
ولو لا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين، لاستغفرنا لابي طالب وترحمنا عليه ! فصل في موت خديجة بنت خويلد وذكر شئ من فضائلها ومناقبها رضى الله عنها وأرضاها، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها.
وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق، حيث بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثنى عقيل، عن ابن شهاب قال: قال عروة بن الزبير: وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة.
ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال: توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة.
وقال محمد بن إسحاق: ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد.
وقال البيهقى: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبى طالب بثلاثة أيام.
ذكره عبدالله بن منده في كتاب المعرفة، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ.
قال البيهقى: وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة.
قلت: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الاسراء.

وكان الانسب بنا أن نذكر وفاة أبى طالب وخديجة قبل الاسراء، كما ذكره
البيهقى وغير واحد، ولكن أخرنا ذلك عن الاسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك، فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب.
كما تقف على ذلك إن شاء الله.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن عمارة، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة.
قال: أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به.
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل، قال: قلت لعبد الله بن أبى أوفى: بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ؟ قال: نعم، ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
ورواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن إسماعيل بن أبى خالد به.
قال السهيلي: وإنما بشرها " ببيت في الجنة من قصب "، يعنى قصب اللؤلؤ، لانها حازت قصب السبق إلى الايمان " لا صخب فيه ولا نصب " لانها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتعبه يوما من الدهر، فلم تصخب عليه يوما ولا آذته أبدا.
وأخرجاه في الصحيحين، من حديث هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: ما غرت على امرأة للنبى صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة - وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها.

وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدى في خلائلها منها ما يسعهن.
لفظ البخاري.
وفى لفظ عن عائشة: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه، أو جبرائيل، أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.
وفى لفظ له قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ! فيقول: " إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد ".
ثم قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا على بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاع فقال: اللهم هالة !.
[ قالت (1) ] فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر [ قد (1) ] أبدلك الله خيرا منها.
وهكذا رواه مسلم، عن سويد بن سعيد، عن على بن مسهر به.
وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة، إما فضلا وإما عشرة، إذ لم ينكر عليها ولا رد عليها ذلك، كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله.
__________
(1) من البخاري.
(*)

ولكن قال الامام أحمد: حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبدالملك - هو ابن عمير - عن موسى بن طلحة، عن عائشة قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك
النساء من الغيرة، فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين.
قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا لم أره تغير عند شئ قط إلا عند نزول الوحى أو عند المخيلة حتى يعلم رحمة أو عذابا.
وكذا رواه عن بهز بن أسد، وعثمان بن مسلم، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبدالملك بن عمير به.
وزاد بعد قوله: " حمراء الشدقين ": " هلكت في الدهر الاول ".
قال: قالت: فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحى أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذابا.
تفرد به أحمد.
وهذا إسناد جيد.
وقال الامام أحمد أيضا: عن ابن إسحاق، أخبرنا مجالد، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء.
قالت: فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها.
قال: " ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بى إذ كفر بى الناس، وصدقتني أذ كذبني [ الناس ]، وآستني بمالها أذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء ".

تفرد به أحمد أيضا.
وإسناده لا بأس به.
ومجالد روى له مسلم متابعة، وفيه كلام مشهور.
والله أعلم.
ولعل هذا، أعنى قوله: " ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء " كان قبل أن
يولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية، وقبل مقدمها بالكلية وهذا متعين فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم وكما سيأتي، من خديجة إلا إبراهيم، فمن مارية القبطية المصرية رضى الله عنها.
وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضى الله عنها وأرضاها.
وتكلم آخرون في إسناده.
وتأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة، وهو محتمل أو ظاهر، وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها: " قد أبدلك الله خيرا منها " أنها تزكى نفسها وتفضلها على خديجة، فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز وجل، كما قال: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (1) " وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكى من يشاء (3) " الآية.
* * * وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديما وحديثا، وبجانبها طرق يقتصر عليها أهل التشيع وغيرهم، لا يعدلون بخديجة أحدا من النساء: لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم، إلا إبراهيم، منها، وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها وتقدير إسلامها، وكونها من الصديقات، ولها مقام صدق في أول البعثة، وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة النجم 32.
(2) سورة النساء 49.
(*)

وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضا ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق،
ولكونها أعلم من خديجة، فإنه لم يكن في الامم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سموات، وروت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه، حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور " خذوا شطر دينكم عن الحميراء ".
* * * الحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره.
والاحسن التوقف في ذلك إلى الله عزوجل.
ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب، فذاك الذى يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم.
ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها، فالطريق الاقوم والمسلك الاسلم أن يقول: الله أعلم.
وقد روى الامام أحمد والبخاري ومسلم الترمذي والنسائي، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن جعفر، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد " أي خير زمانهما.
وروى شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية أمرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".

رواه ابن مردويه في تفسيره، وهذا إسناد صحيح إلى شعبة بعده.
قالوا: والقدر المشترك بين الثلاث نسوة، آسية ومريم وخديجة، أن كلا منهن
كفلت نبيا مرسلا، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته حين بعث.
ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل.
وخديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبذلت في ذلك أموالها، كما تقدم، وصدقته حين نزل عليه الوحى من الله عزوجل.
وقوله: " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " هو ثابت في الصحيحين من طريق شعبة أيضا، عن عمرو بن مرة، عن مرة الطيب الهمداني، عن أبى موسى الاشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وأن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " والثريد هو الخبر واللحم جميعا، وهو أفخر طعام العرب، كما قال بعض الشعراء: إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك أمانة الله الثريد ويحمل قوله: " وفضل عائشة على النساء " أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوفا يحتمل التسوية بينهن، فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج.
والله أعلم.

فصل في تزويجه عليه السلام بعد خديجة رضى الله عنها بعائشة بنت الصديق، وسودة بنت زمعة رضى الله عنهما الصحيح أن عائشة تزوجها أولا كما سيأتي.
قال البخاري في باب تزويج عائشة، حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " أريتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة (1) من حرير، ويقول (2): هذه امرأتك.
فأكشف عنها فإذا
هي أنت، فأقول إن كان هذا (3) من عند الله يمضه ".
قال البخاري: باب نكاح الابكار.
وقال ابن أبى مليكة: قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك.
حدثنا إسماعيل بن عبدالله، حدثنى أخى، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال: " في التى لم يرتع منها " تعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها.
انفرد به البخاري.
ثم قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتك في المنام فيجئ
__________
(1) السرقة: القطعة.
(2) أي جبريل.
وفى رواية: ويقال.
(3) البخاري: إن يك هذا.
(*)

بك الملك في سرقة من حرير فقال لى هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه ".
وفى رواية: " أريتك في المنام ثلاث ليال ".
وعند الترمذي أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
وقال البخاري: [ باب ] تزويج الصغار من الكبار، حدثنا عبدالله بن يوسف، حدثنا الليث عن يزيد، عن عراك، عن عروة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبى بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك.
فقال: " أنت أخى في دين الله وكتابه، وهى لى حلال ".
هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل، وهو عند البخاري والمحققين متصل، لانه من حديث عروة عن عائشة رضى الله عنها، وهذا من أفراد البخاري رحمه الله.
وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
قال: تزوج رسول الله صلى الله عيله وسلم عائشة بعد خديجة بثلاث سنين، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين، وبنى بها وهى ابنة تسع، ومات رسول الله صلى عليه وسلم وعائشة ابنة ثمانى عشرة سنة.
وهذا غريب.
وقد روى البخاري عن عبيد بن إسماعيل، عن أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك، ونكح عائشة وهى بنت ست سنين، ثم بنى بها وهى بنت تسع سنين.

وهذا الذى قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا، ولكنه في حكم المتصل في نفس الامر.
وقوله: " تزوجها وهى ابنة ست سنين، وبنى بها وهى ابنة تسع " ما لا خلاف فيه بين الناس، وقد ثبت في الصحاح وغيرها.
وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة.
وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو من ثلاث سنين ففيه نظر.
فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة وأنا ابنة سبع أو ست سنين، فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فهيأننى وصنعننى ثم أتين بى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم [ فبنى بى ].
وأنا ابنة تسع سنين.
فقوله في هذا الحديث: " متوفى خديجة ".
يقتضى أنه على أثر ذلك قريبا، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة، فلا ينفى ما ذكره يونس بن بكير وأبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه.
والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا فروة بن أبى المغراء، حدثنا على بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بنى الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعرى وقد وفت لى جميمة، فأتتنى أمي أم رومان وإنى لفى أرجوحة ومعى صواحب لى، فصرخت بى فأتيتها ما أدرى ما تريد منى، فأخذت بيدى حتى أوقفتني على باب الدار، وإنى لانهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهى ورأسي، ثم أدخلتني

الدار.
قال: فإذا نسوة من الانصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر.
فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني، فلم يرعنى إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمننى إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين.
وقال الامام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو [ حدثنا ] أبو سلمة ويحيى، قالا: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال: من ؟ قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا.
قال: فمن البكر ؟ قالت أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبى بكر.
قال: ومن الثيب ؟ قالت سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك.
قال: فاذهبي فاذكريهما على.
فدخلت بيت أبى بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة !
قالت: وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انظري أبا بكر حتى يأتي.
فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة ! قال: وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة.
قال: وهل تصلح له ؟ إنما هي ابنة أخيه.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال: " ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخى في الاسلام وابنتك تصلح لى ".
فرجعت فذكرت ذلك له قال: انتظري، وخرج.
قالت أم رومان: إن مطعم بن عدى قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه.

فدخل أبو بكر على مطعم بن عدى وعنده امرأته أم الصبى.
فقالت: يا ابن أبى قحافة لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذى أنت عليه إن تزوج إليك ؟ ! فقال أبو بكر للمطعم بن عدى أقول هذه تقول ؟ [ قال: ] (1) إنها تقول ذلك.
فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التى وعده.
فرجع فقال لخولة: ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين.
ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة ؟ ! قالت: وما ذاك ؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه.
قالت: وددت، ادخلي إلى أبى بكر فاذكري ذلك له، وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج، فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه ؟ قالت: خولة بنت حكيم.
قال: فما شأنك ؟ قالت: أرسلني محمد بن عبدالله أخطب عليه سودة.
فقال: كفء كريم، ما تقول صاحبتك ؟ قالت: تحب ذلك.
قال ادعيها إلى.
فدعتها
قال: أي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك به ؟ قالت: نعم.
قال: ادعيه لى.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه.
فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج، فجاء يحثى على رأسه التراب.
فقال بعد أن أسلم: لعمرك إنى لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة ! قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بنى الحارث بن الخزرج في السنح.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الانصار
__________
(1) من المسند 6 / 211 (*)

ونساء، فجاءتني أمي وإنى لفى أرجوحة بين عذقين يرجح بى، فأنزلتنى من الارجوحة ولى جميمة ففرقتها ومسحت وجهى بشئ من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بى عند الباب، وإنى لانهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بى فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الانصار، فأجلستني في حجره ثم قالت: هؤلاء أهلك، فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك.
فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ما نحرت على جزور، ولا ذبحت على شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه.
وأنا يومئذ ابنة تسع سنين.
وهذا السياق كأنه مرسل، وهو متصل.
لما رواه البيهقى من طريق أحمد بن عبد الجبار، حدثنا عبدالله بن إدريس الازدي، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، قال: قالت عائشة: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت: يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال: ومن ؟ قالت:
إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.
قال: من البكر ومن الثيب ؟ قالت: أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك، وأما الثيب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك.
قال فاذكريهما على وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم.
وهذا يقتضى أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة.
ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم وكما سيأتي.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة

قالت: لما كبرت سودة وهبت يومها لى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لى بيومها مع نسائه.
قالت: وكانت أول امرأة تزوجها بعدى.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبدالحميد، حدثنى شهر، حدثنى عبدالله بن عباس، أن رسول الله صلى عليه وسلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة وكانت مصبية، كان لها خمس صبية أو ست من بعلها مات: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما يمنعك منى ؟ " قالت: والله يا نبى الله ما يمنعنى منك أن لا تكون أحب البرية إلى، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية.
قال: فهل منعك منى غير ذلك ؟ قالت: لا والله.
قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله ! إن خير نساء ركبن أعجاز الابل، صالح ؟ نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده.
قلت: وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم، ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضى الله عنه.
هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة، وهو قول عبدالله بن محمد بن عقيل.
ورواه يونس عن الزهري.
واختار ابن عبد الير أن العقد على سودة قبل عائشة، وحكاه عن قتادة وأبى عبيد.
قال: ورواه عقيل عن الزهري.
(10 - السيرة - 2)

فصل قد تقدم ذكر موت أبى طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ناصرا له وقائما في صفه ومدافعا عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال.
فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه.
كما قد رواه البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعانى، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبدالله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبدالله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكى، فجعل يقول: " أي بنية لا تبكى، فإن الله مانع أباك ".
ويقول ما بين ذلك: " ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا ".
وقد رواه زياد البكائى، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلا.
والله أعلم.
وروى البيهقى أيضا عن الحاكم وغيره، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن
يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما زالت قريش كاعين (1) حتى مات أبو طالب ".
__________
(1) كاعين: جبناء (*)

ثم رواه عن الحاكم، عن الاصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، حدثنا عقبة المجدر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما زالت قريش كاعة حتى توفى أبو طالب ".
وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزى بسنده عن ثعلبة بن صقير (1) وحكيم بن حزام، أنهما قالا: لما توفى أبو طالب وخديجة، وكان بينهما خمسة أيام، اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه.
فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد امض لما أردت، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت.
وسب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح: يا معشر قريش صبأ أبو عتبة.
فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبى لهب فقال: ما فارقت دين عبدالمطلب.
ولكني أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد.
فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم.
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب، إذ جاء عقبة بن أبى معيط وأبو جهل إلى أبى لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟ فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبدالمطلب ؟ قال: مع قومه.
فخرج إليها فقال:
قد سألته فقال: مع قومه.
فقالا: يزعم أنه في النار !
__________
(1) الاصل: صعير.
وهو تحريف.
وما أثبته من الوفا لابن الجوزى 210.
(*)

فقال: يا محمد أيدخل عبدالمطلب النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن مات على ما مات عليه عبدالمطلب دخل النار.
فقال أبو لهب - لعنه الله -: والله لا برحت لك إلا عدوا (1) أبدا وأنت تزعم أن عبدالمطلب في النار.
واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه.
* * * قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن أبى معيط، وعدى بن الحمراء، وابن الاصداء الهذلى.
وكانوا جيرانه، لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبى العاص.
وكان أحدهم، فيما ذكر لى، يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه ثم يقول: يا بنى عبد مناف أي جوار هذا ؟ ثم يلقيه في الطريق.
قلت: وعندي أن غالب ما روى مما تقدم - من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلى، كما رواه ابن مسعود، وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم كما تقدم.
وكذلك ما أخبر به عبدالله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقا شديدا،
__________
(1) ابن الجوزى: لا برحت لك عدوا، وهى كذلك في طبقات ابن سعد (*)

حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلا: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ! وكذلك عزم أبى جهل، لعنه الله، على أن يطأ على عنقه وهو يصلى فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك - كان بعد وفاة أبى طالب والله أعلم.
فذكرها ههنا أنسب وأشبه.
فصل في ذهابه عليه السلام إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله تعالى، وإلى نصرة دينه، فردوا عليه ذلك ولم يقبلوا، فرجع عنهم إلى مكة قال ابن إسحاق: فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبى طالب.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى.
فخرج إليهم وحده فحدثني يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن كعب القرظى، قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وعمد إلى نفر من ثقيف وهم سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة، عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة ابن عوف بن ثقيف.
وعند أحدهم امرأة من قريش من بنى جمح.
فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الاسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك ؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لانت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم، فيما ذكر لى، إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على.
وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه.
فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه.
فعمد إلى ظل حبلة (1) من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.
وقد لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر لى، المرأة التى من بنى جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك ! فلما اطمأن قال فيما ذكر: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمرى ؟ ! إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى، ولكن عافيتك هي أوسع لى.
أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بى غضبك أو تحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة ألا بك ".
قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقى تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس [ وقالا له ] خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه.
__________
الحبلة: الكرمة.
[ * ]

ففعل عداس، ثم ذهب به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له كل.
فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: " بسم الله " ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك ؟ قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذلك أخى كان نبيا وأنا نبى.
فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك.
فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس ! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال: يا سيدى ما في الارض شئ خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبى.
قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
* * * وقد ذكر موسى بن عقبه نحوا من هذا السياق، إلا أنه لم يذكر الدعاء وزاد: وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة

وهو مكروب، وفى ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.
ثم ذكر قصة عداس النصراني، كنحو ما تقدم.
وقد روى الامام أحمد، عن أبى بكر ابن أبى شيبة، حدثنا مروان بن معاوية الفزارى، عن عبدالله بن عبدالرحمن الطائفي، عن عبدالرحمن بن خالد بن أبى جبل العدواني، عن أبيه، أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى، حين أتاهم يبتغى عندهم النصر، فسمعته يقول: " والسماء والطارق " حتى ختمها.
قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الاسلام.
قال: فدعتنى ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه.
وثبت في الصحيحين، من طريق عبدالله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال: " ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أطلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم.
ثم نادانى ملك الجبال فسلم على ثم قال: يا محمد قد بعثنى الله، إن الله قد سمع قول

قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثنى إليك ربك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق
عليهم الاخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ".
فصل وقد ذكر محمد بن اسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة وصلى بأصحابه الصبح، فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك.
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر، وأنزل الله تعالى فيهم قوله: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ".
قلت: وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير، وتقدم قطعة من ذلك، والله أعلم.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدى، وازداد قومه عليه حنقا وغيظا وجرأة وتكذيبا وعنادا.
والله المستعان وعليه التكلان.
وقد ذكر الاموى في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أريقط إلى الاخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة، فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها.
ثم بعثه إلى سيهل بن عمرو ليجيره فقال: إن بنى عامر بن لؤى لا تجير على بنى كعب بن لؤى.

فبعثه إلى المطعم بن عدى ليجيره فقال: نعم، قل له فليأت.
فذهب إليه رسول الله صلى عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة أو سبعة متقلدى السيوف جميعا، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: طف.
واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف.
فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال: أمجير أو تابع ؟ قال: لا بل مجير.
قال: إذا لا تخفر.
فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه.
وذهب أبو سفيان إلى مجلسه.
قال: فمكث أياما ثم أذن له في الهجرة.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة توفى مطعم بن عدى بعده بيسير، فقال حسان بن ثابت: والله لارثينه.
فقال فيما قال: فلو كان مجد مخلد اليوم واحدا * من الناس نحى مجده اليوم مطعما أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبادك ما لبى محل وأحرما فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقى بقية جرهما لقالوا: هو الموفى بخفرة جاره * وذمت يوما إذا ما تجشما وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم * على مثله فيهم أعز وأكرما إباء إذا يأبى وألين شيمة * وأنوم عن جار إذا الليل أظلما قلت: ولهذا قال النى صلى الله عليه وسلم يوم أسارى بدر: " لو كان المطعم بن عدى حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى (1) لوهبتهم له ".
__________
(1) المطبوعة: النقباء.
وهو تحريف شنيع أعان عليه كتابتها في الاصل بالالف بلا نقط والرواية كما في الوفا والمواهب: ثم كلمني في هؤلاء النتنى لاطلقتهم له.
وسماهم نتنى لكفرهم.
كما في النهاية.
(*)

فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب في مواسم الحج أن يؤووه وينصروه ويمنعوه ممن كذبه وخالفه،
فلم يجبه أحد منهم لما ذخره الله تعالى للانصار من الكرامة العظيمة رضى الله عنهم قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عزوجل، ويخبرهم أنه نبى مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.
قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدؤلى (1)، ومن حدثه أبو الزناد عنه، وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبى، قال: إنى لغلام شاب مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: " يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الانداد، وأن تؤمنوا بى وتصدقوا بى، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثنى به ".
__________
(1) ويقال فيه الديلى.
(*)

قال: وخلفه رجل أحول وضئ له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بنى فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بنى مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
قال: فقلت لابي: يا أبت من هذا الرجل الذى يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال: هذا عمه عبدالعزى بن عبدالمطلب أبو لهب.
وقد روى الامام أحمد هذا الحديث، عن إبراهيم بن أبى العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن أبيه أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا فأسلم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ورواه البيهقى، من طريق محمد بن عبدالله الانصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد ابن المنكدر، عن ربيعة الديلى: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت: من هذا ؟ قالوا هذا أبو لهب.
وكذا رواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن أبى ذئب وسعيد بن سلمة بن أبى الحسام، كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه.
ثم رواه البيهقى من طريق شعبة، عن الاشعث بن سليم، عن رجل من كنانة

قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " وإذا رجل خلفه يسفى عليه التراب، فإذا هو أبو جهل وهو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.
كذا قال في هذا السياق: " أبو جهل " وقد يكون وهما، ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إيذائه صلى الله عليه وسلم * * *
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبدالرحمن بن [ عبدالله بن ] (1) حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبدالله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: " يا بنى عبدالله إن الله قد أحسن اسم أبيكم " فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
وحدثني بعض أصحابنا عن عبدالله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بنى حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم.
وحدثني الزهري أنه أتى بنى عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه.
فقال له رجل منهم يقال له بيحرة (2) بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل بحيرة.
وما أثبته من ابن هشام والروض الانف.
(*)

من قريش لاكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الامر من بعدك ؟ قال: " الامر لله يضعه حيث يشاء ".
قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الامر لغيرنا ! لا حاجة لنا بأمرك.
فأبوا عليه.
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم
أحد بنى عبدالمطلب، يزعم أنه نبى يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.
قال: فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بنى عامر هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب ؟ والذى نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلى قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم ! * * * وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: " لا أكره أحدا منكم على شئ، من رضى منكم بالذى أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لى من القتل حتى أبلغ رسالة ربى، وحتى يقضى الله لى ولمن صحبني بما شاء.
فلم يقبله أحد منهم، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه !

وكان ذلك مما ذخره الله للانصار وأكرمهم به.
وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبدالله بن الاجلح ويحيى بن سعيد الاموى، كلاهما عن محمد بن السائب الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، عن العباس.
قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أرى لى عندك ولا عند أخيك منعة، فهل أنت مخرجى إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس " وكانت مجمع العرب.
قال: فقلت: هذه كندة ولفها، وهى أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بنى عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك.
قال: فبدأ بكندة فأتاهم فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من أهل اليمن.
قال: من أي اليمن ؟ قالوا: من كندة قال: من أي كندة ؟ قالوا: من بنى عمرو بن معاوية.
قال: فهل لكم إلى خير ؟ قالوا: وما هو ؟ قال: " تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله ".
قال عبدالله بن الاجلح: وحدثني أبى عن أشياخ قومه، أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملك لله يجعله حيث يشاء ".
فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به.
وقال الكلبى: فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.

فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من بكر بن وائل.
فقال: من أي بكر بن وائل ؟ قالوا: من بنى قيس بن ثعلبة.
قال: كيف العدد ؟ قالوا: كثير مثل الثرى.
قال: فكيف المنعة ؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس، فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم.
قال: " فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين ؟ ".
قالوا: ومن أنت ؟ قال: أنا رسول الله.
ثم انطلق.
فلما ولى عنهم، قال الكلبى: وكان عمه أبو لهب يتبعه، فيقول للناس لا تقبلوا
قوله.
ثم مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل ؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا، فعن أي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا: زعم أنه رسول الله.
قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذى من أم رأسه.
قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر ! * * * قال الكلبى: فأخبرني عبدالرحمن العامري (1)، عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ، فقال: ممن القوم ؟ قلنا:
__________
(1) الاصل: المعايرى.
وما أثبته من دلائل النبوة لابي نعيم 243.
(*)

من بنى عامر بن صعصعة.
قال: من أي بنى عامر بن صعصعة ؟ قالوا (1): بنو كعب بن ربيعة.
قال كيف المنعة [ فيكم ] (2) ؟ قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يصطلى بنارنا.
قال: فقال لهم: إنى رسول الله، وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربى، ولا أكره أحدا منكم على شئ.
قالوا: ومن أي قريش أنت ؟ قال: من بنى عبدالمطلب.
قالوا: فاين أنت من عبد مناف ؟ قال: هم أول من كذبني وطردني.
قالوا: ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك.
قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة (3) بن فراس القشيرى، فقال: من هذا الرجل أراه عندكم أنكره ؟ قالوا: محمد بن عبدالله القرشى.
قال: فما لكم وله ؟ قالوا: زعم لنا أنه رسول الله فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.
قال: ماذا رددتم عليه ؟ قالوا: بالترحيب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا.
قال بيحرة (3): ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشئ أشد من شئ ترجعون به، بدأتم (4) لتنابذوا النا س وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه ؟ فبئس الرأى رأيتم.
__________
(1) الدلائل: قلنا.
(2) من الدلائل.
(3) الاصل: بحيرة.
وما أثبته عن أبن هشام والسهيلى والطبري.
(4) المطبوعة: بدءا ثم.
وهو تحريف وما أثبته من الدلائل.
(*) (11 - السيرة 2)

ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم فالحق بقومك، فو الله لو لا أنك عند قومي لضربت عنقك.
قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته.
وعند بنى عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتى أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بنى عمها، فقالت: يا آل عامر، ولا عامر لى ! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم ! فقام ثلاثة من بنى عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الارض ثم جلس على صدره، ثم علوا وجوههم لطما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء ".
قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء، وهم: غطيف (1) وغطفان ابنا سهل، وعروة، أو عذرة بن عبدالله بن سلمة.
رضى الله عنهم.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الاموى في مغازيه، عن أبيه به.
وهلك الآخرون وهم، بيحرة بن فراس، وحزن بن عبدالله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بنى عقيل، لعنهم الله لعنا كثيرا.
وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته.
والله أعلم.
* * *
__________
(1) الدلائل: غطريف (*)

وقد روى أبو نعيم له شاهدا من حديث كعب بن مالك رضى الله عنه، في قصة عامر ابن صعصعة وقبيح ردهم عليه.
وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي، والسياق لابي نعيم رحمهم الله، من حديث أبان بن عبدالله البجلى، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس، حدثنى على بن أبى طالب، قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب.
فتقدم أبو بكر رضى الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة، فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من ربيعة.
قال: وأى ربيعة أنتم أمن هامها أم لهازمها ؟ قالوا: بل من هامها العظمى.
قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى ؟ فقال: ذهل الاكبر.
قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذى كان يقال: لا حر بوادي عوف ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء (1) ومنتهى الاحياء ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم جساس بن مرة بن ذهل، حامى الذمار ومانع الجار ؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا: لا.
قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا: لا.
قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا: لا.
قال لهم أبو بكر رضى الله عنه: فلستم بذهل الاكبر، بل أنتم ذهل الاصغر.
__________
(1) دلائل النبوة لابي نعيم: أبو الملوك.
(*)

قال: فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلى، حين بقل وجهه، فأخذ بزمام ناقة أبى بكر وهو يقول: إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا نعرفه أو نحمله يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، ونحن نريد أن نسألك، فمن أنت ؟ قال: رجل من قريش.
فقال الغلام: بخ بخ: أهل السؤدد والرئاسة، قادمة العرب وهاديها (1) فمن أنت من قريش ؟ فقال له: رجل من بنى تيم بن مرة.
فقال له الغلام: أمكنت والله الرامى من سواء الثغرة ! أفمنكم قصى بن كلاب الذى قتل بمكة المتغلبين عليها، وأجلى بقيتهم وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار وأنزل قريشا منازلها، فسمته العرب بذلك مجمعا، وفيه يقول الشاعر: أليس أبوكم كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر.
فقال أبو بكر: لا قال: فمنكم عبد مناف الذى انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة ؟ فقال أبو بكر: لا.
قال: فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم، الذى هشم الثريد لقومه ولاهل مكة، ففيه يقول الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف سنوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الاصياف
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمح خالصة لعبد مناف
__________
(1) الدلائل: أزمة العرب وهداتها.
(*)

الرائشين وليس يعرف رائش * والقائلين هلم للاضياف والضاربين الكبش يبرق بيضه * والمانعين البيض بالاسياف لله درك لو نزلت بدارهم * منعوك من أزل ومن إقراف (1) فقال أبو بكر: لا.
قال: فمنكم عبد المطب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، مطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا، الذى كأن وجهه قمر يتلالا في الليلة الظلماء ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الافاضة أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل أهل الندوة أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال: لا.
قال: فمن المفيضين أنت ؟ قال: لا.
ثم جذب أبو بكر رضى الله عنه زمام ناقته من يده، فقال له الغلام: صادف در السيل در يدفعه * يهيضه حينا وحينا يرفعه (3) ثم قال: أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب.
قال: فأقبل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، قال على: فقلت له: يا أبا بكر لقد وقعت من الاعرابي على باقعة (3): فقال: أجل يا أبا الحسن، إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول.
__________
(1) الازل: الطيق والشدة.
والاقراف: التهمة.
(2) الدلائل: صادف درء السيل سيلا يدفعه * يهضبه حينا وحينا يصدعه
(3) الباقعة: الرجل الداهية.
(*)

قال: ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم.
قال على: وكان أبو بكر مقدما في كل خير.
فقال لهم أبو بكر: ممن القوم ؟ قالوا من بنى شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمى ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم.
وفى رواية: ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.
وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك.
وكان أقرب القوم إلى أبى بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلسا من أبى بكر.
فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم ؟ فقال له: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة.
فقال له: فكيف المنعة فيكم ؟ فقال: علينا الجهد ولكل قوم جد.
فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ فقال مفروق: إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الاولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا [ مرة ] (1)، لعلك أخو قريش ؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا.
فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك.
__________
(1) من الدلائل.
(*)

ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فقال: إلام تدعو يا أخا قريش ؟ (1) فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال صلى الله عليه وسلم: " أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله، وأن تؤوونى وتنصروني حتى أؤدى عن الله الذى أمرنى به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنى الحميد ".
قال له: وإلام ما تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم: ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " إلى قوله " ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ".
فقال له مفروق: وإلام ما تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الارض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، يعظكم لعلكم تذكرون ".
فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لم نتفكر في أمرك وننظر في عاقبة ما تدعو إليه، زلة في الرأى، وطيشة في العقل،
__________
(1) سقطت من الاصل، وأثبتها من دلائل النبوة.
(*)

وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا.
ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة، وتركنا ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، وإنا إنما نزلنا بين صريين احدهما اليمامة، والآخر السماوة (1).
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما هذان الصريان ؟ فقال له: أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوى محدثا، ولعل هذا الامر الذى تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلى بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان [ مما ] يلى بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول.
فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلى العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال له النعمان بن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش ! فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ".
__________
(1) اللسان 19 / 192: " وإنما نزلنا الصريين اليمامة والسمامة هما تثنية صرى.
وهو كل ماء مجتمع " (*)

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يدى أبى بكر.
قال على: ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا على أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية، ما أشرفها ! بها يتحاجزون في الحياة الدنيا.
قال: ثم دفعنا إلى مجلس الاوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال على: وكانوا صدقاء صبراء، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة أبى بكر رضى الله عنه بأنسابهم.
قال: فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: " احمدوا الله كثيرا، فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبى نصروا ".
قال: وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذى قار، وفيها يقول الاعشى: فدى لبنى ذهل بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلت هم ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت فلله عينا من رأى من فوارس * كذهل بن شيبان بها حين ولت فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت هذا حديث غريب جدا، كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الاخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب.
وقد ورد هذا من طريق أخرى، وفيه أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر، مكان قريب من الفرات، جعلوا شعارهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الاسلام.
__________
(1) الحنو: كل منعرج وكل شئ فيه اعوجاج.
ويوم الحنو من أيام العرب.
(*)

وقال الواقدي: أخبرنا عبدالله بن وابصة العبسى، عن أبيه، عن جده قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى، ونحن نازلون بإزاء الجمرة الاولى التى تلى مسجد الخيف وهو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة، فدعانا فو الله ما استجبنا له ولا خير لنا.
قال: وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسى، فقال لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأى، فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ.
فقال القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به.
وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميسرة، فكلمه، فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني، وإنما الرجل بقومه، فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم.
فقال لهم ميسرة: ميلوا نأتى فدك فإن بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل.
فمالوا إلى يهود فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الامي العربي يركب الحمار ويجتزئ بالكسرة، ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينيه حمرة، مشرق اللون.
فإن كان هو الذى دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه، فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا [ منه ] في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه.
فقال ميسرة: يا قوم ألا [ إن ] هذا الامر بين.

فقال القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم، فلم يتبعه أحد منهم.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه.
فقال: يا رسول الله والله ما زلت حريصا على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان، وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامى، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معى، فأين مدخلهم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل من مات على غير دين الاسلام فهو في النار.
فقال: الحمد لله الذى أنقذني.
فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبى بكر مكان.
وقد استقصى الامام محمد بن عمر الواقدي فقص [ خبر ] القبائل واحدة واحدة فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بنى عامر وغسان وبنى فزارة وبنى مرة وبنى حنيفة وبنى سليم وبنى عبس وبنى نضر بن هوازن، وبنى ثعلبة بن عكابة، وكندة وكلب وبنى الحارث بن كعب وبنى عذرة وقيس بن الحطيم وغيرهم.
وسياق أخبارها مطولة، وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا ولله الحمد والمنة.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل، عن عثمان، يعنى ابن المغيرة، عن سالم بن أبى الجعد، عن جابر بن عبدالله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف (1)، فيقول: " هل من رجل يحملنى إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربى عزوجل ؟ ".
__________
(1) أي موقف الناس بعرفة.
(*)

فأتاه رجل من همدان فقال: ممن أنت ؟ قال الرجل: من همدان.
قال: فهل عند قومك من منعة ؟ قال: نعم !
ثم إن الرجل خشى أن يخفره قومه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل.
قال نعم.
فانطلق، وجاء وفد الانصار في رجب.
وقد رواه أهل السنن الاربعة من طرق، عن إسرائيل به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

فصل [ في ] قدوم وفد الانصار عاما بعد عام حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة بعد بيعة، ثم بعد ذلك تحول إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فنزل بين أظهرهم كما سيأتي بيانه وتفصيله إن شاء الله وبه الثقة.
حديث سويد بن صامت الانصاري وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك ابن الاوس وأمه ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبدالمطلب بن هاشم.
فسويد هذا ابن خالة عبدالمطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره، كلما أجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الاسلام، ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده.
قال ابن إسحاق: حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه.
قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بنى عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذى يقول: ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشهد ما كان شاهدا * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبترى عقب الظهر

تبين لك العينان ما هو كاتم * من الغل والبغضاء بالنظر الشزر فرشني بخير طالما قد بريتنى * وخير الموالى من يريش ولا يبرى قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله والاسلام، فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذى معك ؟ قال مجلة لقمان.
يعنى حكمة لقمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها على.
فعرضها عليه، فقال: " إن هذا الكلام حسن، والذى معى أفضل من هذا، قرآن أنزله الله على هو هدى ونور ".
فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الاسلام، فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن.
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم.
وكان قتله قبل بعاث.
وقد رواه البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا.
إسلام إياس بن معاذ قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبوالحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بنى عبد الاشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج،

سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال: " هل لكم في خير مما جئتم له " ؟ قال قالوا: وما ذاك ؟ قال: أنا رسول الله إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل على الكتاب.
ثم ذكر لهم الاسلام وتلا عليهم القرآن.
قال: فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له.
فأخذ أبوالحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا.
قال: فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الاوس والخزرج.
قال ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الاسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.
قلت: كان يوم بعاث، وبعاث موضع بالمدينة، كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الاوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل.
وقد روى البخاري في صحيحه، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبى أمامة، عن هشام، عن أبيه عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد افترق ملؤهم وقتل سراتهم.

باب بدء إسلام الانصار رضى الله عنهم
قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذى لقيه فيه النفر من الانصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم.
فبينا هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.
فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه.
قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " من أنتم ؟.
قالوا: نفر من الخزرج قال: أمن موالى يهود ؟ قالوا: نعم.
قال: أفلا تجلسون أكلمكم ؟.
قالوا: بلى.
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن.
قال: وكان مما صنع الله بهم في الاسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذى توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.
فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام وقالوا

إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لى ستة نفر كلهم من الخزرج، وهم: أبو أمامة
أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار.
قال أبو نعيم: وقد قيل إنه أول من أسلم من الانصار من الخزرج.
ومن الاوس: أبو الهيثم بن التيهان، وقيل إن أول من أسلم رافع بن مالك، ومعاذ ابن عفراء والله أعلم.
وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وهو ابن عفراء، النجاريان، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن زريق الزرقى.
وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن يزيد (1) بن جشم بن الخزرج السلمى، ثم من بنى سواد، وعقبة بن عامر بن نابى بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة السلمى أيضا، ثم من بنى حرام.
وجابر بن عبدالله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدى ابن غنم بن كعب بن سلمة السلمى أيضا، ثم من بنى عبيد رضى الله عنهم.
وهكذا روى عن الشعبى والزهرى وغيرهما أنهم كانوا ليلتئذ ستة نفر من الخزرج.
وذكر موسى بن عقبة فيما رواه عن الزهري وعروة بن الزبير أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية وهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك،
__________
(1) ابن هشام: تزيد بالتاء.
(*) (12 - السيرة 2)

وذكوان، وهو ابن عبد قيس، وعبادة بن الصامت، وأبو عبدالرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة.
فأسلموا وواعدوه إلى قابل.
فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الاسلام، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا يفقهنا.
فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة.
وذكر تمام القصة كما سيوردها ابن اسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الاسلام، حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله وسلم.
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الانصار اثنا عشر رجلا وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدم، وأخوه معاذ وهما ابنا عفراء، ورافع بن مالك المتقدم أيضا، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر ابن زريق الزرقى.
قال ابن هشام: وهو أنصارى مهاجري.
وعبادة بن الصامت بن قيس ابن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوى، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني، وعقبة بن عامر بن نابى المتقدم، وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم.

فهؤلاء عشرة من الخزرج.
ومن الاوس اثنان وهما: عويم بن ساعدة، وأبو الهيثم مالك بن التيهان.
قال ابن هشام التيهان يخفف ويثقل كميت وميت.
قال السهيلي: أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعور بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس.
قال: وقيل إنه إراشى وقيل بلوى.
وهذا لم ينسبه ابن إسحاق ولا ابن هشام.
قال: والهيثم فرخ العقاب، وضرب من النبات.
والمقصود أن هؤلاء الاثنى عشر رجلا شهدوا الموسم عامئذ، وعزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء وهى العقبة الاولى.
وروى أبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا " إلى آخرها.
وقال ابن إسحاق: حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن مرثد بن عبدالله اليزنى، عن عبدالرحمن بن عسيلة الصنابحى، عن عبادة، وهو ابن الصامت، قال: كنت ممن حضر العقبة الاولى، وكنا أثنى عشر رجلا: فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.
فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب به نحوه.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ الله أبى إدريس الخولانى، أن عبادة بن الصامت حدثه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الاولى ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق عن الزهري به نحوه.
وقوله: " على بيعة النساء " يعنى على وفق ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية، وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة.
وليس هذا عجيبا، فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن، كما بيناه في سيرته وفى التفسير.
وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحى غير متلو فهو أظهر.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين.
وقد روى البيهقى عن ابن إسحاق قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وهو الذى ذكره موسى بن عقبة كما تقدم، إلا أنه جعل المرة الثانية هي الاولى.
قال البيهقى: وسياق ابن إسحاق أتم.
وقال ابن إسحاق: فكان عبدالله بن أبى بكر يقول: لا أدرى ما العقبة الاولى.
ثم يقول ابن إسحاق: بلى لعمري قد كانت عقبة وعقبة.

قالوا كلهم: فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، فكان يسمى بالمدينة المقرئ.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان يصلى بهم، وذلك أن الاوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضى الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبى أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبى حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الاذان بها صلى على أبى أمامة.
أسعد بن زرارة.
قال: فمكث حينا على ذلك، لا يسمع لاذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له.
قال: فقلت في نفسي والله إن هذا بى لعجز، ألا أسأله ؟ فقلت: يا أبت ما لك إذا سمعت الاذان للجمعة صليت على أبى أمامة ؟ فقال: أي بنى كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت (1) من حرة بنى بياضة في بقيع يقال له: بقيع (2) الخضمات.
قال: قلت: وكم أنتم يومئذ ؟ قال: أربعون رجلا.
وقد روى هذا الحديث أبو داود وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق رحمه الله.
وقد روى الدار قطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفى إسناده غرابة والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبى بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بنى عبد الاشهل ودار بنى ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل
__________
(1) ا: هزم الحرة.
وهزم النبيت: جبل على بريد من المدينة.
(2) ابن هشام: نقيع وهى رواية أصوب.
(*)

به حائطا من حوائط بنى ظفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم.
وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير يومئذ سيدا قومهما من بنى عبد الاشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه.
فلما سمعا به قال سعد لاسيد: لا أبا لك ! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لو لا أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.
قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكلمه.
قال فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد (1) الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه.
قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره.
قال: أنصفت.
قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالاسلام وقرأ عليه القرآن.
فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله.
ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى.
__________
(1) الاصل: الوعيد.
(*)

فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد ابن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم.
فلما وقف على النادى قال له سعد: ما فعلت ؟ قال: كلمت الرجلين، فو الله ما رأيت
بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت.
وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك.
قال: فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذى ذكر له من بنى حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا.
ثم خرج إليهما سعد، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتما ثم قال لاسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة والله لو لا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت هذا منى، أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه [ من ] (1) قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.
قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الاسلام وقرأ عليه القرآن.
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
وأثبتها من ا.
(*)

وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف.
قال: فعرفنا والله في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله.
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين.
قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق، ثم نصلى ركعتين.
قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين.
ثم أخذ حربته، فأقبل عائدا إلى نادى قومه ومعه أسيد بن الحضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم.
فلما وقف عليهم قال: يا بنى عبد الاشهل كيف تعلمون أمرى فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة.
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فو الله ما أمسى في دار بنى عبد الاشهل رجل ولا أمرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الاسلام، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
إلا ما كان من دار بنى أميه بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس، وهم من الاوس بن حارثة.
وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الاسلت واسمه صيفي.
وقال الزبير بن بكار: اسمه الحارث.
وقيل عبيد الله.
واسم أبيه الاسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الاوس.
وكذا نسبه الكلبى أيضا وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الاسلام حتى كان بعد الخندق.

قلت: وأبو قيس بن الاسلت هذا ذكر له ابن إسحاق أشعارا بائية حسنة تقرب من أشعار أمية بن [ أبى ] الصلت الثقفى.
* * * قال ابن إسحاق فيما تقدم: ولما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة، ولم يكن حى من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ذكر وقبل أن يذكر، من هذا الحى من الاوس والخزرج وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود.
فلما وقع أمره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف، قال أبو قيس بن الاسلت أخو بنى واقف.
قال السهيلي: هو أبو قيس صرمة بن أبى أنس، واسم أبى أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدى بن عمرو بن غنم بن عدى بن النجار، قال: وهو الذى أنزل فيه وفى عمر " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (1) " الآية.
قال ابن إسحاق: وكان يحب قريشا، وكان لهم صهرا، كانت تحته أرنب بنت أسد ابن عبدالعزى بن قصى، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته.
قال قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشا فيها عن الحرب، ويذكر فضلهم وأحلامهم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلة (1) عنى لؤى بن غالب رسول امرئ قد راعه ذات بينكم * على النأى محزون بذلك ناصب
__________
(1) سورة البقرة 187.
(2) المغلغلة: الرسالة.
(*)

وقد كان عندي للهموم معرس * ولم اقض منها حاجتى ومآربي نبيتكم شرجين كل قبيلة * لها أرمل من بين مذك وحاطب (1) أعيذكم بالله من شر صنعكم * وشر تباغيكم ودس العقارب وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة * كوخز الاشافى (2) وقعها حق صائب فذكرهم بالله أول وهلة * وإحلال أحرام الظباء الشوازب (3) وقل لهم والله يحكم حكمه * ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب متى تبعثوها تبعثوها ذميمة * هي الغول للاقصين أو للاقارب تقطع أرحاما وتهلك أمة * وتبرى السديف من سنام وغارب
وتستبدلوا بالاتحمية بعدها * شليلا وأصداء ثياب المحارب (4) وبالمسك والكافور غبرا سوابغا * كأن قتيريها عيون الجنادب (5) فإياكم والحرب لا تعلقنكم * وحوضا وخيم الماء مر المشارب تزين للاقوام ثم يرونها * بعاقبة إذ بينت أم صاحب (6) تحرق لا تشوى ضعيفا وتنتحي * ذوى العز منكم بالحتوف الصوائب ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا، أو كان في حرب حاطب وكم ذا أصابت من شريف مسود * طويل العماد ضيفه غير خائب عظيم رماد النار يحمد أمره * وذى شيمة محض كريم المضارب وماء هريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب يخبركم عنها امرؤ حق عالم * بأيامها والعلم علم التجارب
__________
(1) شرجين: فريقين مختلفين.
والارمل: الصوت المختلط والمذكى: موقد النار.
(2) الاشافى: جمع إشفى وهى المخرز (3) الشوازب: الضامرة البطون.
(4) الاتحمية: ثياب رقاق تصنع باليمن.
والشليل: درع قصيرة والاصداء: جمع صداء الحديد.
(5) القتير: حلق الدرع.
والجنادب: الجراد.
(6) أم صاحب: أي عجوزا، كأم صاحب لك.
(*)

فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا * حسابكم، والله خير محاسب ولى أمرئ فاختار دينا فلا يكن * عليكم رقيبا غير رب الثواقب أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم * لنا غاية، قد يهتدى بالذوائب وأنتم لهذا الناس نور وعصمة * تؤمون والاحلام غير عوازب وأنتم إذ ما حصل الناس جوهر * لكم سرة البطحاء شم الارانب تصونون أنسابا (1) كراما عتيقة * مهذبة الانساب غير أشائب يرى طالب الحاجات نحو بيوتكم * عصائب هلكى تهتدى بعصائب
لقد علم الاقوم أن سراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب (2) وأفضله رأيا وأعلاه سنة * وأقوله للحق وسط المواكب فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الاخاشب فعندكم منه بلاء ومصدق * غداة أبى يكسوم هادى الكتائب كتيبته بالسهل تمشى ورجله * على القاذفات في رءوس المناقب فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب فإن تهلكوا نهلك وتهلك مواسم * يعاش بها، قول امرئ غير كاذب * * * وحرب داحس التى (3) ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة وكان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى وغيره: أن فرسا يقال لها داحس كانت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة الغطفانى، أجراها (4) مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو
__________
(1) ابن هشام: أجسادا.
(2) الجباجب: المنازل.
(3) الاصل: الذى.
(4) الاصل: أجراه.
وفى ابن هشام بالتذكير في كل المواضع.
(*)

ابن جؤية الغطفانى أيضا، يقال لها الغبراء، فجاءت داحس سابقا فأمر حذيفة من ضرب وجهها، فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حمل بن بدر فلطم مالكا.
ثم إن أبا جنيدب العبسى لقى عوف بن حذيفة فقتله، ثم لقى رجل من بنى فزارة مالكا فقتله، فشبت الحرب بين بنى عبس وفزارة، فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل ابن بدر وجماعات آخرون، وقالوا في ذلك أشعارا كثيرة يطول بسطها وذكرها.
قال ابن هشام: وأرسل قيس داحسا والغبراء، وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء، والاول أصح.
قال: وأما حرب حاطب [ فيعنى حاطب ] (1) بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس، كان قتل يهوديا جارا للخزرج، فخرج إليه زيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وهو الذى يقال له ابن فسحم (2) في نفر من بنى الحارث بن الخزرج، فقتلوه فوقعت الحرب بين الاوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا وكان الظفر للخزرج، وقتل يومئذ الاسود (3) بن الصامت الاوسي قتله المجذر بن ذياد حليف بنى عوف بن الخزرج، ثم كانت بينهم حروب يطول ذكرها أيضا.
* * * والمقصود أن أبا قيس بن الاسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الاسلام، فأسلم من أهلها بشر كثير.
ولم يبق دار، أي محلة، من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات، غير دار بنى واقف قبيلة أبى قيس، ثبطهم عن الاسلام.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل: قسحم بالقاف.
وما أثبته عن شرح القاموس.
(3) ابن هشام: سويد بن صامت.
(*)

وهو القائل أيضا: أرب الناس أشياء ألمت * يلف الصعب منها بالذلول أرب الناس إما إن ضللنا * فيسرنا لمعروف السبيل فلو لا ربنا كنا يهودا * وما دين اليهود بذى شكول ولو لا ربنا كنا نصارى * مع الرهبان في جبل الجليل ولكنا خلقنا إذ خلقنا * حنيفا ديننا عن كل جيل
نسوق الهدى ترسف مذعنات * مكشفة المناكب في الجلول وحاصل ما يقول: أنه حائر فيما وقع من الامر الذى قد سمعه من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوقف الواقفى في ذلك مع علمه ومعرفته.
وكان الذى ثبطه عن الاسلام أولا عبدالله بن أبى بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذى بشر [ به ] يهود فمنعه عن الاسلام.
قال ابن إسحاق: ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج.
وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم.
وكذا الواقدي.
قال: كان عزم على الاسلام أول ما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلامه عبدالله بن أبى فحلف لا يسلم إلى حول، فمات في ذى القعدة.
وقد ذكر غيره فيما حكاه ابن الاثير في كتابه [ أسد ] الغابة، أنه لما حضره الموت دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فسمع يقول: لا إله إلا الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من الانصار، فقال: " يا خال قل لا إله إلا الله " فقال: أخال أم عم ؟ قال: بل خال.
قال: فخير لى أن أقول لا إله إلا الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.

تفرد به أحمد رحمه الله.
وذكر عكرمة وغيره أنه لما توفى أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء (1) " الآية.
* * * وقال ابن إسحاق وسعيد بن يحيى الاموى في مغازيه: كان أبو قيس هذا ترهب في
الجاهلية ولبس المسوح، وفارق الاوثان، واغتسل الجنابة، وتطهر من الحائض من النساء، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها، ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب، وقال: أعبد إله إبراهيم، حين فارق الاوثان وكرهها.
حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فحسن إسلامه.
وكان شيخا كبيرا، وكان قوالا بالحق معظما لله في جاهليته، يقول في ذلك أشعارا حسانا، وهو الذى يقول: يقول أبو قيس وأصبح غاديا * ألا ما استطعتم من وصاتى فافعلوا فأوصيكم بالله والبر والتقى * وأعراضكم، والبر بالله أول وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم * وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم * فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا وإن ناب غرم فادح فارفقوهم * وما حملوكم في الملمات فاحملوا وإن أنتم أمعزتم (2) فتعففوا * وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا وقال أبو قيس أيضا: سبحوا الله شرق كل صباح * طلعت شمسه وكل هلال
__________
(1) سورة النساء 22.
(2) أمعزتم: أصابتكم شدة.
(*)

عالم السر والبيان جميعا (1) * ليس ما قال ربنا بضلال وله الطير تستزيد وتأوى * في وكور من آمنات الجبال وله الوحش بالفلاة تراها * في حقاف (2) وفى ظلال الرمال وله هودت يهود ودانت * كل دين مخافة من عضال (3) وله شمس النصارى وقاموا * كل عيد لربهم واحتفال وله الراهب الحبيس تراه * رهن بؤس وكان أنعم (4) بال
يا بنى الارحام لا تقطعوها * وصلوها قصيرة من طوال واتقوا الله في ضعاف اليتامى * ربما يستحل غير الحلال واعلموا أن لليتيم وليا * عالما يهتدى بغير سؤال ثم مال اليتيم لا تأكلوه * إن مال اليتيم يرعاه والى يا بنى التخوم لا تخزلوها * إن خزل التخوم ذو عقال (5) يا بنى الايام لا تأمنوها * واحذروا مكرها ومر الليالى واعلموا أن مرها (6) لنفاد ال * خلق ما كان من جديد وبالى واجمعوا أمركم على البر والتق * وى وترك الخنا أخذ الحلال قال ابن إسحاق: وقال أبو القيس صرمة أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتبا وسيأتى ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله وبه الثقة.
__________
(1) ابن هشام: لدينا.
(2) الحقاف: جمع حقف: وهو المعوج من الرمل أو المستدير منه.
(3) ابن هشام: إذا ذكرت عضال.
(4) ابن هشام.
ناعم بال.
(5) التخوم: الحدود.
وتخزلوها: تقطعوها والعقال ما يمنع الرجل من المشى.
(6) الاصل: أمرها.
وما أثبته عن أبن هشام.
(*)

قصة بيعة العقبة الثانية قال ابن إسحاق: إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الانصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الاسلام وأهله [ وإذلال الشرك وأهله ] (1).
فحدثني معبد بن كعب بن مالك، أن أخاه عبدالله بن كعب، وكان من أعلم
الانصار، حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا.
ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء: يا هؤلاء إنى قد رأيت رأيا، والله ما أدرى أتوافقونني عليه أم لا ؟ قلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية منى يظهر، يعنى الكعبة، وأن أصلى إليها.
قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه.
فقال: إنى لمصل إليها.
قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة [ قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الاقامة على ذلك.
فلما قدمنا
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

مكة ] (1) قال لى: يا بن أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه قد وقع في نفسي منه شئ، لما رأيت من خلافكم إياى فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هل تعرفانه ؟ فقلنا: لا.
فقال: هل تعرفان العباس بن عبدالمطلب عمه ؟ قال: قلنا: نعم.
وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
قال: فدخلنا المسجد، وإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه
فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك.
قال: فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر ؟ قال: نعم ؟ فقال له البراء بن معرور: يا نبى الله، إنى خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للاسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البنية منى بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شئ، فماذا ترى ؟ قال: " قد كنت على قبلة لو صبرت عليها ".
قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى معنا إلى الشام.
__________
(1) من ابن هشام.
(*) (13 - السيرة 2)

قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.
* * * قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ومعنا عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا أخذناه، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا.
ثم دعوناه إلى الاسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة.
قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا.
وقد روى البخاري، حدثنى إبراهيم، حدثنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، قال عطاء، قال جابر: أنا وأبى وخالاى (2) من أصحاب العقبة.
قال عبدالله بن محمد: قال ابن عيينة: أحدهما (2) البراء بن معرور.
حدثنا على بن المدينى، حدثنا سفيان، قال كان عمرو يقول: سمعت جابر بن عبدالله يقول: شهد بى خالاى العقبة.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبى الزبير عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ (1) ومجنة، في المواسم، يقول: " من يؤوينى ؟ من ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالة ربى وله الجنة " فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن
__________
(1) المسند: بعكاظ.
(2) الاصل: " خالي " و " أحدهم " وما أثبته من صحيح البخاري.
(*)

أو من مضر، كذا قال فيه، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك.
ويمضى بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالاصابع.
حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
ثم أئتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف (1) ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال: " تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر
واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فقمنا إليه [ فبايعناه (2) ] وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم.
وفى رواية البيهقى: وهو أصغر السبعين إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الابل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم و [ أن (2) ] تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة (3) فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.
__________
(1) ليست في المسند.
(2) من المسند.
(3) المسند: جبنة.
أي جبنا.
(*)

قالوا أمط (1) عنا يا أسعد، فو الله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدا.
قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.
وقد رواه الامام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبدالرحمن العطار.
زاد البيهقى عن الحاكم، بسنده إلى يحيى بن سليم، كلاهما عن عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن أبى إدريس به نحوه.
وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقال البزار: وروى غير واحد عن ابن خثيم، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبدالرحمن بن أبى الزناد، عن موسى بن عبدالله، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذت وأعطيت.
وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، هو الثوري، عن جابر، يعنى الجعفي، عن داود، وهو ابن أبى هند، عن الشعبى، عن جابر، يعنى ابن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء من الانصار: " تؤوونى وتمنعوني ؟ " قال: نعم.
قالوا: فما لنا ؟ قال: " الجنة ".
ثم قال: لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد عن جابر.
* * * ثم قال ابن إسحاق عن معبد، عن عبدالله، عن أبيه كعب بن مالك، قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول
__________
(1) الاصل: أبط.
وهو تحريف.
وما أثبته من المسند.
(*)

الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدى بن نابى إحدى نساء بنى سلمة، وهى أم منيع.
وقد صرح ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه بأسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الاحاديث أنهم كانوا سبعين، والعرب كثيرا ما تحذف الكسر.
وقال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وأمرأة واحدة.
قال: منهم أربعون من ذوى أسنانهم، وثلاثون من شبابهم.
قال: وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبدالله.
قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبدالمطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.
فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبدالمطلب فقال: يا معشر الخزرج - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى من الانصار الخزرج، خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.
قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام، قال: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ".
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده [ و ] قال: نعم، فو الذى بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (1)، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب ورثناها كابرا عن كابر.
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهانى فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها، يعنى اليهود، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم ".
قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا، يكونون على قومهم بما فيهم ".
فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس.
قال ابن إسحاق: وهم: أبو أمامة أسعد بن زراة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبى زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج ابن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة [ بن ثعلبة ] (2) بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم، والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدى ابن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن على بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن
__________
(1) أزرنا: نساءنا.
والعرب تكنى بالازار عن المرأة وتكنى به عن النفس أيضا.
(2) من ابن هشام.
(*)

الخزرج، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبادة بن الصامت المتقدم، وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن [ أبى ] خزيمة (1) بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج.
فهؤلاء تسعة من الخزرج.
ومن الاوس ثلاثة وهم: أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل بن جشم بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة ابن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الاوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير (2) بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك ابن الاوس.
* * *
قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا، وهو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق، واختاره السهيلي وابن الاثير في الغابة.
* * * ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبى زيد الانصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الاثنى عشر هذه الليلة، ليلة العقبة الثانية، حين قال: أبلغ أبيا أنه فال (3) رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راء وسامع
__________
(1) في غريب السيرة لابي ذر: ابن أبى حزيمة.
(2) الاستيعاب: ابن زبير.
(3) قال: بطل.
(*)

وأبلغ أبا سفيان أن قد بدالنا * بأحمد نور من هدى الله ساطع فلا ترغبن في حشد أمر تريده * وألب وجمع كل ما أنت جامع ودونك فاعلم أن نقض عهودنا * أباه عليك الرهط حين تبايعوا أباه البراء وابن عمرو كلاهما * وأسعد يأباه عليك ورافع وسعد أباه الساعدي ومنذر * لانفك إن حاولت ذلك جادع وما ابن ربيع إن تناولت عهده * بمسلمه لا يطمعن ثم طامع وأيضا فلا يعطيكه ابن رواحة * وإخفاره من دونه السم ناقع وفاء به والقوقلى ابن صامت * بمندوحة عما تحاول يافع أبو هيثم أيضا وفى بمثلها * وفاء بما أعطى من العهد خانع (1) وما ابن حضير إن أردت بمطمع * فهل أنت عن أحموقة الغى نازع وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه * ضروح (2) لما حاولت ملامر مانع أولاك نجوم لا يغبك منهم * عليك بنحس في دجى الليل طالع
قال ابن هشام: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان، ولم يذكر رفاعة.
قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة.
* * * وروى يعقوب بن سفيان، عن يونس بن عبدالاعلى، عن ابن وهب، عن مالك قال: كان الانصار ليلة العقبة سبعين رجلا، وكان نقباؤهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس.
وحدثني شيخ من الانصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة، وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة.
__________
(1) خانع: خاضع مقر.
(2) ضروح: مانع.
(*)

رواه البيهقى.
وقال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبى بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي.
قالوا: نعم.
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الانصاري أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا: نعم قال: إنكم تبايعونه على حرب الاحمر والاسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الاموال وقتل الاشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الاموال وقتل الاشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال: " الجنة ".
قالوا: ابسط يدك.
فبسط يده فبايعوه.
قال عاصم بن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم.
وزعم عبدالله بن أبى بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر البيعة تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبدالله بن أبى بن سلول سيد الخزرج، ليكون أقوى لامر القوم.
فالله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن إسحاق: فبنوا النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده.
وبنو عبد الاشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.
قال ابن إسحاق: وحدثني معبد بن كعب، عن أخيه عبدالله، عن أبيه كعب بن مالك قال: فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع القوم.
وقال ابن الاثير في الغابة: وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.
وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عبدالرحمن بن عبدالله ابن كعب، عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك.
قال: ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما أحب أن لى بها مشهد بدر، وإن كانت بدرا أكثر (1) في الناس منها.
* * * وقال البيهقى: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا بن أبى زائدة، عن عامر الشعبى قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العباس عمه إلى السبعين من الانصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم.
فقال قائلهم، وهو أبو أمامة: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك.
__________
(1) البخاري: بدر أذكر.
وفى المطبوعة: بدر اكثير.
تحريف.
(*)

قال: أسألكم لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم.
قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك.
قال: لكم الجنة.
قالوا: فلك ذلك ؟ ثم رواه حنبل عن الامام أحمد، عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبى، عن أبى مسعود الانصاري، فذكره قال: وكان أبو مسعود أصغرهم.
وقال أحمد عن يحيى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها.
قال البيهقى: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذهلى، أخبرنا عمرو بن عثمان الرقى، حدثنا زهير، حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة، عن
أبيه، قال: قدمت روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها وقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة.
فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى بايعناه عليها.
وهذا إسناد جيد قوى ولم يخرجوه.
وقد روى يونس عن ابن إسحاق، حدثنى عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت،

عن أبيه، عن جده عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا أثرة علينا، وأن لا ننازع الامر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
* * * قال ابن إسحاق في حديثه عن معبد بن كعب، عن أخيه عبدالله بن كعب بن مالك.
قال: فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب (1) ".
قال ابن هشام: ويقال ابن أزيب.
" اتسمع أي عدو الله، أما والله لاتفرغن (2) لك.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم.
قال: فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله والذى بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا.
فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج
__________
(1) الاصل: أزبب، وما أثبته من ابن هشام.
(2) ابن هشام: لافرغن.
(*)

إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شئ وما علمناه.
قال: وصدقوا، لم يعلموا، قال وبعضنا ينظر إلى بعض.
قال: ثم قام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى وعليه نعلان له جديدان.
قال: فقلت له كلمة، كأنى أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلى.
قال والله لتنتعلنهما.
قال يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه.
قال قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لاسلبنه ! قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبى بكر أنهم أتوا عبدالله بن أبى بن سلول
فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم: إن هذا الامر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا (1) على مثل هذا، وما علمته كان.
قال فانصرفوا عنه.
قال: ونفر الناس من منى، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم.
__________
(1) ابن هشام: ليتفوتوا على بمثل هذا.
(*)

فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج وكلاهما كان نقيبا.
فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع (1) رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير.
قال سعد: فو الله إنى لفى أيديهم إذ طلع على نفر من قريش فيهم رجل وضئ أبيض شعشاع حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.
فلما دنا منى رفع يده فلكمنى لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير !.
فو الله إنى لفى أيديهم يسحبونني إذ أوى لى رجل ممن معهم، قال: ويحك ! أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد ؟ قال: قلت: بلى والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس.
فقال: ويحك ! فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما.
قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالابطح ليهتف بكما.
قالا: ومن هو ؟ قال:
سعد بن عبادة.
قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده.
قال: فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم، فانطلق.
وكان الذى لكم سعدا سهيل ابن عمرو.
__________
(1) النسع: الشراك الذى يشد به الرحل.
(*)

قال ابن هشام: وكان الذى أوى له أبوالبخترى بن هشام.
وروى البيهقى بسنده عن عيسى بن أبى عيسى بن جبير قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبى قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمد * بمكة لا يخشى حلاف المخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان ؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم ؟.
فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول: أيا سعد سعد الاوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعى الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى * جنان من الفردوس ذات رفارف فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
{ فصل } قال ابن إسحاق: فلما رجع الانصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الاسلام بها.
وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة.
وكان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة، وكان عمرو بن الجموح من سادات بنى
سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له مناة، كما كانت الاشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه ويظهره، فلما أسلم فتيان بنى سلمة، ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض

حفر بنى سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟ ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لاخزينه.
فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الاذى فيغسله ويطيبه ويطهره، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه.
ثم جاء بسيفه فعلقه عيله ثم قال له: إنى والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع، هذا السيف معك.
فلما أمسى ونام عمرو وعدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذى كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه وكلمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله وحسن إسلامه، فقال حين أسلم، وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره، ويشكر الله الذى أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول: والله لو كنت إلها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلها مستدن * الآن فتشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلى ذى المنن * الواهب الرزاق ديان الدين هو الذى أنقذني من قبل أن * أكون في ظلمة قبر مرتهن

فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية وجملتهم على ما ذكره ابن إسحاق ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان فمن الاوس أحد عشر رجلا: أسيد بن حضير أحد النقباء، وأبو الهيثم بن التيهان بدرى أيضا، وسلمة بن سلامة ابن وقش بدرى، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار (1)، ونهير بن الهيثم بن نابى بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء، بدرى وقتل بها شهيدا، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدرى، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدرى، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة، ومعن بن عدى بن الجد بن عجلان بن الحارث ابن ضبيعة البلوى حليف للاوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا: أبو أيوب خالد بن زيد، وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا، ومعاذ بن الحارث، وأخواه عوف ومعوذوهم بنو عفراء بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة، وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء، مات قبل بدر، وسهل بن عتيك، بدرى، وأوس بن ثابت بن المندر بدرى، وأبو طلحة زيد بن سهل، بدرى، وقيس بن أبى صعصعة عمرو بن زيد بن عوف
__________
(1) الاصل: دينار وهو خطأ.
والتصويب من الكنى والاسماء للدولابي.
وأسمه هانئ بن نيار ابن عمرو بن عبيد بن كلاب.
(*) (14 - السيرة 2)

ابن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر، وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهد
بدرا وقتل يوم أحد.
وعبد الله بن رواحة أحد النقباء، شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا، وبشير بن سعد، بدرى، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذى أرى النداء، وهو بدرى.
وخلاد بن سويد بدرى أحدى خندقي، وقتل يوم بنى قريظة شهيدا، طرحت عليه رحى فشدخته، فيقال إن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال: " إن له لاجر شهيدين ".
وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدرى.
قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا.
وزياد بن لبيد، بدرى، وفروة بن عمرو بن وذفة (1) وخالد بن قيس بن مالك بدرى، ورافع بن مالك أحد النقباء، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذى يقال له مهاجري أنصارى، لانه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدرى قتل يوم أحد، وعبادة بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدرى، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدرى أيضا.
والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة، وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على ورثته.
__________
(1) الاصل: ودفة.
وهى رواية.
وما أثبته من الاشتقاق لابن دريد 461 قال: والوذفة زعموا الروضة: قال ابن هشام ويقال: ودفة.
(*)

وابنه بشر بن البراء، وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الشاة المسمومة، رضى الله عنه، وسنان بن صيفي
ابن صخر بدرى، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدرى، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدرى، وأخوه يزيد بن سنان المنذر بدرى، ومسعود بن زيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدرى، ويزيد بن خذام (1) بن سبيع، وجبار بن صخر [ بن أمية ] (2) بن خنساء بن سنان بن عبيد بدرى، والطفيل بن مالك بن خنساء بدرى.
وكعب بن مالك، وسليم بن عامر بن حديدة بدرى، وقطبة بن عامر بن حديدة بدرى، وأخوه أبو المنذر يزيد بدرى أيضا، وأبو اليسر كعب بن عمرو بدرى، وصيفى ابن سواد بن عباد.
وثعلبة بن غنمة بن عدى بن نابى، بدرى واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدى، وعبس بن عامر بن عدى، بدرى، وخالد بن عمرو بن عدى بن نابى، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة.
وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء، بدرى واستشهد يوم أحد، وابنه جابر ابن عبدالله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدرى، وثابت بن الجذع، بدرى وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدرى، وخديج بن سلامة حليف لهم (3) من بلى، ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب.
وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها، والعباس بن عبادة بن نضلة، وقد أقام بمكة حتى هاجر منها، فكان يقال له مهاجري أنصارى أيضا، وقتل يوم أحد
__________
(1) الاستيعاب: ابن حرام.
(2) من ابن هشام.
(3) أي لبنى حرام بن كعب.
(*)

شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم [ من بنى غصينة ] (1) من بلى وعمرو بن الحارث بن لبدة (2)، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدرى، وعقبة
ابن وهب بن كلدة حليف لهم (3) بدرى وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها، فهو ممن يقال له مهاجري أنصارى أيضا، وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدرى أحدى وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذى يقال له: أعتق ليموت.
وأما المرأتان فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو ابن غنم بن مازن بن النجار، المازنية النجارية.
قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب (4) وعبد الله.
وابنها حبيب (5) هذا هو الذى قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول: نعم.
فيقول: أتشهد أنى رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع.
فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه، لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة، ورجعت وبها اثنا عشر جرحا من بين طعنة وضربة.
رضى الله عنها.
والاخرى أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدى بن نابى بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة.
رضى الله عنها.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل: كندة والتصويب من ابن هشام.
(3) أي لبنى سالم بن عنم (4) كذا ضبطه الزرقائى بفتح النون.
(5) الاصل خبيب وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

باب بدء الهجرة من مكة إلى المدينة قال الزهري، عن عروة، عن عائشة: قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ بمكة - للمسلمين: " قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل
بين لابتين ".
فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.
رواه البخاري.
وقال أبو موسى: عن النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب ".
وهذا الحديث قد أسنده البخاري في مواضع أخر بطوله.
وراه مسلم كلاهما عن أبى كريب.
زاد مسلم وعبد الله بن مراد، كلاهما عن أبى أسامة، عن يزيد بن عبدالله بن أبى بردة، عن جده أبى بردة، عن أبى موسى عبدالله ابن قيس الاشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السيارى بمرو، حدثنا إبراهيم بن هلال، حدثنا العامري، عن على بن الحسن بن شقيق، حدثنا عيسى بن عبيد الكندى، عن غيلان بن عبدالله العامري

عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أوحى إلى أي هؤلاء البلاد الثلاثة نزلت فهى دار هجرتك: المدينة، أو البحرين، أو قنسرين ".
قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة، فأمر أصحابه بالهجرة إليها.
هذا حديث غريب (1) جدا، وقد رواه الترمذي في المناقب من جامعه منفردا به عن أبى عمار الحسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن غيلان بن عبدالله العامري، عن أبى زرعة بن عمر بن جرير، عن جرير، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أوحى إلى أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهى دار هجرتك: المدينة، أو البحرين، أو قنسرين " ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار.
قلت: وغيلان بن عبدالله العامري هذا ذكره ابن حبان في الثقات، إلا أنه قال: روى عن أبى زرعة حديثا منكرا في الهجرة.
والله أعلم.
* * * قال ابن اسحاق: لما أذن الله تعالى في الحرب بقوله " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله (2) " الآية.
فلما أذن الله في الحرب وتابعه هذا الحى من الانصار على الاسلام والنصرة له، ولمن
__________
(1) قال الزرقائى: صححه الحاكم وأقره الذهبي في تلخيصه، لكنه قال في الميزان: حديث منكر، ما أقدم الترمذي على تحسينه بل قال غريب.
وقال الحافظ: في ثبوته نظر، لمخالفته ما في الصحيح.
شرح المواهب 1 / 318.
(2) سورة الحج 39، 40.
(*)

اتبعه وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الانصار وقال: " إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها ".
فخرجوا إليها أرسالا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة.
فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المهاجرين من قريش من بنى مخزوم، أبو سلمة عبدالله بن عبد الاسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة، حين آذته قريش مرجعه من الحبشة، فعزم على الرجوع إليها، ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا فعزم إليها.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبى، عن سلمة بن عبدالله بن عمر بن أبى سلمة، عن جدته أم سلمة قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لى بعيره ثم حملني عليه وجعل معى ابني سلمة بن أبى سلمة في حجري، ثم خرج يقود بى بعيره.
فلم رأته رجال بنى المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه.
قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الاسد رهط أبى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده،

وانطلق به بنو عبد الاسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
قالت: ففرق بينى وبين ابني وبين زوجي.
قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الابطح، فما أزال أبكى حتى أمسى، سنة أو قريبا منها.
حتى مر بى رجل من بنى عمى أحد بنى المغيرة، فرأى ما بى فرحمني، فقال لبنى المغيرة: ألا تحرجون من هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ !.
قالت: فقالوا لى: الحقى بزوجك إن شئت.
قالت: فرد بنو عبد الاسد إلى عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيرى، ثم
أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة.
قالت: وما معى أحد من خلق الله.
حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة ابن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبى أمية ؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أو ما معك أحد ؟ قلت: ما معى أحد إلا الله وبنى هذا.
فقال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخطام البعير فانطلق معى يهوى بى، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بى، ثم استأخر عنى حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى فحط عنه ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها.
فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فقدمه فرحله، ثم استأخر عنى وقال: اركبي.
فإذا ركبت فاستويت على بعيرى أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بى.
فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف

بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلا، فادخليها على بركة الله.
ثم انصرف راجعا إلى مكة.
فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الاسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
أسلم عثمان بن طلحة بن أبى طلحة العبدرى هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد معا، وقتل يوم أحد أبوه وإخوته، الحارث وكلاب ومسافع، وعمه عثمان بن أبى طلحة.
ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بنى شيبة مفاتيح الكعبة، أقرها عليهم في الاسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها (1) ".
* * *
قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبى سلمة، عامر بن ربيعة حليف بنى عدى، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة العدوية.
ثم عبدالله بن جحش ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بنى أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد، أبى أحمد، اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق وقيل ثمامة.
قال السهيلي: والاول أصح.
وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا وكانت عنده الفارعة بنت أبى سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبدالمطلب بن هاشم.
فغلقت دار بنى جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبدالمطلب
__________
(1) سورة النساء 58 (*)

وأبو جهل بن هشام وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس بها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء وقال: وكل دار وإن طالت سلامتها * يوما ستدركها النكباء والحوب قال ابن هشام: وهذا البيت لابي دؤاد الايادي في قصيدة له.
قال السهيلي: واسم أبى دؤاد حنظلة بن شرقي وقيل حارثة.
ثم قال عتبة: أصبحت دار بنى جحش خلاء من أهلها.
فقال أبو جهل: وما تبكى عليه من فل بن فل (1) ثم قال، يعنى للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، هذا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.
* * * قال ابن إسحاق: فنزل أبو سلمة وعامر بن ربيعة وبنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر ثم قدم المهاجرون أرسالا.
قال: وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة هجرة رجالهم ونساؤهم وهم: عبدالله بن جحش، وأخوه أبو أحمد، وعكاشة بن محصن، وشجاع، وعقبة ابنا وهب، وأربد بن جميرة (2) ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، وزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقف بن عمرو، وربيعة بن أكثم، والزبير بن عبيدة، وتمام بن عبيدة، وسخبرة بن عبيدة، ومحمد بن عبدالله بن جحش.
ومن نسائهم زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجد امة بنت جندل، وأم قيس بنت محصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم.
__________
(1) الفل: الواحد.
(2) ويقال فيه: ابن حميرة.
وابن حمير.
(*)

قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة: ولما رأتنى أم أحمد غاديا * بذمة من أخشى بغيب وأرهب تقول فأما كنت لابد فاعلا * فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب فقلت لها: ما يثرب بمظنة (1) * وما يشأ الرحمن فالعبد يركب إلى الله وجهى والرسول ومن يقم * إلى الله يوما وجهه لا يخيب فكم قد تركنا من حميم مناصح * وناصحة تبكى بدمع وتندب ترى أن وترا نأينا (2) عن بلادنا * ونحن نرى أن الرغائب نطلب دعوت بنى غنم لحقن دمائهم * وللحق لما لاح للناس ملحب أجابوا بحمد الله لما دعاهم * إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى * أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا كفوجين أما منهما فموفق * على الحق مهدى وفوج معذب
طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم * عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا ورعنا إلى قول النبي محمد * فطاب ولاة الحق منا وطيبوا نمت بأرحام إليهم قريبة * ولا قرب بالارحام إذ لا تقرب فأى ابن أخت بعدنا يأمننكم * واية صهر بعد صهرى يرقب ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا * وزيل أمر الناس للحق أصوب * * * قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبى ربيعة، حتى قدما المدينة.
__________
(1) ابن هشام: فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا.
(2) الاصل: نائيا.
وهو تحريف وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

فحدثني نافع، عن عبدالله بن عمر، عن أبيه قال: اتعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص التناضب من إضاة بنى غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه.
قال: فأصبحت أنا وعياش عند التناضب، وحبس هشام وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بنى عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش، وكان ابن عمهما وأخاهما لامهما، حتى قدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك.
فرق لها، فقلت له: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت ! قال: فقال: أبر قسم أمي، ولى هنالك مال فاخذه.
قال: قلت: والله إنك لتعلم
أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما.
قال: فأبى على إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخى والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى.
فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالارض عدوا عليه فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن.
قال عمر: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتتن توبة.
وكانوا يقولون ذلك لانفسهم.

حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنزل الله " قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم.
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون.
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " (1).
قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص.
قال هشام: فلما أتتنى جعلت أقرأها بذى طوى أصعد بها وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، فألقى الله في قلبى أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا.
قال: فرجعت إلى بعيرى فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وذكر ابن هشام أن الذى قدم بهشام بن العاص، وعياش ابن أبى ربيعة إلى المدينة الوليد بن المغيرة سرقهما من مكة وقدم بهما يحملهما على بعيره وهو ماش معهما، فعثر فدميت أصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت * وفى سبيل الله ما لقيت * * * وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق سمع البراء قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار وبلال.
وحدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، سمعت البراء
__________
(1) سورة الزمر 53 - 55.
(*)

ابن عازب قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل الاماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قدم حتى قرأت " سبح اسم ربك الاعلى " في سور من المفصل.
ورواه مسلم في صحيحه من حديث إسرائيل عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب بنحوه.
وفيه التصريح بأن سعد بن أبى وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصواب ما تقدم.
قال ابن إسحاق: ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه
وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمى زوج ابنته حفصة، وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبدالله التميمي حليف لهم، وخولى بن أبى خولى، ومالك بن أبى خولى حليفان لهم من بنى عجل، وبنو البكير إياس وخالد وعاقل وعامر، وحلفاؤهم من بنى سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة عبد المنذر بن زنير في بنى عمرو بن عوف بقباء.
* * * قال ابن إسحاق: ثم تتابع المهاجرون رضى الله عنهم.
فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف أخى بلحارث بن الخزرج بالسنح.
ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة.

قال ابن هشام: وذكر لى عن ابى عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذى بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ؟ ! والله لا يكون ذلك.
فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى ؟ قالوا: نعم.
قال: فإنى قد جعلت لكم مالى.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ربح صهيب، ربح صهيب ".
وقد قال البيهقى: حدثنا الحافظ أبو عبد الله، إملاء، أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبدالله بن محمد بن ميكال، أخبرنا عبدان الاهوازي، حدثنا زيد بن الجريش، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب، حدثنى أبى وعمومتي، عن سعيد بن المسيب، عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهرانى حرتين، فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب ".
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتى تلك أقوم لا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه.
ولم أكن شاكيا، فناموا.
فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت يريدون ليردوني، فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقى من ذهب وتخلون سبيلى وتوفون لى ؟ ففعلوا فتبعتهم إلى مكة.
فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقى، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين.
وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يتحول منها،

فلما رأني قال: " يا أبا يحيى ربح البيع " فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام.
* * * قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبدالمطلب وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز بن الحصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة، وأنسة وأبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم أخى بنى عمرو بن عوف بقباء، وقيل على سعد بن خيثمة وقيل بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة.
والله أعلم.
قال: ونزل عبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحصين، ومسطح بن أثاثة وسويبط ابن سعد بن حريملة أخو بنى عبد الدار، وطليب بن عمير أخو بنى عبد بن قصى، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبدالله بن سلمة أخى بلعجلان بقباء (1)، ونزل عبدالرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع، ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبى رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة دار بنى جحجبى، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ، ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة.
قال ابن إسحاق: وقال الاموى: على خبيب بن إساف أخى بنى حارثة.
ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بنى عبد الاشهل، ونزل عثمان بن عفان على أوس ابن ثابت بن المنذر أخى حسان بن ثابت في دار بنى النجار.
__________
(1) ابن هشام: أخى بلحارث بن الخزرج.
(*)

قال ابن إسحاق: ونزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا.
والله أعلم أي ذلك كان.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنى أحمد بن أبى بكر بن الحارث بن زرارة ابن مصعب بن عبدالرحمن بن عوف، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: قدمنا [ من ] مكة فنزلنا العصبة (1)، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبى حذيفة، فكان يؤمهم سالم مولى أبى حذيفة لانه كان أكثرهم قرآنا.
__________
(1) العصبة: موضع بقباء.
(*) (15 - السيرة 2)

فصل في سبب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة قال الله تعالى " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطنا نصيرا ".
أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء، أن يجعل له مما هو فيه فرجا قريبا ومخرجا عاجلا، فأذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية، حيث الانصار والاحباب، فصارت له دارا وقرارا، وأهلها له أنصارا.
قال أحمد بن حنبل وعثمان بن أبى شيبة، عن جرير، عن قابوس بن أبى ظبيان (1)، عن أبيه، عن أبن عباس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأمر بالهجرة وأنزل عليه: " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق، واجعل لى من لدنك سلطنا نصيرا ".
وقال قتادة: " أدخلني مدخل صدق " المدينة " وأخرجنى مخرج صدق " الهجرة من مكة " واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا " كتاب الله وفرائضه وحدوده.
* * * قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.
__________
(1) ح: قابوس بن أبى طهمان.
(*)

ولم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن، إلا على بن أبى طالب وأبو بكر بن أبى قحافة رضى الله عنهما.
وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له " لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا " فيطمع أبو بكر أن يكونه.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة.
فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم.
فاجتمعوا له في دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين خافوه.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبدالله بن أبى نجيح، عن مجاهد بن جبر، عن عبدالله بن عباس، وغيره ممن لا أتهم، عن عبدالله عباس، قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، غدوا في اليوم الذى اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بت له (1) فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذى اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا.
قالوا: أجل فادخل.
__________
(1) البت: الكساء الغليظ.
وفى المطبوعة: بتلة، وهو خطأ.
(*)

فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش: عتبة وشيبة، وأبو سفيان، وطعيمة ابن عدى، وجبير بن مطعم بن عدى، والحارث بن عامر بن نوفل، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الاسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل ابن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، ومن كان منهم، وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا.
قال: فتشاوروا، ثم قال قائل منهم، قيل إنه أبوالبخترى بن هشام: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأى، والله لئن حبستموه كما يقولون
ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلاوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى.
فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فأذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ ! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حى من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم

إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لى فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟ قال: أرى أن نأخذ من كان قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم.
قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأى ولا رأى غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
فأتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه.
قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب: نم على فراشي وتسج ببردى هذا الحضرمي الاخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
وهذه القصة التى ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده، عن عائشة وابن عباس وعلى وسراقة بن مالك بن جعشم وغيرهم، دخل حديث بعضهم في بعض، فذكر نحو ما تقدم.
* * *

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن كعب القرظى، قال: لما اجتمعوا له، وفيهم أبو جهل قال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الاردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: " نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم ".
وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: " يس.
والقرآن الحكيم.
إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم " إلى قوله: " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا.
ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا ؟ قالوا: محمدا.
فقال: خيبكم الله !
قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟ ! قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام على عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذى كان حدثنا.

قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعال: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين " (1) وقوله " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين " (2).
قال ابن إسحاق: فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك بالهجرة.
__________
(1) سورة الانفال 30.
(3) سورة الطور 31.
(*)

باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه وذلك أول التاريخ الاسلامي، كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية.
كما بيناه في سيرة عمر، رضى الله عنه وعنهم أجمعين.
قال البخاري: حدثنا مطر بن الفضل، حدثنا روح، حدثنا هشام، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث
وستين سنة.
وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الاول، سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام، و ذلك في يوم الاثنين.
كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس، أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين.
* * * قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه.

فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك.
قال الواقدي: اشتراهما بثمانمائة درهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبى بكر أحد طرفي النهار إما بكرة، وإما عشية.
حتى إذا كان اليوم الذى أذن الله فيه رسول الله صلى عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرى قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها.
قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لامر حدث.
قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليس عند رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم أحد إلا أنا وأختى أسماء بنت أبى بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخرج عنى من عندك " قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى ؟ قال: إن الله قد أذن لى في الخروج والهجرة.
قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟ قال: الصحبة.
قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكى من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكى ! ثم قال: يا نبى الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا.
__________
(1) ابن هشام: وليس عند أبى بكر.
(*)

فاستأجرا عبدالله بن أرقط (1) قال ابن هشام: ويقال عبدالله بن أريقط.
رجلا من بنى الديل بن بكر، وكانت أمه من بنى سهم بن عمرو، وكان مشركا، يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
قال ابن إسحاق: ولم يعلم، فيما بلغني، بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا على بن أبى طالب وأبو بكر الصديق وآل أبى بكر.
أما على فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته.
قال ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ الخروج ] (2) أتى أبا بكر ابن أبى قحافة، فخرجا من خوخة لابي بكر في ظهر بيته.
وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: بلغني
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة قال.
" الحمد الله الذى خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعنى على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالى والايام.
اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلى، وبارك لى فيما رزقتني، ولك فذللنى، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني.
رب المستضعفين وأنت ربى، أعوذ بوجهك الكريم الذى أشرقت له السموات
__________
(1) الاصل: أرقد: وما أثبته عن ابن هشام.
(2) من ابن هشام.
(*)

والارض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الاولين والآخرين، أن تحل على غضبك، أو تنزل بى سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك.
لك العتبى (1) عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك ".
* * * قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور، جبل بأسفل مكة، فدخلاه.
وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.
وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار.
فكان عبدالله بن أبى بكر يكون في قريش نهاره معهم، يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.
وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبدالله بن أبى بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر ابن فهيرة أثره بالغنم يعفى عليه.
وسيأتى في سياق البخاري ما يشهد لهذا.
وقد حكى ابن جرير عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور، وأمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناء الطريق.
__________
(1) الاصل: العقبى (*)

وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا.
* * * قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.
قالت أسماء: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب ابى بكر فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبى بكر ؟ قالت: قلت: لا أدرى والله أين أبى.
قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدى لطمة طرح منها قرطي، ثم انصرفوا.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، أن أباه حدثه، عن جدته أسماء قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم، فانطلق بها معه.
قالت: فدخل علينا جدى أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لاراه قد فجعكم بماله مع نفسه.
قالت: قلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا.
قالت: وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذى كان أبى يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال.
قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم.
ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك ! * * * وقال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبى الحسن البصري.

قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية، بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
وهذا فيه انقطاع من طرفيه.
وقد قال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن عمرو الضبى، حدثنا نافع بن عمر الجمحى، عن ابن أبى مليكة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة.
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك.
حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور، قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدى فأحسه وأقصه، فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك.
قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شئ يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا مرسل.
وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضى الله عنه.
* * * وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أنبأنا موسى بن الحسن، حدثنا عباد، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا السرى بن يحيى، حدثنا محمد بن سيرين، قال: ذكر رجال على عهد عمر، فكأنهم فضلوا عمر على أبى بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبى بكر خير من آل عمر، وليوم من أبى بكر خير من آل عمر ! لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل

يمشى ساعة بين يديه وساعة خلفه.
حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا بكر ما لك تمشى ساعة خلفي وساعة بين يدى ؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك.
فقال: يا أبا بكر لو كان شئ لاحببت أن يكون بك دوني ؟ قال: نعم والذى بعثك بالحق.
فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ.
فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله.
فنزل.
ثم قال عمر: والذى نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.
وقد رواه البيهقى من وجه آخر عن عمر وفيه: أن أبا بكر جعل يمشى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن شماله.
وفيه أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله الصديق على كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الاجحرة كلها وبقى منها جحر واحد، فألقمه كعبه، فجعلت الافاعى تنهشه ودموعه تسيل.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تخزن إن الله معنا ".
وفى هذا السياق غرابة ونكارة.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو.
قالا: حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا عباس الدوري، حدثنا أسود بن عامر شاذان، حدثنا إسرائيل، عن الاسود، عن جندب بن عبدالله، قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال: إن أنت إلا إصبع دميت * وفى سبيل الله ما لقيت

وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزرى، أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك " قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: بل اقتلوه.
وقال بعضهم: بل أخرجوه.
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات على على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم.
فقالوا: أين صاحبك هذا ؟ فقال: لا أدرى.
فاقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.
وهذا إسناد حسن، وهو من أجود ما روى في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
[ وقال الحافظ (1) أبو بكر أحمد بن على بن سعيد القاضى في مسند أبى بكر، حدثنا
بشار الخفاف، حدثنا جعفر وسليمان (2)، حدثنا أبوعمران الجونى، حدثنا المعلى بن زياد، عن الحسن البصري، قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار، وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد.
__________
(1) سقط هذا الخبر من (ا) (2) كذا ولعله جعفر بن سليمان الضبعى.
(*)

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أئل (1) ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا ".
وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن بحاله من الشاهد.
وفيه زيادة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار.
وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى.
وروى هذا الرجل، أعنى أبا بكر أحمد بن على القاضى، [ عن ] عمرو الناقد، عن خلف بن تميم، عن موسى بن مطير، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن أبا بكر قال لابنه: يا بنى إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذى اختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرة وعشيا ] (2).
وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول: نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا، وقد نظم ذلك الصرصرى في شعره حيث يقول: فغمى عليه العنكبوت بنسجه * وظل على الباب الحمام يبيض
والحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر، من طريق يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا عمرو بن على، حدثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي، ويلقب بعوين (3)، حدثنى أبو مصعب المكى، قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك،
__________
(1) أئل: أحزن.
(2) إلى هنا من (ا).
(3) الاصل: عوين.
(*)

يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا تدفان (1) حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر مائتي ذراع قال الدليل، وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى: هذا الحجر ثم لا أدرى أين وضع رجله.
فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
حتى إذا أصبحوا (3) قال: انظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع (3) فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار ؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت عليهما، أي برك عليهما، وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى.
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه، قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره، عن عون بن عمرو، وهو الملقب بعوين، بإسناده مثله.
وفيه أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين.
وفى هذا الحديث أن القائف الذى اقتفى لهم الاثر سراقة بن مالك المدلجى.
وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه أن الذى اقتفى لهم الاثر
كرز بن علقمة.
__________
(1) الدفيف من الطائر: مره فوق الارض أو أن يحرك جناحاه ورجلاه فريق الارض.
(2) الاصل: أصبحن.
وهو تحريف.
(3) الاصل: ترجع.
وهو تحريف.
(*) (16 - السيرة - 2)

قلت: ويحتمل أن يكونا جميعا اقتفيا الاثر.
والله أعلم.
* * * وقد قال الله تعالى: " إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا.
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم (1) ".
يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول: " إلا تنصروه " أنتم فإن الله ناصره ومؤيده ومظفره، كما نصره " إذ أخرجه الذين كفروا " من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه وصديقه أبى بكر ليس غيره.
ولهذا قال " ثانى اثنين إذ هما في الغار " أي وقد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما.
وذلك لان المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما، أو أحدهما مائة من الابل، واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم، وكان الذى يقتص الاثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم، فصعدوا الجبل الذى هما فيه، وجعلوا يمرون على باب الغار، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما، حفظا من الله لهما.
كما قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا ثابت، عن أنس بن مالك،
أن أبا بكر حدثه، قال: قلت للنبى صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه.
__________
(1) سورة التوبة: 40.
(*)

فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث همام به.
وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو جاءونا من ها هنا لذهبنا من هنا.
فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر.
وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه.
وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوى ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به.
والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا خلف بن تميم، حدثنا موسى بن مطير القرشى، عن أبيه، عن أبى هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بنى إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذى رأيتنى أختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية.
ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.
قالت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه.
* * * وقد ذكر يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، أن الصديق قال في دخولهما
الغار، وسيرهما بعد ذلك، وما كان من قصة سراقة كما سيأتي، شعرا فمنه قوله:

قال النبي، ولم أجزع يوقرني * ونحن في سدف (1) من ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا * وقد توكل لى منه بإظهار وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد، عن محمد بن إسحاق فذكرها مطول جدا وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم.
وقد روى ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير، قال: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج، يعنى الذى بايع فيه الانصار، بقية ذى الحجة والمحرم وصفر.
ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يحبسوه، أو يخرجوه، فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه: " وإذ يمكر بك الذين كفروا (2) الآية.
فأمر عليا فنام على فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه، وأن خروجه هو وأبو بكر إلى الغار كان ليلا.
وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقل أبوى قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة.
__________
(1) ابن هشام: سدفة.
(2) سورة الانفال 30.
(*)

فذكرت ما كان من رده لابي بكر إلى مكة وجواره له.
كما قدمناه عند هجرة الحبشة إلى قوله: فقال أبو بكر: فإنى أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.
قالت: والنبى صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: " إنى أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين " وهما الحرتان.
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة.
وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلك فإنى أرجو أن يؤذن لى " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبى أنت وأمى ؟ قال: نعم.
فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط، أربعة أشهر، وذكر بعضهم أنه علفهما ستة أشهر.
قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبى بكر في حر الظهيرة، فقال قائل لابي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبى أمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ! قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج من عندك.
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبى أنت يا رسول الله.
قال: فإنه قد أذن لى في الخروج.
فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت أمي ! قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن.

قالت عائشة: فجهزناهما أحث (1) الجهاز، فصنعنا لهما سفرة (2) في جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين.
قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبدالله بن أبى بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن (3)، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما (4)، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث.
واستأجر رسول الله صلى الله عيله وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل، وهو من بنى عبد بن عدى، هاديا خريتا.
والخريت: الماهر بالهداية.
قد غمس (5) حلفا في آل العاص بن وائل السهمى، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال.
وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.
قال ابن شهاب: فأخبرني عبدالرحمن بن مالك المدلجى وهو ابن أخى سراقة، أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش
__________
(1) أحث الجهاز: أسرعه.
وتروى: أحب الجهاز.
(2) سفرة: زادا.
(3) ثقف: حاذق.
ولقن: سريع الفهم.
(4) الاصل: ورضيعهما.
وما أثبته من البخاري.
والرضيف: اللبن يغلى بالرضفة (5) غمس حلفا: عقده.
وكانوا يغمسون أيديهم في جفنة توكيدا للحلف.
(*)

يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره.
فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بنى مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.
فقال: يا سراقة إنى رأيت آنفا أسودة (1) بالساحل أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا.
ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهى من وراء أكمة فتحبسها على، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه (2) الارض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسى فركبتها فدفعتها تقرب (3) بى حتى دنوت منهم، فعثرت بى فرسى فخررت عنها، فقمت فأهويت يدى إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذى أكره.
فركبت فرسى وعصيت الازلام.
فجعل فرسى يقرب بى، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتف وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسى في الارض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لاثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الازلام فخرج الذى أكره.
__________
(1) الاسودة: يكنى بها عن الشخص.
(2) الزج: حديدة تجعل في طرف الرمح.
(3) الاصل: ففرت.
وما أثبته من البخاري.
(*)

فناديتهم بالامان، فوقفوا فركبت فرسى حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآنى (1) ولم يسألانى إلا أن قالا: أخف عنا.
فسألته أن يكتب لى كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لى رقعة من أدم.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * وقد روى محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن مالك بن جعشم، عن أبيه، عن عمه سراقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالازلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذى يكره: لا يضره، وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالازلام ويخرج الذى يكره: لا يضره.
حتى ناداهم بالامان.
وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فكتب لى كتابا في عظم، أو رقعة أو خرقة، وذكر أنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف، فقال له " يوم وفاء وبر، ادنه " فدنوت منه وأسلمت.
قال ابن هشام: هو عبدالرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم.
وهذا الذى قاله جيد.
ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحد من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذا الوجه.
__________
(1) الاصل: فلم يردانى وهو تصحيف وما أثبته من صحيح البخاري.
(*)

فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة، جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من قصة جواده، واشتهر هذا عنه، فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سببا لاسلام كثير منهم، وكان سراقة أمير بنى مدلج ورئيسهم، فكتب أبو جهل، لعنه الله، إليهم: بنى مدلج إنى أخاف سفيهكم * سراقة مستغو لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم * فيصبح شتى بعد عز وسؤدد قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا: أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لامر جوادي إذ تسوخ قوائمه عجبت ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه (1) عليك فكف القوم عنه فإننى * أخال لنا يوما ستبدو معالمه بأمر تود النصر فيه فإنهم * وإن جميع الناس طرا مسالمه وذكر هذا الشعر الاموى في مغازيه بسنده عن أبى إسحاق، وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق، وزاد في شعر أبى جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا * * * وقال البخاري بسنده إلى ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض.
__________
(1) ا: نبى وبرهان فمن ذا يكلمه.
(*)

وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا دون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة.
فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود إلى أطم (1) من آطامهم لامر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين (2) يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذى تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، يعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بنى عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الاول.
فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنى عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذى أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ركب راحلته وسار يمشى معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلى فيه يومئذ رجال من المسلمين.
وكان مربدا للتمر * (هاش) * (1) الاطم: الحصن.
(2) مبيضين: عليهم الثياب البيض التى كساها إياهم الزبير وطلحة.
وقال ابن التين: يحتمل أن معناها مستعجلين، قال ابن فارس: يقال: بائض أي مستعجل شرح المواهب 1 / 350.
(*)

لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: " هذا إن شاء الله المنزل ".
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا،
فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما.
ثم بناه مسجدا.
فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول لا هم إن الاجر أجر الآخرة * فارحم الانصار والمهاجرة فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لى.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الاحاديث أن رسول صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الابيات.
هذا لفظ البخاري، وقد تفرد بروايته دون مسلم، وله شواهد من وجوه أخر، وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية.
ولنذكرها هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا فأولا.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا عمرو بن محمد أبو سعيد العنقزى (1)، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى
__________
(1) نسب إلى العنقز وهو الريحان، كان يبيعه أو يزرعه، مات سنة 199 يروى عن إسرائيل والثوري.
اللباب 2 / 156.
(*)

منزلي.
فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه.
فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم
الظهيرة، فضربت بصرى هل أرى ظلا نأوى إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة وقلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع.
ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب، فإذا أنا براعى غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام ؟ فقال: لرجل من قريش.
فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن ؟ قال: نعم ! قلت: هل أنت حالب لى ؟ قال نعم.
فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعى إداوة على فمها خرقة فحلب لى كثبة (1) من اللبن، فصببت على القدح حتى برد أسفله، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله.
فشرب حتى رضيت، ثم قلت: هل آن الرحيل ؟ فارتحلنا والقوم يطلبوننا.
فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ قال: " لا تحزن إن الله معنا ".
حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح، أو رمحين أو قال رمحين أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ! وبكيت، قال: لم تبكى ؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكى، ولكن أبكى عليك.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم اكفناه بما شئت " فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد، ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك
__________
(1) الكثبة: القليل من اللبن.
(*)

فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لاعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلى وغنمى بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حاجة لى فيها " ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنطلق ورجع إلى أصحابه.
ومضى رسول الله صلى عليه وسلم وأنا معه، حتى قدمنا المدينة وتلقاه الناس، فخرجوا في الطرق [ و ] على الاناجير (1)، واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد.
قال: وتنازع القوم أيهم ينزل عليه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل الليلة على بنى النجار أخوال عبدالمطلب لاكرمهم بذلك " فلما أصبح غدا حيث أمر.
قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بنى عبد الدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الاعمى أحد بنى فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا، فقلنا: ما فعل رسول الله ؟ قال: هو على أثرى.
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه.
قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سورا من المفصل.
أخرجاه في الصحيحين من حديث إسرائيل بدون قول البراء: أول من قدم علينا.
إلخ.
فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به.
* * *
__________
(1) الاناجير: السطوح.
(*)

وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذى استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت
أبى بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم علقتها به.
فكان يقال لها: ذات النطاقين لذلك.
قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبى وأمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى لا أركب بعيرا ليس لى " قال: فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى.
قال: لا ولكن ما الثمن الذى ابتعتها به ؟ قال: كذا وكذا.
قال: أخذتها بذلك.
قال: هي لك يا رسول الله.
وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ القصواء، قال: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم.
وروى ابن عساكر من طريق أبى أسامة عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: وهى الجدعاء.
وهكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها الجدعاء والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق.
فحدثت عن أسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل، فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم.

قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندرى أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبغونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة، رسول الله صلى الله عيله وسلم، وأبو بكر، وعامر ابن فهيرة مولى أبى بكر، وعبد الله بن أرقط (1) كذا يقول ابن إسحاق، والمشهور عبدالله بن أريقط الديلى.
وكان إذ ذاك مشركا.
* * * قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبدالله بن أرقط (1) سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار (2) ثم أجاز بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف، ثم استبطن بهما مدلجة مجاج ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذى العضوين، ثم بطن ذى كشر (3)، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الاجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعداء مدلجة
__________
(1) الاصل: أرقد.
وهو تحريف والتصويب من ابن هشام.
(2) الخرار: واد أو ماء بالمدينة.
(3) الاصل: كشد، وما أثبته من معجم البلدان.
(*)

تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما القاحة ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل يقال له ابن الرداء، إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة، ثم خرج
بهما [ دليلهما من العرج، فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة، ويقال ثنية الغائر فيما قال ابن هشام، حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما (2) ] قباء على بنى عمرو بن عوف، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.
وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل، وخالفه في بعضها والله أعلم.
قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلى، حدثنى أخى موسى بن عبادة، حدثنى عبدالله بن سيار، حدثنى إياس بن مالك بن الاوس الاسلمي، عن أبيه، قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بإبل لنا بالجحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمن هذه الابل ؟ فقالوا: لرجل من أسلم.
فالتفت إلى أبى بكر فقال: سلمت إن شاء الله.
فقال: ما اسمك ؟ قال: مسعود.
فالتفت إلى أبى بكر فقال: سعدت إن شاء الله.
قال: فأتاه أبى فحمله على جمل يقال له ابن الرداء.
قلت: وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.
__________
(1) تعهن: عين على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة.
(2) سقطت من ا.
(*)

والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما، لانه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل وهى أبعد من الطريق الجادة.
واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بنى كعب بن خزاعة.
قال ابن هشام: وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد ابن ربيعة بن أصرم.
وقال الاموى: هي عاتكة بنت تبيع حليف بنى منقذ بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس (1) بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو.
ولهذه المرأة من الولد معبد ونضرة وحنيدة بنو أبى معبد، واسمه أكثم بن عبدالعزى ابن معبد بن ربيعه بن أصرم بن صنبيس.
وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا.
* * * وهذه قصة أم معبد الخزاعية: قال يونس عن ابن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم، فأرادوا القرى فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى وقال: اشربي يا أم معبد.
فقالت: اشرب فأنت أحق به.
فرده عليها فشربت، ثم دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل
__________
(1) في الاصابة: خبيس.
(*) (17 - السيرة 2)

أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم تروح.
وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه، فقالوا: أرأيت محمدا من حليته كذا وكذا ؟ فوصفوه لها.
فقالت: ما أدرى ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل.
قالت قريش: فذاك الذى نريد.
وقال الحافظ أبو بكر البزار، حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبدالرحمن بن عقبة بن عبدالرحمن بن جابر بن عبدالله، حدثنا أبى، عن أبيه، عن جابر قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح، مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ.
فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزل بخيمات أم معبد، فأرسلت إليه أم معبد: إنى أرى وجوها حسانا، وإن الحى أقوى على كرامتكم منى.
فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اردد الشفرة وهات لنا فرقا " يعنى القدح.
فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد.
قال: هات لنا فرقا فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملا القدح فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد.
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد، وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد، وإن كان معروفا في النسب.
وروى الحافظ البيهقى من حديث يحيى بن زكريا بن أبى زائدة، حدثنا محمد بن

عبدالرحمن بن أبى ليلى، حدثنا عبدالرحمن بن الاصبهاني، سمعت عبدالرحمن بن أبى ليلى، عن أبى بكر الصديق قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فانتهينا إلى حى من أحياء العرب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبدالله إنما أنا امرأة وليس معى أحد، فعليكما بعظيم الحى إن أردتم القرى.
قال: فلم يجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن
لها بأعنز يسوقها، فقالت: يا بنى انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.
فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق بالشفرة وجئنى بالقدح.
قال: إنها قد عزبت وليس بها لبن، قال: انطلق، فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها ثم حلب حتى ملا القدح، ثم قال: انطلق به إلى أمك.
فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: انطلق بهذه وجئنى بأخرى.
ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم.
فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا.
فكانت تسميه المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذى كان مع المبارك.
فقامت إليه فقالت: يا عبدالله من الرجل الذى كان معك ؟ قال: أو ما تدرين من هو ؟ قالت: لا.
قال: هو نبى الله.
قالت فأدخلني عليه.
قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها.
زاد ابن عبدان في روايته: - قالت: فدلني عليه، فانطلقت معى، وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من أقط ومتاع الاعراب.
قال: فكساها وأعطاها.
قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت.

إسناد حسن.
وقال البيهقى: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي.
والله أعلم * * * وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضى، قالا: حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنى أبو أحمد بشر بن محمد
السكرى، حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، حدثنا أبجر بن الصباح، عن أبى معبد الخزاعى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ودليلهم عبدالله بن أريقط الليثى، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية.
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقى، فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، وقالت: لو كان عندنا شئ ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا شاة في كسر (1) خيمتها فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: فهل بها من لبن ؟ قالت: هي أجهد من ذلك.
قال: تأذنين لى أن أحلبها ؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسحها وذكر اسم الله ومسح ضرعها وذكر اسم الله، ودعا بإناء لها يربض الرهط (2) فتفاجت (3) واجترت فحلب فيه ثجا
__________
(1) كسر الخيمة: جانبها.
(2) يربض الرهط: يشبعهم حتى يربضوا.
(3) تفاجت: فرجت ما بين رجليها.
(*)

حتى ملاه، فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال: ساقى القوم آخرهم.
ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء، فغادره عندها.
ثم ارتحلوا.
قال: فقل ما لبث ان جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا لا نقى بهن (1) مخهن قليل، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت والشاء عازب ؟ !
فقالت: لا والله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت.
فقال: صفيه لى، فو الله إنى لاراه صاحب قريش الذى تطلب.
فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة (2) ولم تزر به صعلة (2)، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفى أشفاره وطف (3)، وفى صوته صحل، أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع (4) وفى لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنأه (5) عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لامره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
فقال - يعنى بعلها -: هذا والله صاحب قريش الذى تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولاجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
__________
(1) يتساوكن: يتمايلن.
والنقى: المخ.
(2) الثجلة: عظم البطن.
والصعلة: صغر الرأس.
(3) وطف: طول.
(4) سطع: طول.
(5) الاصل: تنساه.
وهو تحريف.
وما أثبته عن الوفا لابن الجوزى والمواهب والدلائل لابي نعيم.
ومعنى تشنأه: تبغضه.
(*)

قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والارض يسمعونه ولا يرون من يقول، وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصى ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجازى وسؤدد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح، ضرة الشاة (1) مزبد فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد قال: وأصبح الناس، يعنى بمكة، وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأجابه حسان بن ثابت: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم * وقد سر (2) من يسرى إليهم ويغتدى ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا * عمى وهداة يهتدون بمهتد نبى يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته من يسعد الله يسعد ويهن بنى كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد قال - يعنى عبدالملك بن وهب -: فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الضرة: أصل الضرع.
(2) الوفا ودلائل أبى نعيم: وقدس.
(*)

وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبدالملك بن وهب المذحجي، فذكر مثله سواء.
وزاد في آخره: قال عبدالملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم رواه أبو نعيم من طرق، عن بكر بن محرز الكلبى الخزاعى، عن أبيه محرز ابن مهدى، عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أخرج من مكة خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبدالله بن أريقط الليثى، فمروا بخيمة أم معبد، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء القبة، وذكر مثل ما تقدم سواء.
قال.
وحدثناه، فيما أظن، محمد بن أحمد بن على بن مخلد، حدثنا محمد بن يونس ابن موسى، يعنى الكديمى، حدثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبدالمطلب، حدثنا محمد بن سليمان بن سليط الانصاري، حدثنى أبى، عن أبيه سليط البدرى، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر أبن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهى لا تعرفه فقال لهم: يا أم معبد هل عندك من لبن ؟ قالت: لا والله إن الغنم لعازبة.
قال: فما هذه الشاة ؟ قالت: خلفها الجهد عن الغنم ؟ ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم.
* * * ثم قال البيهقى: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة.
ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، إملاء، حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، حدثنا

أبو الوليد، حدثنا عبدالله بن إياد بن لقيط، حدثنا إياد بن لقيط، عن قيس بن النعمان، قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ها هنا عناقا (2) حملت أول الشتاء، وقد أخدجت (2) وما بقى لها من لبن.
فقال: ادع بها.
فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعى، ثم حلب فشرب.
فقال الراعى: بالله من أنت ؟ فو الله ما رأيت مثلك قط.
قال: أو تراك تكتم على
حتى أخبرك ؟ قال: نعم.
قال: فإنى محمد رسول الله.
فقال: أنت الذى تزعم قريش أنه صابئ ؟ قال: إنهم ليقولون ذلك.
قال: فإنى أشهد أنك نبى، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا فعل ما فعلت إلا نبى، وأنا متبعك.
قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، فإذا بلغك أنى قد ظهرت فأتنا.
ورواه أبو يعلى الموصلي، عن جعفر بن حميد الكوفى، عن عبدالله بن إياد ابن لقيط به.
* * * وقد ذكر أبو نعيم ها هنا قصة عبدالله بن مسعود فقال: حدثنا عبدالله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبدالله بن مسعود.
قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن معيط بمكة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقالا: يا غلام
__________
(1) العناق: الانثى من ولد المعز.
(2) أخدجت: جاءت بولدها ناقص الخلق.
(*)

عندك لبن تسقينا ؟.
فقلت: إنى مؤتمن ولست بساقيكما، فقالا: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت: نعم.
فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا، فحفل الضرع وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر وسقيانى، ثم قال للضرع: اقلص فقلص.
فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب، يعنى القرآن.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك غلام معلم " فأخذت
من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.
فقوله في هذا السياق: " وقد فرا من المشركين " ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الاحوال قبل الهجرة.
فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم، وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها.
والله أعلم.
* * * وقال الامام أحمد (1): حدثنا عبدالله بن مصعب بن عبدالله، هو الزبير، حدثنى أبى، عن فائد مولى عبادل، قال: خرجت مع إبراهيم بن عبدالرحمن بن سعد، حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد، وسعد وهو الذى دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق ركوبة (2) فقال إبراهيم: ما حدثك أبوك ؟ قال ابن سعد: حدثنى أبى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم ومعه أبو بكر، وكانت لابي بكر عندنا بنت
__________
(1) سقط هذا الخبر من (ا).
(2) الاصل ركونة.
وهو تحريف.
وهى ثنية بين مكة والمدينة عند العرج.
(*)

مسترضعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال له سعد: هذا الغامر من ركوبة، وبه لصان من أسلم يقال لهما المهانان.
فإن شئت أخذنا عليهما.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذ بنا عليهما ".
قال سعد: فخرجنا حتى إذ أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه: هذا اليماني.
فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الاسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان.
فقال: " بل أنتما المكرمان " وأمرهما أن يقدما عليه المدينة، فخرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين أبو أمامة أسعد بن زرارة ؟ " فقال سعد بن خيثمة: إنه أصاب قبلى
يا رسول الله أفلا أخبره ذلك ؟ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفت رسول الله إلى أبى بكر فقال: يا أبا بكر هذا المنزل.
رأيتنى أنزل إلى حياض كحياض بنى مدلج.
انفرد به أحمد.

فصل في دخوله عليه السلام المدينة، وأين استقر منزله بها وما يتعلق به قد تقدم فيما رواه البخاري، عن الزهري، عن عروة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة عند الظهيرة.
قلت: ولعل ذلك كان بعد الزوال، لما ثبت في الصحيحين من حديث إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب، عن أبى بكر في حديث الهجرة قال: فقدمنا ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل على بنى النجار أخوال عبدالمطلب أكرمهم بذلك ".
وهذا والله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء، فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حر الظهيرة وأقام تحت تلك النخلة، ثم سار بالمسلمين فنزل قباء وذلك ليلا، وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا، فإن العشى من الزوال.
وإما أن يكون المراد بذلك لما رحل من قباء، كما سيأتي، فسار فما انتهى إلى بنى النجار إلا عشاء.
كما سيأتي بيانه.
والله أعلم.
وذكر البخاري عن الزهري، عن عروة، أنه نزل في بنى عمرو بن عوف بقباء، وأقام فيهم بضع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء في تلك الايام.
ثم ركب ومعه الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده، وكان مربدا

لغلامين يتيمين وهما سهل وسهيل، فابتاعه منهما واتخذه مسجدا.
وذلك في دار بنى النجار رضى الله عنهم.
* * * وقال محمد بن إسحاق، حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبدالرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثنى رجال من قومي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لما بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفنا قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبج إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك في أيام حارة.
حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قيلة هذا جدكم قد جاء.
فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس، وما يعرفونه من أبى بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك.
وقد تقدم مثل ذلك في سياق البخاري، وكذ ذكر موسى بن عقبة في مغازيه.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: إنى لا سعى في الغلمان يقولون: جاء محمد.
فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: جاء محمد.
فأسعى ولا أرى شيئا.

قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر، فكمنا في بعض خراب المدينة، ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الانصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الانصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الانصار: انطلقا آمنين مطاعين.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو ؟ أيهم هو ؟ فما رأينا منظرا شبيها به.
قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أر يومين شبيها بهما.
ورواه البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، عن محمد بن إسحاق الصنعانى، عن أبى النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بى المغيرة، عن ثابت، عن أنس بنحوه، أو مثله.
وفى الصحيحين من طريق إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء، عن أبى بكر في حديث الهجرة قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله.
فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عمرو الاديب، أخبرنا أبو بكر الاسماعيلي، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع * * * قال محمد بن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يذكرون يعنى حين نزل، بقباء على كلثوم بن الهدم أخى بنى عمرو بن عوف ثم أحد بنى عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.
ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان يقال لبيته بيت العزاب.
والله أعلم.
ونزل أبو بكر رضى الله عنه على خبيب بن إساف، أحد بنى الحارث بن الخزرج بالسنح، وقيل: على خارجة بن زيد بن أبى زهير أخى بنى الحارث بن الخزرج.
قال ابن إسحاق: وأقام على بن أبى طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده.
ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم، فكأن على بن أبى طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.
يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه، فيعطيها شيئا معه فتأخذه، فاستربت بشأنه فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الذى يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدرى ما هو، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك ؟.
قالت: هذا سهل بن حنيف، وقد عرف أنى امرأة لا أحد لى، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال: احتطبي بهذا.
فكان على رضى الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجده.
ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك.
وقال عبدالله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه عليه السلام أقام فيهم ثمانى عشرة ليلة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه البخاري من طريق الزهري، عن عروة، أنه عليه السلام أقام فيهم بضع عشرة ليلة.
وحكى موسى بن عقبة عن مجمع بن يزيد بن حارثة أنه قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، يعنى في بنى عمرو بن عوف بقباء، اثنتين وعشرين ليلة.
وقال الواقدي: ويقال أقام فيهم أربع عشرة ليلة.
* * * قال ابن إسحاق: فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بنى سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذى في بطن الوادي، وادى رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بنى سالم، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
لناقته فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا وازت دار بنى بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو، رجال من بنى بياضة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها.

فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة اعترضه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، في رجال من بنى ساعدة، فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا في العدد والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا وازت (1) دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بنى الحارث بن الخزرج فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مامورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدى بن النجار، وهم أخواله، دنيا، أم عبدالمطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضه سليط بن قيس، وأبو سليط أسيرة بن [ أبى ] (2) خارجة في رجال من بنى عدى بن النجار فقالوا: يا رسول الله هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة.
قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة " فخلوا سبيلها.
فانطلقت، حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت على باب مسجده عليه السلام اليوم، وكان يومئذ مربدا لغلامين يتيمين من بنى مالك بن النجار، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء.
قلت: وقد تقدم في رواية البخاري من طريق الزهري، عن عروة أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة.
والله أعلم.
* * * وذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في طريقه بعبد الله
__________
(1) ا: دارت وفى ابن هشام وازنت (2) من ابن هشام.
(*)

ابن أبى بن سلول وهو في بيت، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسهم، فقال عبدالله: انظر الذين دعوك فانزل عليهم.
فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من الانصار، فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه: لقد من الله علينا بك يا رسول الله وإنا نريد أن نعقد على رأسه التاج ونملكه علينا.
قال موسى بن عقبة: وكانت الانصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى عمرو بن عوف، فمشوا حول ناقته، لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له.
وكلما مر بدار من دور الانصار دعوه إلى المنزل فيقول صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلنى الله.
فلما انتهت إلى دار أبى أيوب بركت به على الباب، فنزل فدخل بيت أبى أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه.
قال ابن إسحاق: لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عنها، حتى وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرچعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها.
فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد، رحله فوضعه في بيته، ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسأل عن المربد لمن هو ؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل (18 - السيرة 2)

ابني عمرو وهما يتيمان لى، وسأرضيهما منه فاتخذه مسجدا.
فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبى ايوب حتى بنى مسجده ومساكنه فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من المهاجرين والانصار.
وستأتى قصة بناء المسجد قريبا إن شاء الله.
* * * وقال البيهقى في الدلائل: وقال أبو عبد الله: أخبرنا أبو الحسن على بن عمرو الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري، حدثنا محمد بن سليمان بن إسماعيل بن أبى الورد، حدثنا إبراهيم بن صرمة، حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبدالله بن أبى طلحة، عن أنس، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخلنا جاء الانصار برجالها ونسائها فقالوا: إلينا يا رسول الله.
فقال " دعوا الناقة فإنها مأمورة ".
فبركت على باب أبى أيوب فخرجت جوار من بنى النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن.
نحن جوار من بنى النجار * يا حبذا محمد من جار فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أتحبونني ؟ " فقالوا: إى والله يا رسول الله.
فقال: " وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم ".
هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد خرجه الحاكم في مستدركه كما يروى.
ثم قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمى، أخبرنا أبو القاسم عبدالرحمن بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد، حدثنا عمر بن الحسن الحلبي، حدثنا أبو خيثمة المصيصى، حدثنا عيسى بن يونس، عن عوف الاعرابي، عن ثمامة، عن أنس.

قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحى من بنى النجار، وإذا جوار يضربن بالدفوف يقلن: نحن جوار من بنى النجار * يا حبذا محمد من جار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يعلم الله أن قلبى يحبكم ".
ورواه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به.
وفى صحيح البخاري عن معمر، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين، حسبت أنه قال من عرس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا فقال: " اللهم أنتم من أحب الناس إلى " قالها ثلاث مرات.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنى أبى، حدثنى عبد العزيز ابن صهيب، حدثنا أنس بن مالك.
قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف.
قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذى بين يديك ؟ فيقول: هذا الرجل يهدينى السبيل.
فيحسب الحاسب أنما يهديه الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير.
فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبى الله هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اللهم اصرعه " فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم، ثم قال: مرنى يا نبى الله بما شئت.
فقال: " قف مكانك ولا تتركن أحدا يلحق بنا ".

قال: فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة (1) له.
قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب الحرة، ثم بعث إلى الانصار فجاءوا فسلموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا حولهما بالسلاح.
وقيل في المدينة: جاء نبى الله صلى الله عليه وسلم.
فاستشرفوا نبى الله ينظرون إليه ويقولون: جاء نبى الله.
قال: فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار ابى أيوب.
قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبدالله بن سلام، وهو في نخل لاهله يحترف.
لهم، فعجل أن يضع الذى يحترف فيها، فجاء وهى معه، وسمع من نبى الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى أهله.
وقال نبى الله: أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبى الله، هذه دارى وهذا بابى.
قال: فانطلق فهيى لنا مقيلا.
فذهب فهيأ ثم جاء.
فقال: يا رسول الله قد هيأت مقيلا، قوما على بركة الله فقيلا.
فلما جاء نبى الله صلى الله عليه وسلم جاء عبدالله بن سلام فقال: أشهد أنك نبى الله حقا، وأنك جئت بحق ولقد علمت يهود أنى سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم.
فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فو الله الذى لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنى رسول الله حقا، وأنى جئت بحق أسلموا ".
__________
(1) المسلحة: قوم ذوو سلاح، وتطلق أيضا على الثغر والمرقب.
والمراد أنه كان مدافعا عن الرسول (*)

فقالوا: ما نعلمه، ثلاثا.
وكذا رواه البخاري منفردا به، عن محمد غير منسوب، عن عبد الصمد به.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبى حبيب، عن مرثد بن عبدالله اليزنى، عن أبى رهم السماعي، حدثنى أبو أيوب، قال لما نزل على رسول الله صلى عليه وسلم في بيتى نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، إنى أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل.
فقال: " يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت ".
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن.
فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ فيؤذيه.
قال: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه، فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغى بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر ليده فيه أثرا، قال: فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمى رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك ؟ فقال " إنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي، فأما أنتم فكلوه " قال: فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.
وكذلك رواه البيهقى، من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب،

عن أبى الحسن، أو أبى الخير، مرثد بن عبدالله اليزنى، عن أبى رهم، عن أبى أيوب فذكره.
ورواه أبو بكر بن أبى شيبة، عن يونس بن محمد المؤدب، عن الليث.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمرو الحيرى، حدثنا عبدالله ابن محمد، حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا أبو النعمان، حدثنا ثابت بن يزيد، حدثنا عاصم الاحول، عن عبدالله بن الحارث، عن أفلح مولى أبى أيوب، عن أبى أيوب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه فنزل في السفل وأبو أيوب في العلو، فاننتبه أبو أيوب فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبى صلى الله عليه وسلم، يعنى في ذلك، فقال: " السفل أرفق بنا " فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في العلو، وأبو أيوب في السفل.
فكان يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فإذا جئ به سأل عن موضع أصابعه فيتبع موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصنع له طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: لم يأكل.
ففزع وصعد إليه فقال: أحرام ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ولكني أكرهه " قال فإنى أكره ما تكره، أو ما كرهت.
قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الملك.
رواه مسلم عن أحمد بن سعيد به.
وثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك، قال: جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر (1)، وفى رواية بقدر، فيه خضروات من بقول، قال: فسأل فأخبر بما فيها، فلما رآها كره أكلها، قال: " كل فإنى أناجي من لا تناجى ".
__________
(1) ببدر: بطبق مستدير يشبه البدر.
(*)

وقد روى الواقدي أن أسعد بن زرارة لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار أبى أيوب أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده.
وروى عن زيد بن ثابت أنه قال: أول هدية أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل دار أبى أيوب، أنا جئت بها، قصعة فيها خبز مثرود بلبن وسمن، فقلت: أرسلت بهذه القصعة أمي.
فقال: " بارك الله فيك " ودعا أصحابه فأكلوا، ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم.
وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والاربعة يحملون الطعام يتناوبون، وكان مقامه في دار أبى أيوب سبعة أشهر.
قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل في دار أبى أيوب مولاه زيد بن حارثة وأبا رافع، ومعهما بعيران وخمسمائة درهم، ليجيئا بفاطمة وأم كلثوم ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رقية قد هاجرت مع زوجها عثمان، وزينب عند زوجها بمكة أبى العاص بن الربيع، وجاءت معهم أم أيمن امرأة زيد بن حارثة وخرج معهم عبدالله بن أبى بكر بعيال أبى بكر وفيهم عائشة أم المؤمنين ولم يدخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * وقال البيهقى: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا خلف بن عمرو العكبرى، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عطاف بن خالد، حدثنا صديق بن موسى، عن عبدالله بن الزبير، أن رسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن محمد بن على وبين دار الحسن ابن زيد، فأتاه الناس فقالوا: يا رسول الله المنزل.
فانبعثت به راحلته فقال: " دعوها فإنها مأمورة ".

ثم خرجت به حتى جاءت موضع المنبر، فاستناخت ثم تحللت، وثم عريش كانوا يعرشونه ويعمرونه ويتبردون فيه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فيه
فآوى إلى الظل فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله إن منزلي أقرب المنازل إليك فأنقل رحلك إلى ؟ قال: نعم.
فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه رجل فقال يا رسول الله أين تحل ؟ قال: " إن الرجل مع رحله حيث كان " وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش اثنتى عشرة ليلة حتى بنى المسجد.
وهذه منقبة عظيمة لابي أيوب خالد بن زيد رضى الله عنه، حيث نزل في داره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روينا من طريق يزيد بن أبى حبيب عن محمد بن على بن عبدالله بن عباس رضى الله عنه، أنه لما قدم أبو أيوب البصرة، وكان ابن عباس نائبا عليها من جهة على ابن أبى طالب رضى الله عنه، فخرج له ابن عباس عن داره حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وملكه كل ما أغلق عليها بابها.
ولما أراد الانصراف أعطاه ابن عباس عشرين ألفا، وأربعين عبدا.
وقد صارت دار أبى ايوب بعده إلى مولاه أفلح، فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بألف دينار وأصلح ما وهى من بنيانها، ووهبها لاهل بيت فقراء من أهل المدينة.
وكذلك نزوله عليه السلام في دار بنى النجار واختيار الله له ذلك منقبة عظيمة، وقد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا، كل دار محلة مستقلة بمساكنها ونخيلها وزروعها وأهلها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلتهم وهى كالقرى المتلاصقة، فاختار الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم دار بنى مالك بن النجار.
* * *

وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة، سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير دور الانصار بنو النجار، ثم بنو عبد الاشهل،
ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفى كل دور الانصار خير ".
فقال سعد بن عبادة: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا.
فقيل: قد فضلكم على كثير.
هذا لفظ البخاري.
وكذلك رواه البخاري ومسلم من حديث أنس وأبى سلمة، عن أبى أسيد مالك بن ربيعة، ومن حديث عبادة بن سهل عن أبى حميد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله سواء.
زاد في حديث أبى حميد: فقال أبو أسيد لسعد بن عبادة: ألم تر أن النبي صلى الله عليه وسلم خير الانصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خيرت دور الانصار فجعلتنا آخرا ؟ قال: " أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الاخيار ".
[ و ] قد ثبت لجميع من أسلم من أهل المدينة وهم الانصار الشرف والرفعة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: " والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (1) " وقال تعالى: " والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (2) ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو لا الهجرة لكنت امرءا من الانصار، ولو
__________
(1) سورة التوبة 100.
(2) سورة الحشر 90.
(*)

سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادى الانصار وشعبهم، الانصار شعار والناس دثار ".
وقال: " الانصار كرشى وعيبتى ".
وقال: " أنا سلم لم سالمهم وحرب لم حاربهم ".
وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، حدثنى عدى بن ثابت، قال: سمعت البراء بن عازب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الانصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ".
وقد أخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث شعبة به.
وقال البخاري أيضا: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن عبدالرحمن بن عبد الله بن جبير، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " آية الايمان حب الانصار، وآية النفاق بغض الانصار ".
ورواه البخاري أيضا عن أبى الوليد [ و ] الطيالسي ومسلم من حديث خالد بن الحارث وعبد الرحمن بن مهدى، أربعتهم عن شعبة به.
و الآيات والاحاديث في فضائل الانصار كثيرة جدا.
وما أحسن ما قال أبو قيس صرمة بن أبى أنس المتقدم ذكره، أحد شعراء الانصار، في قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ونصرهم إياه ومواساتهم له ولاصحابه، رضى الله عنهم أجمعين.
قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة بن أبى أنس أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام وما خصهم به من رسوله عليه السلام: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه * فلم ير من يؤوى ولم ير داعيا فلما أتانا واطمأنت به النوى (1) * وأصبح مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنت به النوى * وكان له عونا من الله باديا يقص لنا ما قال نوح لقومه * وما قال موسى إذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا * قريبا ولا يخشى من الناس نائيا (2) بذلنا له الاموال من جل (3) مالنا * وأنفسنا عند الوغى والتآسيا نعادي الذى عادى من الناس كلهم * جميعا ولو كان الحبيب المواسيا ونعلم أن الله لا شئ غيره * وأن كتاب الله أصبح هاديا (4) أقول إذا صليت في كل بيعة * حنانيك لا تظهر علينا الاعاديا أقول إذا جاوزت أرضا مخيفة * تباركت أسم الله أنت المواليا فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة * وإنك لا تبقى لنفسك باقيا فو الله ما يدرى الفتى كيف سعيه * إذا هو لم يجعل له الله واقيا ولا تحفل النخل المعيمة (5) ربها * إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا ذكرها ابن إسحاق وغيره، ورواها عبدالله بن الزبير الحميدى وغيره، عن سفيان ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن عجوز من الانصار قالت: رأيت عبد الله بن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس يروى هذه الابيات.
رواه البيهقى.
__________
(1) ابن هشام: فلما أتانا أظهر الله دينه.
(2) ح: باغيا.
(3) ابن هشام: حل.
(4) ابن هشام: ونعلم أن الله أفضل هاديا.
(5) المعيمة: العطشى.
والاصل: المقيمة، وما أثبته عن ابن هشام.
(*)

فصل وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه السلام إليها وصارت كهفا لاولياء الله وعباده الصالحين ومعقلا وحصنا منيعا للمسلمين، ودار هدى للعالمين.
والاحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه.
إن شاء الله.
وقد ثبت في الصحيحين من طريق حبيب بن يساف، عن جعفر بن عاصم، عن
أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الايمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ".
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن شبابة، عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفى الصحيحين أيضا من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع أبا الحباب سعيد بن يسار، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهى المدينة، تنقى الناس كما ينقى الكير خبث الحديد (1) ".
وقد انفرد الامام مالك عن بقية الائمة الاربعة بتفضيلها على مكة.
وقد قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الوليد وأبو بكر بن عبدالله، قالا حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو موسى الانصاري، حدثنا سعيد بن سعيد، حدثنى أخى، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلى فأسكني أحب البلاد إليك " فأسكنه الله المدينة.
وهذا حديث غريب جدا.

والمشهور عن الجمهور أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذى ضم جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها ها هنا، ومحلها ذكرناها في كتاب المناسك من الاحكام إن شاء الله تعالى.
وأشهر دليل لهم في ذلك ما قال الامام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرنا أبو سلمة بن عبدالرحمن، أن عبدالله بن عدى بن الحمراء أخبره، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: " والله إنك
لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى، ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت ".
وكذا رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان عن الزهري به.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث الليث، عن عقيل عن الزهري به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه يونس عن الزهري به.
ورواه محمد بن عمرو عن أبى سلمة بن عبدالرحمن، عن أبى هريرة.
وحديث الزهري عندي أصح.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبى سلمة بن عبدالرحمن، عن أبى هريرة، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة فقال: " علمت أنك خير أرض الله وأحب الارض إلى الله، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " وكذا رواه النسائي من حديث معمر به.
قال الحافظ البيهقى: وهذا وهم من معمر.

وقد رواه بعضهم عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، وهو أيضا وهم، والصحيح رواية الجماعة.
وقال أحمد أيضا: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبى سلمة، عن بعضهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في سوق الحزورة: " والله إنك لخير أرض الله وأحب الارض إلى الله، ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت ".
ورواه الطبراني، عن أحمد بن خليد الحلبي، عن الحميدى، عن ابن أخى الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبدالله بن عدى بن الحمراء به.
فهذه طرق هذا الحديث، وأصحها ما تقدم.
والله أعلم.

وقائع السنة الاولى من الهجرة ذكر ما وقع في السنة الاولى من الهجرة النبوية من الحوادث والوقائع العظيمة اتفق الصحابة رضى الله عنهم في سنة ست عشرة، وقيل سنة سبع عشرة، أو ثمانى عشرة، في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة.
وذلك أن أمير المومنين عمر رضى الله عنه رفع إليه صك، أي حجة، لرجل على آخر، وفيه أنه يحل عليه في شعبان، فقال عمر: أي شعبان ؟ أشعبان هذه السنة التى نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية ؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتأريخ الفرس.
فكره ذلك.
وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحدا بعد واحد.
وقال قائل: أرخوا بتأريخ الروم.
وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدونى.
فكره ذلك.
وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: بل بمبعثه.
وقال آخرون: بل بهجرته.
وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام.
فمال عمر رضى الله عنه إلى التأريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره، واتفقوا معه على ذلك.

وقال البخاري في صحيحه: التاريخ ومتى أرخوا التاريخ: حدثنا عبدالله بن مسلم،
حدثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبى الزناد عن أبيه.
قال: استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة.
وقال أبو داود الطيالسي عن قرة (1) بن خالد السدوسى، عن محمد بن سيرين، قال: قام رجل إلى عمر فقال أرخوا.
فقال: ما أرخوا ؟ فقال: شئ تفعله الاعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا.
فقال عمر: حسن فأرخوا.
فقالوا: من أي السنين نبدأ ؟ فقالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته، ثم أجمعوا على الهجرة، ثم قالوا وأى الشهور نبدأ ؟ قالوا: رمضان، ثم قالوا: المحرم، فهو مصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة، حدثنا نوح بن قيس الطائى، عن عثمان بن محصن، أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى: " والفجر وليال عشر ".
هو المحرم فجر السنة.
وروى عن عبيد بن عمير قال: إن المحرم شهر الله، وهو رأس السنة يكسى [ فيه ] البيت، ويؤرخ به الناس، ويضرب فيه الورق.
قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، قال: إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الاول، وإن الناس أرخوا لاول السنة.
__________
(1) الاصل: فروة.
وهو تحريف.
(*)

وروى محمد بن إسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح، عن الشعبى أنهما قالا: أرخ
بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم واسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤى، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة، أو ثمانى عشرة.
وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه في السيرة العمرية ولله الحمد.
والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الاسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم.
وهذا هو قول جمهور الائمة.
وحكى السهيلي وغيره عن الامام مالك أنه قال: أول السنة الاسلامية ربيع الاول، لانه الشهر الذى هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ وقد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم " أي من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سنى التاريخ عام الهجرة ] (1).
ولا شك أن هذا الذى قاله الامام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل على خلافه، وذلك لان أول شهور العرب المحرم، فجعلوا السنة الاولى سنة الهجرة.
وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف، لئلا يختلط النظام.
والله أعلم.
* * * فنقول وبالله المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة، وقد بايع الانصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق، وهى ليلة الثاني عشر من ذى الحجة قبل سنة الهجرة.
ثم رجع الانصار وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة
__________
(1) سقطت من ح.
(*) (19 - السيرة - 2)

فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه في الطريق كما قدمنا، ثم خرجا على الوجه الذى تقدم بسطه، وتأخر على بن أبى طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع، ثم لحقهم بقباء، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء.
قال الواقدي وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول.
وحكاه ابن إسحاق، إلا أنه لم يعرج عليه، ورجح أنه لثنتى عشرة ليلة خلت منه.
وهذا هو المشهور الذى عليه الجمهور.
وقد كانت مدة إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في أصح الاقوال.
وهو رواية حماد بن سلمة، عن أبى حمزة الضبى عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن معمر، عن روح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة.
وتقدم أن ابن عباس كتب أبيات صرمة بن أبى أنس بن قيس: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقال الواقدي: عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه استشهد بقول صرمة: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا

وهكذا رواه ابن جرير، عن الحارث، عن محمد بن سعد، عن الواقدي، خمس
عشرة حجة، وهو قول غريب جدا.
وأغرب منه ما قال ابن جرير: حدثت عن روح بن عبادة، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانى سنين بمكة، وعشرا بالمدينة.
وكان الحسن يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة.
وهذا القول الآخر الذى ذهب إليه الحسن البصري من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار، فيما رواه ابن جرير عنهم.
وهو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن هشام عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا.
وقد قدمنا عن الشعبى أنه قال: قرن إسرافيل برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يلقى إليه الكلمة والشئ.
وفى رواية يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبريل.
وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول الشعبى هذا.
وحاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال: إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا، وقول من قال: ثلاث عشرة.
بهذا الذى ذكره الشعبى.
والله أعلم.

فصل ولما حل الركاب النبوى بالمدينة، وكان أول نزوله بها في دار بنى عمرو بن عوف، وهى قباء كما تقدم، فأقام بها أكثر ما قيل، ثنتين وعشرين ليلة.
وقيل ثمانى عشرة ليلة.
وقيل بضع عشرة ليلة وقال موسى بن عقبة: ثلاث ليال.
والاشهر ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام أقام فيهم بقباء من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة.
وقد أسس في هذه المدة المختلف في مقدارها، على ما ذكرناه، مسجد قباء.
وقد ادعى السهيلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسسه في أول يوم قدم إلى قباء، وحمل على ذلك قوله تعالى " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم " ورد قول من أعربها: من تأسيس أول يوم.
وهو مسجد شريف فاضل، نزل فيه قوله تعالى: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " (1) كما تكلمنا على تقرير ذلك في التفسير.
وذكرنا الحديث الذى في صحيح مسلم أنه مسجد المدينة والجواب عنه.
وذكرنا الحديث الذى رواه الامام أحمد: حدثنا حسن بن محمد حدثنا أبو إدريس، حدثنا شرحبيل، عن عويم بن ساعدة، أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذى تطهرون به ؟ " قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان
__________
(1) سورة التوبة 108.
(*)

لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا.
وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، وله شواهد أخر.
وروى عن خزيمة بن ثابت ومحمد بن عبدالله بن سلام وابن عباس.
وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبى ميمونة، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ".
قال: كانوا
يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه.
قلت: ويونس بن الحارث هذا ضعيف.
والله أعلم.
وممن قال بأنه المسجد الذى أسس على التقوى ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، ورواه على بن أبى طلحة، عن ابن عباس، وحكى عن الشعبى والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير وعطية العوفى، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره فيما بعد ويصلى فيه، وكان يأتي قباء كل سبت تارة راكبا وتارة ماشيا.
وفى الحديث: " صلاة في مسجد قباء كعمرة ".
وقد ورد في حديث أن جبرائيل عليه السلام هو الذى أشار للنبى صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبلة مسجد قباء.
فكان هذا المسجد أول مسجد بنى في الاسلام بالمدينة، بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة.
واحترزنا بهذا عن المسجد الذى بناه الصديق بمكة عند باب داره يتعبد فيه ويصلى، لان ذاك كان لخاصة نفسه لم يكن للناس عامة، والله أعلم.

وقد تقدم إسلام سلمان في البشارات، [ و ] أن سلمان الفارسى لما سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إلى المدينة ذهب إليه وأخذ معه شيئا فوضعه بين يديه وهو بقباء [ و ] قال: هذا صدقة.
فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكله، وأمر أصحابه فأكلوا منه، ثم جاء مرة أخرى ومعه شئ فوضعه وقال هذه هدية فأكل منه وأمر أصحابه فأكلوا.
تقدم الحديث بطوله ] (1).
فصل
في إسلام عبدالله بن سلام رضى الله عنه قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن زرارة، عن عبدالله ابن سلام، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل (2) الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شئ سمعته يقول: " أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".
ورواه الترمذي وابن ماجه من طرق، عن عوف الاعرابي، عن زرارة بن أبى أوفى به عنه.
وقال الترمذي: صحيح.
ومقتضى هذا السياق يقتضى أنه سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ورآه أول قدومه حين أناخ بقباء في بنى عمرو بن عوف.
وتقدم في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس، أنه اجتمع به حين أناخ عند دار
__________
(1) سقط من ح.
(2) انجفل الناس: انقلعوا فمضوا.
(*)

أبى أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بنى النجار كما تقدم، فلعله رآه أول ما رآه بقباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بنى النجار.
والله أعلم.
وفى سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاء عبدالله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أنى سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم عنى قبل أن يعلموا أنى قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أنى قد أسلمت قالوا في ما ليس في.
فأرسل نبى الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال لهم: " يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله، فو الله الذى لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنى رسول الله حقا وأنى جئتكم بحق فأسلموا " قالوا: ما نعلمه.
قالوا: [ ذلك ] للنبى صلى الله عليه وسلم
قالها ثلاث مرار.
قال: " فأى رجل فيكم عبدالله (1) بن سلام ؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا.
قال: أفرأيتم إن أسلم ؟ قالوا: حاش لله، ما كان ليسلم.
قال: " يا بن سلام اخرج عليهم ".
فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله، فو الله الذى لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق.
فقالوا: كذبت.
فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا لفظه.
وفى رواية: فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق قالوا شرنا وابن شرنا، وتنقصوه فقال: يا رسول الله هذا الذى كنت أخاف.
__________
(1) ابن هشام: الحصين بن سلام.
(*)

وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الاصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعانى، حدثنا عبدالله بن أبى بكر، حدثنا حميد عن أنس، قال: سمع عبدالله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض له، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد [ ينزع ] إلى أبيه أو إلى أمه.
قال: أخبرني بهن جبريل آنفا.
قال: جبريل ! قال: نعم.
قال: عدو اليهود من الملائكة.
ثم قرأ (1): " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ".
قال: " أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت (2)، وأما الولد فإذا سبق
ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد ".
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.
يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامى قبل أن تسألهم عنى بهتونى.
فجاءت اليهود.
فقال: أي رجل عبدالله فيكم ؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا.
قال: أرأيتم إن أسلم ؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
قالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
قال: هذا الذى كنت أخاف يا رسول الله.
__________
(1) أي الرسول صلوات الله عليه.
(2) قال القسطلائى: هي القطعة المنفردة المتعلقة بالكبد، وهى أهنأ طعام وأمرؤه.
(*)

ورواه البخاري عن عبد بن حميد (1) عن عبدالله بن أبى بكر به.
ورواه عن حامد بن عمر عن بشر بن المفضل عن حميد به.
* * * قال محمد بن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر، عن يحيى بن عبدالله، عن رجل من آل عبدالله بن سلام، قال: كان من حديث عبدالله بن سلام حين أسلم وكان حبرا عالما، قال: لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته و [ زمانه ] الذى كنا نتوكف (2) له، فكنت بقباء مسرا بذلك (3) صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، المدينة.
فلما قدم نزل بقباء في بنى عمرو بن عوف، فأقبل (4) رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لى أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة.
فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت عمتى حين
سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت.
قال: قلت لها: أي عمة، والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به.
قال: فقالت له: يا ابن أخى أهو الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال: قلت لها نعم.
قالت: فذاك إذا.
قال: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتى فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامى من اليهود وقلت: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت (5) وإنى أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم، ثم تسألهم عنى فيخبروك
__________
(1) الاصل: عبد بن منير وهو خطأ.
(2) نتوكف: نترقب وننتظر.
وفى الاصل: نتوقف مصحفة.
وهو تحريف: وما أثبته عن ابن هشام.
(3) ابن هشام: فكنت مسرا لذلك صامتا عليه.
(4) ابن هشام: فلما نزل بقباء على بنى عمرو بن عوف أقبل.
(5) البهت: جمع بهيت، كقضب وقضيب.
والبهيت هو الذى يبهت القول ويختلقه.
(*)

كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامى، فإنهم إن يعلموا بذلك بهتونى وعابوني.
وذكر نحو ما تقدم.
قال: فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى، وأسلمت عمتى خالدة بنت الحارث.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر، حدثنى محدث عن صفية بنت حيى قالت: لم يكن أحد من ولد أبى وعمى أحب إليهما منى، لم ألقهما في ولد لهما قط أهش إليهما إلا أخذانى دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، قرية بنى عمرو بن عوف، غدا إليه أبى وعمى أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فو الله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إلى واحد
منهما، فسمعت عمى أبا ياسر يقول لابي: أهو هو ؟ قال: نعم والله ! قال: تعرفه بنعته وصفته ؟ قال: نعم والله.
قال: فماذا في نفسك منه ؟ قال: عداوته والله ما بقيت ! وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعون، فإن الله قد جاءكم بالذى كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه.
فانطلق أخوه حيى بن أخطب، وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بنى النضير، فجلس إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه، وكان فيهم مطاعا، فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا.
فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعنى في هذا الامر واعصني فيما شئت بعده لا تهلك.
قال: لا والله لا أطيعك أبدا، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.

قلت: أما أبو ياسر واسمه حيى بن أخطب فلا أدرى ما آل إليه أمره، وأما حيى ابن أخطب والد صفية بنت حيى فشرب عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبرا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل مقاتلة بنى قريظة.
كما سيأتي إن شاء الله.
فصل ولما ارتحل عليه السلام من قباء وهو راكب ناقته القصواء، وذلك يوم الجمعة، أدركه وقت الزوال وهو في دار بنى سالم بن عوف، فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك، في واد يقال له وادى رانواناء.
فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقا، لانه، والله أعلم، لم يكن يتمكن هو وأصحابه بمكة من الاجتماع حتى
يقيموا بها جمعة ذات خطبة وإعلان بمواعظة، وما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له، وأذيتهم إياه.
ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قال ابن جرير: حدثنى يونس بن عبدالاعلى، أخبرنا ابن وهب، عن سعيد بن عبدالرحمن الجمحى، أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بنى سالم بن عمرو بن عوف رضى الله عنهم: " الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على

فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان: ودنو من الساعة، وقرب من الاجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا.
وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله.
فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة.
ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوى بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد.
والذى صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى: " ما يبدل
القول لدى وما أنا بظلام للعبيد ".
واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه " من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " " ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما " وإن تقوى الله توقى مقته، وتوقى عقوبته، وتوقى سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضى الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه

وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
هكذا أوردها ابن جرير وفى السند إرسال.
وقال البيهقى: باب أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ، أخبرنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثنى المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان والاخنس بن شريق، عن أبى سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال " أما بعد أيها الناس فقدموا لانفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك
رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن أستطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
والسلام على رسول الله (1) ورحمة الله وبركاته ".
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: " إن الحمد لله أحمده
__________
(1) ابن هشام: والسلام عليكم وعلى رسول الله.
(*)

وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله [ وحده لا شريك له ] (1)، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الاسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم [ ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم (1) ] فإنه من [ كل ما يخلق الله ] (1) يختار الله ويصطفى، فقد سماه خيرته من الاعمال وخيرته من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتى الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
وهذه الطريق أيضا مرسلة، إلا أنها مقوية لما قبلها، وإن اختلفت الالفاظ.
فصل في بناء مسجده الشريف في مدة مقامه عليه السلام بدار أبى أيوب رضى الله عنه وقد اختلف في مدة مقامه بها، فقال الواقدي: سبعة أشهر، وقال غيره أقل من
شهر.
والله أعلم.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال سمعت أبى يحدث فقال حدثنا أبوالتياح يزيد بن حميد الضبى، حدثنا أنس بن مالك، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في حى يقال لهم بنو عمرو بن
__________
(1) من ابن هشام.
(*)

عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملا بنى النجار فجاءوا متقلدى سيوفهم قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملا بنى النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبى أيوب.
قال: فكان يصلى حيث أدركته الصلاة، ويصلى في مرابض الغنم.
قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملا بنى النجار فجاءوا فقال: يا بنى النجار ثامنونى بحائطكم هذا.
فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عزوجل.
قال: فكان فيه ما أقول لكم: كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب (1)، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع.
قال: فصفوا النحل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وثم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقول: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الانصار والمهاجرة.
وقد رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم من حديث أبى عبد الصمد وعبد الوارث ابن سعيد.
وقد تقدم في صحيح البخاري عن الزهري، عن عروة، أن المسجد الذى كان مربدا - وهو بيدر التمر - ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما سهل وسهيل، فساومهما
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله.
فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا.
قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو ينقل معهم التراب:
__________
(1) الخرب: جمع خربة ككلمة وكلم.
(*)

هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر ويقول: لا هم إن الاجر أجر الآخره * فارحم الانصار والمهاجره.
وذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بياضة قال: وقيل ابتاعه منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وذكر محمد بن إسحاق أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو.
فالله أعلم.
* * * وروى البيهقى من طريق أبى بكر بن أبى الدنيا، حدثنا الحسن بن حماد الضبى، حدثنا عبدالرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: ابنوه عريشا كعريش موسى.
فقلت للحسن: ما عريش موسى ؟ قال: إذا رفع يديه بلغ العريش، يعنى السقف.
وهذا مرسل وروى من حديث حماد بن سلمة، عن أبى سنان، عن يعلى بن شداد بن أوس، عن عبادة، أن الانصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلى تحت هذا الجريد ؟ فقال: ما بى رغبة عن أخى موسى، عريش كعريش موسى.
وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبدالله بن موسى، عن سنان، عن فراس، عن عطية العوفى، عن ابن عمر، أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت

سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبى بكر، فبناها بجذوع وبجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فما زالت ثابتة حتى الآن.
وهذا غريب.
وقد قال أبو داود أيضا: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنى يعقوب بن إبراهيم، حدثنى أبى، عن أبى صالح، حدثنا نافع، عن ابن عمر، أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النحل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، وغيره عثمان رضى الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة (1) وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج (2).
وهكذا رواه البخاري عن على بن المدينى، عن يعقوب بن إبراهيم به.
قلت: زاده عثمان بن عفان رضى الله عنه متأولا قوله صلى الله عليه وسلم: " من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ".
ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ولم يغيروه بعده، فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد، فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشد الرحال إليه.
وقد زيد في زمان الوليد بن عبدالملك بانى جامع دمشق، زاده له بأمره عمر بن
__________
(1) القصة: الجص.
(2) في ا: بالسلاح وهو تصحيف.
والساج: اسم لنوع من الشجر.
(*) (20 - السيرة 2)

عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة، وأدخل الحجرة النبوية فيه.
ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم.
* * * قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والانصار ودأبوا فيه، فقال قائل من المسلمين: لئن قعدنا والنبى يعمل * لذاك منا العمل المضلل وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون: لا عيش إلا عيش الآخره * اللهم ارحم الانصار والمهاجره فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والانصار ".
قال: فدخل عمار بن ياسر، وقد أثقلوه باللبن فقال: يا رسول الله قتلوني يحملون على ما لا يحملون.
قالت: أم سلمة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده، وكان رجلا جعدا، وهو يقول: " ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية ".
وهذا منقطع من هذا الوجه، بل هو معضل بين محمد بن إسحاق وبين أم سلمة،
وقد وصله مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن خالد الحذاء، عن سعيد والحسن، يعنى ابني أبى الحسن البصري، عن أمهما خيرة مولاة أم سلمة، عن أم سلمة قالت:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقتل عمارا الفئة الباغية " ورواه من حديث ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار، وهو ينقل الحجارة: " ويح لك يا ابن سمية ! تقتلك الفئة الباغية ".
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الحسن يحدث عن أمه، عن أم سلمة، قالت: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد، جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحمل كل واحد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره وقال: " ابن سمية، للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية ".
وهذا إسناد على شرط الصحيحين.
وقد أورد البيهقى وغيره من طريق جماعة، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين.
فرآه النبي صلى الله عليه سلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: " ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " قال يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
لكن روى هذا الحديث الامام البخاري عن مسدد، عن عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، وعن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب الثقفى، عن خالد الحذاء به، إلا أنه لم يذكر قوله: " تقتلك الفئة الباغية ".
قال البيهقى: وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم من طريق، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد [ قال: أخبرني من هو خير منى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين
جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: " بؤس ابن سمية ! تقتله فئة باغية ".

وقد رواه مسلم أيضا من حديث شعبة، عن أبى مسلم، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد (1) ] قال: حدثنى من هو خير منى، أبو قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر " بؤسا لك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية ".
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا وهيب، عن داود بن أبى هند، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق كان الناس يحملون لبنة لبنة، وعمار ناقه من وجع كان به، فجعل يحمل لبنتين لبنتين.
قال أبو سعيد: فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفض التراب عن رأسه ويقول: " ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ".
قال البيهقى: فقد فرق بين ما سمعه بنفسه وما سمعه من أصحابه.
قال: ويشبه أن يكون قوله: " الخندق " وهما، أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد وفى حفر الخندق.
والله أعلم.
قلت: حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له، والظاهر أنه اشتبه على الناقل.
والله أعلم.
وهذا الحديث من دلائل النبوة، حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية.
وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين، وعمار مع على وأهل العراق.
وقد كان على أحق بالامر من معاوية، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم، كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لانهم وإن كانوا بغاة في نفس الامر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيبا، بل
المصيب له أجران والمخطئ له أجر.
__________
(1) سقط من ا.
(*)

ومن زاد في هذا الحديث بعد: " تقتلك الفئة الباغية ": " لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة " فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم.
وأما قوله: " يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالامر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدى إلى افتراق الكلمة واختلاف الامة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه.
والله أعلم.
والمقصود ها هنا إنما هو قصة بناء المسجد النبوى، على بانيه أفضل الصلاة والتسليم.
* * * وقد قال الحافظ البيهقى في الدلائل: حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا عبيد بن شريك، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبدالله بن المبارك، أخبرنا حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء ولاة الامر بعدى ".
ثم رواه من حديث يحيى بن عبدالحميد الحمانى، عن حشرج عن سعيد، عن سفينة.
قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجرا.
ثم قال " ليضع أبو بكر حجرا إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبى بكر، ثم
ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء الخلفاء من بعدى ".

وهذا الحديث بهذا السياق غريب جدا.
والمعروف ما رواه الامام أحمد، عن أبى النضر، عن حشرج بن نباتة العبسى، وعن بهز وزيد بن الحباب وعبد الصمد وحماد بن سلمة، كلاهما عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال سمعت رسول الله يقول: " الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون من بعد ذلك الملك " ثم قال سفينة: أمسك، خلافة أبى بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، وخلافة على ست سنين.
هذا لفظ أحمد.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق، عن سعيد بن جمهان، وقال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديثه ولفظه " الخلافة بعدى ثلاثون سنة ثم يكون ملكا عضوضا " وذكر بقيته.
* * * قلت: ولم يكن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بنى منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلى، فلما اتخذ له عليه السلام المنبر، كما سيأتي بيانه في موضعه، وعدل إليه ليخطب عليه، فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحن حنين النوق العشار، لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده، فرجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذى يسكت، كما سيأتي تفصيل ذلك من طرق عن سهل بن سعد الساعدي وجابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وأم سلمة رضى الله عنهم.
وما أحسن ما قال الحسن البصري بعد ما روى هذا الحديث، عن أنس بن مالك: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه ؟ !

تنبيه على فضل هذا المسجد الشريف والمحل المنيف قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن أنيس بن أبى يحيى، حدثنى أبى، قال: سمعت أبا سعيد الخدرى قال: اختلف رجلان، رجل من بنى خدرة ورجل من بنى عمرو بن عوف، في المسجد الذى أسس على التقوى، فقال الخدرى: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال العمرى: هو مسجد قباء.
فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: " هو هذا المسجد " لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: " في ذلك خير كثير " يعنى مسجد قباء.
ورواه الترمذي عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبى يحيى الاسلمي به وقال: حسن صحيح.
وروى الامام أحمد، عن إسحاق بن عيسى، عن الليث بن سعد والترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن الليث عن عمران بن أبى أنس، عن عبدالرحمن بن أبى سعيد، عن أبيه، قال: تمارى رجلان في المسجد الذى أسس على التقوى، وذكر نحو ما تقدم.
وفى صحيح مسلم من حديث حميد الخراط، عن أبى سلمة بن عبدالرحمن أنه سأل عبدالرحمن ابن أبى سعيد، كيف سمعت أباك في المسجد الذى أسس على التقوى ؟ قال أبى: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن المسجد الذى أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الارض ثم قال: " هو مسجدكم هذا ".
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التميمي، عن عمران بن أبى أنس، عن سهل بن سعد، قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد الذى أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الآخر: هو مسجد قباء.
فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال: " هو مسجدي هذا ".

وقال الامام أحمد حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبدالله بن عامر الاسلمي، عن عمر لن بن أبى أنس، عن سهل بن سعد، عن أبى بن كعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسجد الذى أسس على التقوى مسجدي هذا ".
فهذه طرق متعددة لعلها تقرب من إفادة القطع بأنه مسجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا ذهب عمر، وابنه عبدالله، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير.
وقال آخرون: لا منافاة بين نزول الآية في مسجد قباء كما تقدم بيانه، وبين هذه الاحاديث، لان هذا المسجد أولى بهذه الصفة من ذلك، لان هذا أحد المساجد الثلاثة التى تشد الرحال إليها، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس ".
وفى صحيح مسلم عن أبى سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " وذكرها.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ".
وفى مسند أحمد بإسناد حسن زياد حسنة وهى قوله " فإن ذلك أفضل ".
وفى الصحيحين من حديث يحيى القطان، عن حبيب، عن حفص بن عاصم، عن
أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة، ومنبرى على حوضى ".

والاحاديث في فضائل هذا المسجد الشريف كثيرة جدا وسنوردها في كتاب المناسك من كتاب الاحكام الكبير إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقد ذهب الامام مالك وأصحابه إلى أن مسجد المدينة أفضل من المسجد الحرام، لان ذاك بناه إبراهيم، وهذا بناه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه السلام.
وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ذلك، وقرروا أن المسجد الحرام أفضل، لانه في بلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض، وحرمه إبراهيم الخليل عليه السلام، ومحمد خاتم المرسلين، فاجتمع فيه من الصفات ما ليس في غيره، وبسط هذه المسألة موضع آخر وبالله المستعان.
فصل وبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حول مسجده الشريف حجرا لتكون مساكن له ولاهله، وكانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء قال الحسن بن أبى الحسن البصري، وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة، لقد كنت أنال أطول سقف في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم بيدى.
قلت: إلا أنه قد كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا.
رحمه الله.
وقال السهيلي في الروض: كانت مساكنه عليه السلام مبنية من جريد عليه طين، بعضها من حجارة مرضومة، وسقوفها كلها من جريد.
وقد حكى عن الحسن البصري ما تقدم.
وكانت حجره من شعر مربوطة بخشب من عرعر.

قال: وفى تاريخ البخاري أن بابه عليه السلام كان يقرع بالاظافير، فدل على أنه لم يكن لابوابه حلق.
قال: وقد أضيفت الحجر كلها بعد موت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد.
* * * قال الواقدي وابن جرير وغيرهما: ولما رجع عبدالله بن أريقط الديلى إلى مكة بعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر زيد بن حارثة وأبا رافع موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوا بأهاليهم من مكة، وبعثا معهم بحملين وخمسمائة درهم ليشتروا بها إبلا من قديد، فذهبوا فجاءوا ببنتى النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وأم كلثوم وزوجتيه سودة وعائشة، وأمها أم رومان، وأهل النبي صلى الله عليه وسلم وآل أبى بكر صحبة عبدالله بن أبى بكر، وقد شرد بعائشة وأمها أم رومان الجمل في أثناء الطريق، فجعلت أم رومان تقول: وا عروساه، وا بنتاه.
قالت عائشة: فسمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه فوقف بإذن الله وسلمنا الله عزوجل.
فتقدموا فنزلوا بالسنح، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال بعد ثمانية أشهر كما سيأتي.
وقدمت معهم أسماء بنت أبى بكر امرأة الزبير بن العوام وهى حامل متم بعبد الله بن الزبير كما سيأتي بيانه في موضعه من آخر هذه السنة.

فصل فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة رضى الله عنهم أجمعين وقد سلم الرسول منها بحول الله وقوته ودعا ربه
فأزاحها الله عن مدينته قال البخاري: حدثنا عبدالله بن وهب بن يوسف، حدثنا مالك بن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة * بواد وحولي إذخر وجليل (1) وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لى شامة وطفيل قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة (2) ".
ورواه مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة عن هشام مختصرا.
وفى رواية البخاري له عن أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، فذكره وزاد بعد شعر بلال.
ثم يقول: اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء.
__________
(1) الاذخر: الحشيش الاخضر، أو حشيش طيب الرائحة.
والجليل: نبت ضعيف.
(2) الجحفة: قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة.
وكان بها حينئذ يهود.
(*)

فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعها وفى مدها، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة ".
قالت: وقدمنا المدينة وهى أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجرى نجلا، يعنى
ماء آجنا.
وقال زياد عن محمد بن إسحاق: حدثنى هشام بن عروة وعمر بن عبدالله بن عروة ابن الزبير، عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبى بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أدعوهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبى بكر فقلت: كيف تجدك يا أبت ؟ فقال: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله قالت: فقلت: والله ما يدرى أبى ما يقول.
قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر ؟ قال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه * كالثور يحمى جلده بروقه قال: فقلت: والله ما يدرى ما يقول، قالت: وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لى شامة وطفيل

قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم وقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى فقال: " اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة " ومهيعة هي الجحفة.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى بكر بن إسحاق بن يسار، عن عبدالله بن عروة، عن عروة، عن عائشة، قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر وبلال، فاستأذنت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن لها، فقالت لابي بكر: كيف تجدك ؟ فقال: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله وسألت عامرا فقال: إنى وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه وسألت بلالا فقال: يا ليت شعرى هل أبيتن ليلة * بفخ وحولي إذخر وجليل فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فنظر إلى السماء وقال: " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها وفى مدها، وانقل وباءها إلى مهيعة " وهى الجحفة فيما زعموا.
وكذا رواه النسائي عن قتيبة، عن الليث به.
ورواه الامام أحمد، من طريق عبدالرحمن ابن الحارث عنها، مثله.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو، قالا: حدثنا

أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهى أوبأ أرض الله، وواديها بطحان نجل.
قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأشرف عليها الانسان قيل له أن ينهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي.
وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة: لعمري لئن عبرت من خيفة الردى * نهيق الحمار إننى لجزوع وروى البخاري من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة، وهى الجحفة.
فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة، وهى الجحفة ".
هذا لفظ البخاري ولم يخرجه مسلم ورواه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن عقبة.
وقد روى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن عائشة، قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهى وبيئة، فذكر الحديث بطوله إلى قوله: " وانقل حماها إلى الجحفة ".
قال هشام: فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.
ورواه اليهقى في دلائل النبوة.
وقال يونس عن ابن إسحاق: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهى وبيئة، فأصاب أصحابه بها بلاء وسقم حتى أجهدهم ذلك، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأصحابه صبيحة رابعة، يعنى مكة، عام عمرة القضاء، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
قلت: وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذى القعدة، فإما أن يكون تأخر دعاؤه عليه السلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك، أو أنه رفع وبقى آثار منه قليل، أو أنهم
بقوا في خمار ما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة.
والله أعلم.
وقال زياد عن ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدو مرضا، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا وما يصلون إلا وهم قعود.
قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك فقال لهم: " اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم، التماس الفضل ! فصل في عقده عليه السلام الالفة بين المهاجرين والانصار بالكتاب الذى أمر به فكتب بينهم والمؤاخاة التى أمرهم بها وقررهم عليها، وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة وكان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.
وكان نزولهم بالحجاز قبل الانصار أيام بختنصر حين دوخ بلاد المقدس.
فيما ذكره الطبري.

ثم لما كان سيل العرم وتفرقت شذر مذر، نزل الاوس والخزرج المدينة عند اليهود، فحالفوهم وصاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الانبياء.
لكن من الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى والاسلام، وخذل أولئك لحسدهم وبغيهم واستكبارهم عن اتباع الحق.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عاصم الاحول، عن أنس بن مالك، قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار
في دار أنس بن مالك.
وقد رواه الامام أحمد أيضا والبخاري ومسلم وأبو داود من طرق متعددة، عن عاصم بن سليمان الاحول، عن أنس بن مالك، قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والانصار في دارى.
وقال الامام أحمد: حدثنا نصر بن باب، عن حجاج، هو ابن أرطاة، قال: وحدثنا سريج، حدثنا عباد، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والانصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والاصلاح بين المسلمين.
قال أحمد: وحدثنا سريج، حدثنا عباد، عن حجاج، عن الحكم، عن قاسم، عن ابن عباس مثله.
تفرد به الامام أحمد.
وفى صحيح مسلم عن جابر: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة.
وقال محمد بن إسحاق: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والانصار وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط

لهم: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد النبي الامي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم (1) يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسظ، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ثم ذكر كل بطن من بطون الانصار وأهل كل دار: بنى ساعدة، وبنى جشم، وبنى النجار، وبنى عمرو بن عوف، وبنى النبيت.
إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا (2) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء [ أ ] وعقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (3) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضعم موالى بعض دون الناس.
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.
وإن المؤمنين يبئ (4) بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين
__________
(1) ربعتهم: حالحم التى أتى الاسلام وهم عليها.
(2) قال ابن هشام: المفرح المثقل بالدين والكثير العيال.
قال الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدى أمانة * وتحمل أخرى أفرحتك الودائع (3) الدسيعة: العظيمة.
وفى الاصل.
دسيسة.
وهو تحريف.
(4) يبئ: يمنع.
(*) (21 - السيرة - 2)

المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولى المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه
صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شئ فإن مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (1) إلا نفسه وأهل بيته.
وإن ليهود بنى النجار وبنى الحارث وبنى ساعدة وبنى جشم وبنى الاوس وبنى ثعلبة وجفنة وبنى الشطيبة (2) مثل ما ليهود بنى عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، ولا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه [ فتك وأهل بيته ] (3) إلا من ظلم، وإن الله على أبر (4) هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها (5) لاهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى
__________
(1) يوتغ: يهلك (2) الاصل: الشطنة وهو تحريف، وما أثبته عن ابن هشام.
(3) من ابن هشام (4) الاصل: أثر.
وهو تحريف.
(5) الاصل: حرفها.
وما أثبته عن ابن هشام (*)

الله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه
فإنهم يصالحونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم.
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى ".
كذا أورده ابن إسحاق بنحوه.
وقد تكلم عليه أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب الغريب وغيره بما يطول.

فصل في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار ليرتفق المهاجرى بالانصارى كما قال تعالى: " والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " (1) وقال تعالى: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا " (2).
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس " ولكل جعلنا موالى " قال: ورثة " والذين عاقدت أيمانكم " كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرى الانصار دون ذوى رحمه للاخوة التى آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت " ولكل جعلنا موالى " نسخت ثم قال: " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من (3) النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
وقال الامام أحمد: قرئ على سفيان: سعمت عاصما عن أنس قال: حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاحرين والانصار في دارنا.
قال سفيان: كأنه يقول آخى.
* * * وقال محمد بن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والانصار، فقال: - فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل - " تأخوا في الله أخوين أخوين ".
__________
(1) سورة الحشر 9.
(2) سورة النساء 33 والقراء.
(3) البخاري: إلا النصر.
(*)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطلاق الكامل

 نسخة منقحة ليس فيها درافت بلوجر الملوث للمدونة ومذيلة بموضوع الافتداء كتاب الطلاق المُحْكَم   والكامل 2 .{XWW} 9. الاخير بونط 25. أ...